الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشاغُلُ بِفِعْلِ الْقُرَبِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيهِ،
ــ
الاعْتِكافِ. وإن شَرِب ما أسْكَرَه فَسَد اعْتِكافُهْ بخُرُوجه عن كَوْنِه مِن أهلِ المَسْجِدِ. ومتى أفْسَدَ اعْتِكافَه فلا كَفّارة عليه، إلَّا أَن يَكُونَ واجِبًا، وقد ذَكَرْناه.
1129 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ للمُعْتَكِفِ التَّشاغُلُ بفِعْلِ القُرَب
(1)، واجْتِناب ما لا يَعْنِيه) يُسْتَحَبُّ للمُعْتَكِف التَّشاغُلُ بالصلاةِ، وقِراءَةِ القُرْآنِ، وذِكرِ اللهِ تعالى، ونحْوِ ذلك مِن الطّاعاتِ المَحْضَةِ، ويَجْتَنِبُ ما لا يَعْنِيه مِن الأقْوالِ والأفْعالِ؛ لأنَّ مَن كَثُرَ كلامُه كَثُرَ سَقَطُه، وفى الحديثِ:«مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» (2). ويَجْتَنِبُ الجِدالَ والمِراءَ والسِّبابَ والفُحْشَ، فإنَّ ذلك مكرُوهٌ في غيرِ الاعْتِكافِ، ففيه أوْلَى، ولا يَبْطُلُ الاعْتِكافُ بشَئٍ مِن ذلك؛ لأنَّه لمّا لم يَبْطُلْ بمُباحِ الكلامِ لم يَبْطُلْ بمَحْظُوراتِه، وعَكْسُه الوَطْءُ، ولا بَأْسَ بالكَلامِ بمُحادَثَتِه،
(1) في م: «القربة» .
(2)
أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا سليمان بن عبد الجبار. . . .، من أبواب الزهد، عارضة الأحوذى 1/ 196، 197. وابن ماجه، في: باب كف اللسان في الفتنة، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1316. والإمام مالك، في: باب ما جاء في حسن الخلق، من كتاب حسن الخلق. الموطأ 2/ 903. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 201.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومُحادَثَةِ غيرِه، فإنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قالت: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُه لأزُورَه لَيْلًا، فحَدَّثْتُه، ثم قُمْتُ، فانْقَلَبْتُ، فقامَ معى ليَقْلِبَنى (1) - وكان مَسْكَنُها في دارِ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ - فمَرَّ رجلانِ مِن الأنْصارِ، فلمّا رَأيا النبىَّ صلى الله عليه وسلم أسْرَعا، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ» . فقالا: سُبْحانَ اللهِ يا رسولَ اللهِ! قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم، وإنِّى خَشِيتُ أن يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُما شَرًّا» . أو قال: «شَيْئًا» . مُتَّفَقٌ عليه (2). وقال علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه: أيُّما رجلٍ مُعْتَكِفٍ فلا يُسابَّ، ولا يَرْفُثْ في الحَدِيثِ، ويَأْمُرُ أهلَه بالحاجَةِ - أى وهوَ يَمْشِى - ولا يَجْلِسْ عندَهم. رَواه الإِمامُ أحمدُ (3).
فصل: ويَجْتَنِبُ المُعْتَكِفُ البَيْعَ والشِّراءَ إلَّا ما لا بُدَّ له منه، قال حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يَقُولُ: المُعْتَكِفُ لا يَبِيعُ ولا يَشْتَرِى إلَّا ما لا بُدَّ له منه، طَعامٌ أو نحوُ ذلك، فأمّا التِّجارَةُ والأخْذُ والعطاءُ، فلا يَجُوزُ. وقال الشافعىُّ: لا بَأْسَ أن يَبِيعَ ويَشْتَرِىَ ويَخِيطَ ويَتَحَدَّثَ، ما لم يَكُنْ مَأْثَمًا. ولَنا، ما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيهِ، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ
(1) أى: ليعيدنى إلى المنزل.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 620.
(3)
تقدم تخريجه في صفحة 610.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صلى الله عليه وسلم نهى عن البَيْعِ والشِّراءِ في المَسْجِدِ. رَواه التِّرْمِذِىُّ (1). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ورَأى عِمْرانُ القَصِيرُ (2) رجلًا يَبِيعُ في المَسْجِدِ، فقال: يا هذا، إنَّ هذا سُوقُ الآخِرَةِ، فإن أرَدْتَ البَيْعَ فاخْرُجْ إلى سُوقِ الدُّنْيا. وإذا مُنِع مِن البَيْعِ والشِّراءِ في غيرِ حالِ الاعتكافِ، ففيه أوْلَى. فأمّا الصَّنْعَةُ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه لا يَجُوزُ منها ما يَتكَسَّبُ به، لأنَّه (3) بمَنْزِلَةِ البَيْعِ والشِّراءِ. ويَجُوزُ ما يَعْمَلُه لنَفْسِه، كخِياطَةِ قَمِيصِه ونَحْوِه. وقد روَى المَرُّوذِىُّ، قال: سَألْتُ أبا عبدِ اللهِ عن المُعْتَكِفِ، تَرَى له أن يَخِيطَ؟ قال: لا يَنْبَغِى له أن يَعْتَكِفَ إذا كان يُرِيدُ أن يَفْعَلَ. وقال القاضى: لا تَجُوزُ الخِياطَةُ في المَسْجِدِ، سواء كان مُحْتاجًا إليها أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ ذلك مَعِيشَةٌ وتَشَغُّلٌ عن الاعْتِكافِ، فأشْبَهَ البَيْعَ والشِّراءَ فيه. قال شَيْخُنا (4): والأوْلَى أن يُباحَ له ما يَحْتاجُ إليه مِن ذلك، إذا كان يَسِيرًا، مثلَ أن يَنْشَقَّ قَمِيصُه فيَخِيطَه، أو يَنْحَلَّ شئٌ يَحْتاجُ إلى رَبْطِه فيَرْبِطَه؛ لأنَّ هذا يَسِير تَدْعُو الحاجَةُ إليه، فجَرَى مَجْرَى لُبْسِ قَمِيصِه وعِمامَتِه.
