الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإِنْ نَذَرَ أيَّامًا أوْ لَيَالِىَ مُتَتَابِعَةً، لَزِمَهُ مَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ لَيْلٍ أو نَهَارٍ.
ــ
1121 - مسألة: (وإن نَذَرَ أيَّامًا أو لَيالِىَ مُتَتابِعَةً، لَزِمَه ما يَتَخَلَّلُها مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ)
متى شَرَط التَّتابُعَ في نَذْرِه، أو نَواه، دَخَل الليلُ (1) فيه، ويَلْزَمُه ما بينَ الأيّامِ مِن اللَّيالِى، وإن نَذَر اللَّيالِىَ لَزِمَه ما بينَها مِن الأيّامِ حَسْبُ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُه مِن اللَّيالِى بعَدَدِ الأيَّامِ إذا كان على وَجْهِ الجَمْعِ أو التَّثْنِيَةِ، يدخُلُ فيه مِثْلُه مِن اللَّيالِى، واللَّيالِى تَدْخُلُ معها الأيَّامُ، بدَلِيلِ قَوْلِه تعالى:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (2). وقال في مَوْضِع آخَرَ: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (3). ولَنا، أنَّ اليومَ اسمٌ لبَياضِ النَّهارِ، واللَّيْلَةَ اسْمٌ لسَوادِ اللَّيْلِ، والتَّثْنِيَةُ والجَمْعُ تَكْرارٌ للواحِدِ، وإنَّما تَدْخُلُ اللَّيالى تَبَعًا لوُجُوبِ التَّتابُعِ ضِمْنًا، وبهذا يحصُلُ ما بينَ الأيَّام خاصَّةً، فاكْتُفِىَ به. وأمّا
(1) في م: «الليالى» .
(2)
سورة مريم 10.
(3)
سورة آل عمران 41.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الآيَةُ، فإنَّ اللهَ تعالى نصَّ على الليلِ في موضعٍ، والنَّهارِ في مَوْضِعٍ، فصارَ مَنْصُوصًا عليهما. فعلى هذا إنْ نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، لَزِمَه يَوْمان ولَيْلَةٌ بينَهما، وإن نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُطْلَقًا، فكذلك عند القاضى. وكذلك لو نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَتَيْن، لَزِمَه اليَوْمُ الذى بَيْنَهُما عند القاضِى. وعند أبى الخَطّابِ لا يَلْزَمُه ما بينَهما، إلَّا بلَفْظٍ، أو بِنِيَّةٍ. ويَتَخَرَّجُ أنَّه إذا نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، أن لا تَلْزَمَه اللَّيْلَةُ التى بينَهما، كاللَّيْلَةِ التى قَبْلَهما، وكذلك إذا نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَتَيْن لا يَلْزَمُه اليومُ الذى بينَهما، كاليَوْمِ الذى قَبْلَهما. اخْتارَه الشَّيْخُ أبو حَكِيمٍ.
فصل: وإن نَذَر اعْتِكافَ يَوْمٍ، لَزِمَه أن يَدْخلَ مُعْتَكَفَه قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ويَخْرُجَ منه بعدَ غُرُوبِ الشَّمسِ. وقال مالِكٌ: يَدْخُلُ مُعْتَكَفَه قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ويَخْرُجُ منه بعدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِن لَيْلَةِ ذلك اليَوْمِ. كقَوْلِنا في الشَّهْرِ؛ لأنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهارَ، بدَلِيلِ ما لو كان مُتَتابِعًا. ولنا، أنَّ اللَّيْلَةَ ليست مِن اليَوْمِ، وهى مِن الشَّهْرِ، قال الخَلِيلُ: اليَوْمُ اسمٌ لما بينَ طُلُوعِ الفَجْرِ وغُرُوبِ الشَّمْسِ. وإنَّما دَخَل الليْلُ في المُتَتابِعِ ضِمْنًا، ولَهذا خَصصْناه بما بينَ الأيّامِ. وإن نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَةٍ، لَزِمَه دُخولُ مُعْتَكَفِه قبلَ غُروبِ الشَّمْسِ، ويَخْرُجُ منه بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ، وليس له تَفْرِيقُ الاعْتِكافِ. وظاهِرُ كلامِ الشافعىِّ، جَوازُ التَّفْرِيقِ قِياسًا على الشَّهْرِ. ولنا، أنَّ إطْلاقَ اليَوْمِ يُفْهَمُ منه التَّتابُعُ، فلَزِمَه، كما لو قال: مُتَتابِعًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفارَقَ الشَّهْرَ، فإنَّه اسْمٌ لما بينَ هِلالَيْن، واسْمٌ لثَلاِثين يَوْمًا، واليَوْمُ لا يَقَعُ في الظّاهِرِ إلَّا على ما ذَكَرْنا. وإن قال في وَسَطِ النَّهارِ: للهِ عَلَىَّ أن أعْتَكِفَ يَوْمًا مِن وَقْتِى هذا. لَزِمَه الاعْتِكافُ مِن ذلك الوَقْتِ إلى مثْلِه، ويدخلُ فيه اللَّيْلُ؛ لأَنَّه في خلالِ نَذْرِه، فصارَ كما لو نَذَر يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، وإنَّما لَزِمَه بَعْضُ يَوْمَيْن لتَعْيِينِه ذلك بنَذْرِه، فعَلِمْنا أنَّه أرادَ ذلك، ولم يُرِد يومًا صَحِيحًا.
فصل: وإن نَذَر اعْتِكافًا مُطْلَقًا، لَزِمَه ما يُسَمَّى به مُعْتَكِفًا، ولو ساعَةً مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ، إلَّا على قَوْلِنا بوُجُوبِ الصَّوْمِ في الاعْتِكافِ، فيَلْزَمُه يَوْمٌ كامِلٌ، فأمّا اللَّحْظَةُ، وما لا يُسَمَّى به مُعْتَكِفًا، فلا يُجْزِئُه على الرِّوايَتَيْن جَمِيعًا.
فصل: إذا نَذَر اعْتِكافَ يَوْمِ يَقْدَمُ فلانٌ، صَحَّ نَذْره، فإنَّ ذلك مُمْكِنٌ، فإن قَدِمَ في بَعْضِ اِلنَّهارِ، لَزِمَه اعْتِكافُ الباقِى منه، ولم يَلْزَمْه قَضاءُ ما فات، لأنَّه فات قبلَ شرْطِ الوُجُوبِ فلم يَجِبْ، كما لو نَذَر اعْتِكافَ زَمَنٍ ماضٍ، لكِنْ إن قُلْنا: شَرْطُ صِحَّةِ الاعْتِكافِ الصَّوْمُ. لَزِمَه قَضاءُ يَوْمٍ كامِلٍ، لأنَّه لا يُمْكِنُه أن يَأتِىَ بالاعْتِكافِ في الصَّوْمِ فيما بَقِىَ مِن النَّهارِ، ولا قَضاؤُه مُمَيَّزًا ممّا قبله، فَلَزِمَه يَوْمٌ كامِلٌ ضَرُورَةً، كما لو نَذَر صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلانٌ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئَه اعْتِكافُ ما بَقِىَ منه إذا كان
فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَالطَّهَارَةِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالنَّفِيرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَالشَّهَادَةِ الْوَاجِبَةِ، وَالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةٍ، أوْ مَرَض، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَنَحْوِهِ.
ــ
صائِمًا؛ لأنَّه قد وُجِد اعْتِكافٌ مع الصَّوْمِ. وإن قدِم لَيْلًا لم يَلْزَمْه شئٌ؛ لأنَّ ما الْتَزَمَه بالنَّذْرِ لم يُوجَدْ، فإنْ كان للنَّاذِرِ عُذْرٌ يَمْنَعُه الاعْتِكافَ عند قدُومِ فلانٍ؛ مِن حَبْسٍ أو مَرَضٍ، [قَضَى وكَفَّرَ](1)، لِفَواتِ النَّذْرِ في وَقْتِه، ويَقْضِى بَقِيَّةَ اليَوْمِ فقط؛ لأنَّه الذى كان يَلْزَمُ في الأداءِ، على الروايَةِ المنصورةِ، وفى الأُخْرَى يَقْضِى يَوْمًا كامِلًا، بناءً على اشْتِراطِ الصَّوْمِ في الاعْتِكافِ.