فصل: وليس الصَّمْتُ مِن شريعَةِ الإِسلامِ، وظاهرُ الأخبارِ
(1) تقدم تخريجه في 3/ 120. وهو في الترمذى 2/ 118. وليس 1/ 118 كما ورد هناك.
(2)
عمران بن مسلم البصرى، أبو بكر القصير، ثقة، رأى أنسا ولم يسمع منه، وروى عن التابعين. تهذيب التهذيب 8/ 137 - 139.
(3)
في م: «ولأنه» ، وانظر المغنى 4/ 479.
(4)
في: المغنى 4/ 479.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَحريمُه. قال قَيْس بنُ مسلمٍ (1): دَخَل أبو بَكْرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، على امرأةٍ مِن أحْمَسَ، يُقال لها: زينبُ، فرَآها لا تَتَكَلَّمُ، فقال: ما لها لا تَتَكَلَّمُ؟ قالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. فقال لها: تَكَلَّمِى، هذا لا يَحِلُّ، هذا مِن عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ. فتَكَلَّمَتْ. رَواه البخارِىُّ (2). وروَى أبو داودَ (3) بإسْنادِه عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: حَفِظْتُ عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» . ورُوِىَ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نَهَى عن صوْمِ الصَّمْتِ (4). فإن نَذَر ذلك لم يَلْزَمْه الوَفاءُ به. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ، وابنُ المُنْذِرِ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: بَيْنا النبىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إذا هو برجلٍ قائِمٍ، فَسَألَ عنه، فقالوا: أبو إسْرائِيلَ، نَذَر أن يَقُومَ في الشَّمْسِ ولا يَقْعُدَ، ولا يَسْتَظِلَّ، ولا يَتَكَلَّمَ، ويَصُومَ. فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَه» . رَواه البخارىُّ (5). ولأنَّه نَذَرَ فِعْلَ مَنْهِىٍّ عنه،
(1) كذا في م، المغنى. وفى البخارى أنه قيس بن أبى حازم. واسم أبى حازم حصين بن عوف. انظر تهذيب التهذيب 8/ 376.
(2)
في: باب أيام الجاهلية، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 5/ 52.
(3)
في: باب ما جاء متى ينقطع اليتم، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 104.
(4)
انظر ما يأتى في قصة أبى إسرائيل.
(5)
في: باب النذر فيما لا يملك وفى معصية، من كتاب الأيمان. صحيح البخارى 8/ 177. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في النذر في المعصية، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 208. وابن ماجه، في: باب من خلط في نذره طاعة بمعصية، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 690. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله، من كتاب النذور. الموطأ 2/ 475. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 168.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فلم يلْزَمْه، كنَذْرِ المُباشَرَةِ في المَسْجِدِ، وإن أرادَ فِعْلَه لم يَكُنْ له ذلك، سواءٌ نَذَرَه أو لم يَنْذُرْه. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: له فِعْلُه إذا كان أسْلَمَ. ولَنا، النَّهْىُ عنه، وظاهِرُه التَّحْرِيمُ، والأمْرُ بالكلامِ ومُقْتَضاهُ الوُجُوبُ، وقولُ أبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللهُ عنه: إنّ هذا لا يَحِلُّ، هذا مِن عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ. وهذا صَرِيحٌ، ولم يُخالِفْه أحَدٌ مِن الصَّحابَةِ فيما عَلِمْناه، واتِّباعُ ذلك أوْلَى.
فصل: ولا يَجُوزُ أن يَجْعَلَ القُرْآنَ بَدَلًا مِن الكلامِ؛ لأنَّه اسْتِعْمالٌ له في غيرِ ما هو له، أَشْبَهَ اسْتِعْمالَ المُصْحَفِ في التَّوَسُّدِ ونَحْوِه، وقد جاءَ: لا تُناظِرُوا بكتابِ الله (1). قيل: مَعْناه لا تَتَكَلَّمْ به عندَ الشئِ تَراه، كأنْ تَرَى رجلًا قد جاءَ في وَقْتِه، فتَقُول: و {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} (2). ونحوَه. ذَكَر أبو عُبَيْدٍ نَحْوَ هذا المَعْنَىَ.
(1) أورده أبو عبيد، في غريب الحديث 4/ 475، والزمخشرى، في الفائق 3/ 446. من كلام الزهرى.
(2)
سورة طه 40.