فصل: قال الشَّيْخُ، رحمه الله:(ولا يَجُوزُ للمُعْتَكِفِ الخُرُوجُ إلّا لما لا بدَّ له منه؛ كحاجَةِ الإِنْسانِ، والطَّهارَةِ، والجُمُعَةِ، والنفِيرِ المُتَعَيِّنِ، والشَّهادَةِ الواجِبَةِ، والخَوْفِ مِن فِتْنَةٍ، أو مَرَضٍ، والحَيْضِ، والنَّفاسِ، وعِدَّةِ الوَفاةِ، ونَحْوِه) وجُمْلَتُه، أنَّه ليس للمُعْتَكِفِ الخُرُوجُ
(1) في م: «قضى أو كفر» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِن مُعْتَكَفِه، إلَّا لما لا بدَّ منه، قالت عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها وعن أبِيها: السُّنَّةُ للمُعْتَكِفِ أن لا يَخْرُجَ إلَّا لما لا بدَّ منه. رَواه أبو داود (1). وقالت أيْضًا: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا اعْتَكَفَ يُدْنِى إلىَّ رَأسَه فأُرَجِّلُه، وكان لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلَاّ لحاجةِ الإِنسانِ. مُتَّفَقٌ عليه (2) ولا خِلافَ في أنَّ له الخُرُوجَ لما لا بدَّ منه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ للمُعْتَكِفِ أن يَخْرُجَ مِن مُعْتَكَفِه للغائِطِ والبَوْلِ. ولأنَّ هذا لا يُمْكِنُ فِعْلُه في المَسْجِدِ، ولو بَطَل الاعْتِكافُ بالخُروجِ إليه لم يَصِحَّ لأحَدٍ اعْتِكافٌ، ولأنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَعْتَكِفُ، وقد عَلِمْنا أنَّه كان يَخْرُجُ لقَضاءِ حاجَتِه، والمُرادُ بحاجَةِ الإِنْسانِ البَوْلُ والغائِطُ، كَنَى بذلك عنهما؛ لأنَّ كل إنْسانٍ يحْتاجُ إلى فِعْلِهِما. وفى مَعْناه الحاجَةُ إلى المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ، إذا لم يَكُنْ له مَن يَأْتِيه به، فله الخُرُوجُ إليه عندَ الحاجَةِ إليه، وإنْ بَغَتَه القَىْءُ، فله أن يَخْرُجَ ليَتَقَيَّأَ خارِجَ المَسْجِد، وكُلُّ ما لا بُدَّ له منه، ولا يُمْكِنُ فِعْلُه في المَسْجِدِ، فله الخُرُوجُ إليه، ولا يَفْسُدُ اعْتِكافُه وهو عليه، ما
(1) تقدم تخريجه في صفحة 577.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 576.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لم يُطِلْ. وكذلك له الخُروجُ إلى ما أوْجَبَه اللهُ تعالى عليه؛ مثلَ مَن يَعْتَكِفُ في مَسْجِدٍ لا جُمُعَةَ فيه، فيَحْتاجُ إلى الخُرُوجِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، ولا يَبْطُلُ اعْتِكافُه به. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وقال الشافعىُّ في مَن نَذَر اعْتِكافًا متَتابِعًا، فخَرَجَ منه لصلاةِ الجُمُعَةِ: بَطَل اعْتِكافُه، وعليه الاسْتِئْنافُ؛ لأنَّه أمْكَنَه فَرْضُه بحيث لا يَخْرُجُ منه، فبَطَلَ بالخُرُوجِ، كالمُكَفِّرٍ إذا ابْتَدَأ صَوْمَ الشَّهْرَيْن المُتَتابِعَيْن في شعبانَ، أو ذِى الحِجَّةِ. ولَنا، أنَّه خرَج لواجِبٍ، فلم يَبْطُلِ اعْتِكافُه، كالمُعْتَدَّةِ تَخْرُجُ لقَضاءِ العِدَّةِ، وكالخارِجِ لإِنْقاذِ غَرِيقٍ، وإطْفاء حَرِيقٍ، وأداءِ شَهادَةٍ تعَيَّنَتْ عليه، ولأنَّه إذا نَذَر أيَامًا فيها جُمُعَةٌ، فكأنَّه اسْتَثْنَى الجُمُعَةَ بلَفْظِه، ثم يَبْطُلُ بما إذا نَذَرَتِ المرأةُ أيَّامًا فيها عادَةُ حَيْضِها، فإنَّه يَصِحُّ مع إمْكانِ فَرْضِها في غيرِها، والأصْلُ مَمْنُوعٌ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا خَرَج لواجِبٍ، فهو على اعْتِكافِه ما لم يُطِلْ؛ لأنَّه خُرُوجٌ لا بُدّ منه، أشْبَهَ الخُرُوجَ لحاجَةِ الإنْسانِ. فإن كان خُرُوجُه لصلاةِ الجُمُعَةِ فله أن يتَعَجَّلَ. قال الإِمامُ أحمدُ: أرْجُو أن يكونَ له؛ لأنَّه خرُوجٌ جائِزٌ، فجازَ تعْجيلُه، كالخرُوجِ لِحاجَةِ الإَنسانِ. فإذا صَلَّى الجُمُعَة، فأحَبَّ أن يَعْتَكِفَ في الجامِعِ، فله ذلك؛ لأنه مَحَلٌّ للاعْتِكافِ، والمَكانُ لا يَتَعَيَّنُ للاعْتِكافِ بتَعْيِينِه، فمع عَدَمِ ذلك أوْلَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن أحَبَّ الرُّجُوعَ إلى مُعْتَكَفِه، فله ذلك، كما لو خَرَج إلى غيرِ الجُمُعَةِ. قال بعضُ أصْحابِنا: يُسْتَحَبُّ له الإِسْراعُ إلى مُعتَكَفِه. وقال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: يَرْكَعُ، يَعْنِى المُعْتَكِفَ، يَوْمَ الجُمُعَة بعدَ الصلاةِ في المَسْجِدِ؟ قال: نعم، بقَدْرِ ما كان يَرْكَعُ. قال شَيْخُنَا (1)، رحمه الله: ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الخِيَرَةُ إليه في تَعْجِيلِ الرُّجُوعِ وتَأْخِيرِه؛ لأنَّه في مكانٍ يَصْلُحُ للاعْتِكافِ، فأشْبَهَ ما لو نَوَى الاعْتِكافَ فيه. فأمّا إن خَرَج ابْتِداءً إلى مَسْجِدٍ آخَرَ، أو إلى الجامِعِ مِن غيرِ حاجَةٍ، أو كان المسجدُ أبْعَدَ مِن مَوْضِعِ حاجَتِه فمَضَى إليه، لم يَجُزْ له ذلك؛ لأنَّه خُرُوجٌ لغيرِ حاجَةٍ، أشْبَهَ ما لو خَرَج لغيرِ المَسْجِدِ، فإن كان المَسْجِدانِ مُتَلاصِقيْن، يَخْرُجُ مِن أحَدِهما فيَصِيرُ في الآخَرِ، فله الانْتِقالُ مِن أحَدِهما إلى الآخَرِ؛ لأنَّهما كمسجدٍ واحِدٍ، يَنْتَقِلُ مِن إحْدَى زاوِيَتَيْه إلى الأُخْرَى. وإن كان يَمْشِى بينَهما في غيرِهما، لم يَجُزْ له الخُرُوجُ وإن قرُبَ؛ لأَنَّه خُرُوجٌ مِن المسْجِدِ لغيرِ حاجَةٍ.
(1) في: المغنى 4/ 467.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإذا خَرَج لما لا بُدَّ منه، فليس عليه أن يَتَعَجَّلَ في مَشْيِه، لكن يَمْشِى على حَسَبِ عادَتِه؛ لأنَّ عليه مَشَقَّةً في إلْزامِه غيرَ ذلك، فليس له الإِقامَةُ بعد قَضاءِ حاجَتِه لأكْلٍ ولا لغيرِه. وقال ابنُ حامِدٍ: يجوزُ أن يَأْكُلَ اليَسِيرَ في بَيْتِه، كاللُّقْمَةِ والثَّنْتَيْن، ولا يَأْكُلُ جَمِيعَ أكْلِه. وقال القاضى: يَتَوَجَّهُ أنَّ له الأكْلَ في بَيْتِه، والخُرُوجَ إليه ابْتِداءً؛ لأنَّ الأكْلَ في المَسْجِدِ دَناءَةٌ، وقد يُخْفِى جِنْسَ قُوتِه عن النّاسِ، وقد يكونُ في المَسْجِدِ غيرُه فيَسْتَحِى منه أن يَأْكُلَ دُونَه، وإنْ أطْعَمَه لم يَكْفِهِما. ولَنا، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلّا لحاجَةِ الإِنْسانِ. وهذا كِنايَةٌ عن الحَدَثِ، ولأنَّه خُرُوجٌ لما له منه بُدٌّ، ولُبْثٌ في غيرِ مُعْتَكَفِه لما له منه بُدٌّ، فأبْطَلَ الاعْتِكَافَ، كمُحادَثَةِ أهلِه، وما ذَكَرَه القاضِى ليس بعُذْرٍ يُبيحُ الخُرُوجَ ولا الإِقامَةَ، ولو ساغ ذلك لساغ الخُرُوجُ للنَّوْمِ وأشْباهِه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإنْ خَرَجَ لحاجَةِ الإِنْسانِ، وبقُرْبِ المَسْجِدِ سِقايَةٌ أقْرَبُ مِن مَنْزِلِه لا يَحْتَشِمُ مِن دُخُولِها، ويُمْكِنُه التنَّظُّفُ فيها، لم يكُنْ له المُضِىُّ إلى مَنْزِلِه؛ لأنَّ له مِن ذلك بُدًّا. وإن كان يَحْتَشِمُ مِن دُخُولِها، أو فيه نَقِيصَةٌ عليه، أو مُخالَفَةٌ لعادَتِه، أو لا يُمْكِنُه التَّنَظُّفُ فيها، فله المُضِىُّ إلى مَنْزِلِه، لما عليه مِن المَشَقَّةِ في تَرْكِ المُرُوءَةِ. وكذلك إن كان لَه مَنْزِلانِ، أحَدُهما أقْرَبُ مِن الآخَرِ، يُمْكِنُه الوُضُوءُ في الأقْرَبِ بلا ضَرَرٍ، فليس له قَصْدُ الأبعَدِ. وإن بَذَل له صَدِيقُه أو غيرُه الوَضُوءَ في مَنْزِلِه القَرِيبِ، لم يَلْزَمْه؛ لِما عليه مِن المَشَقَّةِ بتَرْكِ المُرُوءَةِ والاحْتِشامِ مِن صاحِبِه. قال المَرُّوذِىُّ: سَألْتُ أبا عبدِ الله عِن الاعْتِكافِ في المَسْجِدِ الكَبِيرِ، أعْجَبُ إليك أو مَسْجِدِ الحَىِّ؟ قال: المَسْجِدُ الكَبِيرُ. وأرْخَص لي أن أعْتَكِفَ في غيرِه. قلت: فَأيْنَ تَرَى أن أعْتَكِفَ، في هذا الجانِبِ، أو في ذلك الجانِبِ؟ قال: في ذاك الجانِبِ، هو أصْلَحُ مِن أجْلِ السِّقايَةِ. قلتُ: فمَن اعْتَكَفَ في هذا الجانِبِ تَرَى أن يَخْرُجَ إلى الشَّطِّ يَتَهَيّأُ؟ قال: إذا كان له حاجَةٌ لا بدَّ له مِن ذلك. قلتُ: يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ في المَسْجِدِ؟ قال: لا يُعْجِبُنِى أن يَتَوَضَّأَ في المَسْجِدِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإذا احْتِيجَ إليه في النَّفِيرِ، إذا عَمَّ، أو حَضَر عَدُوٌّ يَخافُون كَلَبَه (1)، واحْتِيجَ إلى خُرُوجِ المُعْتَكِفِ، لَزِمَه الخُرُوجُ؛ لأنَّه واجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، فكان عليه الخُرُوجُ إليه، كالخُرُوجِ إلى الجُمُعَةِ. وكذلك الشَّهادَةُ الواجِبَةُ عليه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خاف منها على نَفْسِه إذا قام في المَسْجِدِ، أو على مالِه، أو خاف نَهْبًا، أو حَرِيقًا، فله تَرْكُ الاعْتِكافِ، والخُرُوجُ؛ لأنَّ هذا ممَّا أباحَ اللهُ تعالى لأجْلِه تَرْكَ الواجِبِ بأصْلِ الشَّرْعِ، وهو الجُمُعَةُ، فأوْلَى أنْ يُباحَ لأجْلِه تَرْكُ ما أوْجَبَه على نَفْسِه، وكذلك إن تَعَذَّرَ عليه المُقامُ في المَسْجِدِ؛ لمَرَضٍ لا يُمْكِنُه المُقامُ معه، كالقِيامِ المُتدارَكِ، أو سَلَسِ البَوْلِ، أو الإِغْماءِ، أو لا يُمْكِنُه المُقامُ إلَّا بمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، مثلَ أن يحتاجَ إلى خِدْمَةٍ وفِراشٍ، فله الخُرُوجُ. وإن كان المَرَضُ خَفِيفًا؛ كالصُّداعِ، ووَجَعِ الضِّرْسِ ونَحْوِه، فليس له الخُرُوجُ، فإن خَرَج بَطَل اعْتِكافُه؛ لأنَّه خُرُوجٌ لما له منه بُدٌّ.
(1) كلبه: أذاه وشره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإن حاضَتِ المُعْتَكِفَةُ، أو نَفِسَتْ، وَجَب عليها الخُرُوجُ مِن المَسْجِدِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه حَدَثٌ يَمْنَعُ اللُّبْثَ في المَسْجِدِ. وعن عائِشَةَ، رَضِى اللهُ عنها، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ، وَلَا جُنُبٍ» . رَواه أبو داودَ (1). والنِّفاسُ في مَعْنَى الحَيْضِ، فثَبَتَ فيه حُكْمُه. قال الخِرَقِىُّ: تَخْرُجُ مِن المَسْجِدِ، وتَضْرِبُ خِباءً في الرَّحْبَةِ.
(1) تقدم تخريجه في 2/ 112.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هذا إن كان للمَسْجدِ رَحْبَةٌ، فإن لم يكُنْ رَجَعَتْ إلى بَيْتِها، فإذا طَهُرَتْ عادَتْ فأتَمَّتِ اعْتِكَافَها وقَضَتْ ما فاتَها، ولا كَفّارَةَ عليها؛ لأنَّه خُروجٌ مُعْتادٌ، أشْبَهَ الخُرُوجَ للجُمُعَةِ. وإن كان للمَسْجِدِ رَحْبَةٌ خارِجَة مِن المَسْجِدِ يُمْكِنُ ضَرْبُ خِبائِها فيه، ضَرَبَتْ خِباءَها فيه مُدَّةَ حَيْضِها. وهو قَوْلُ أبى قِلابةَ. وقال النَّخعِىُّ: تَضْرِبُ فُسْطاطَها في دارِها، فإذا طَهُرَتْ قَضَتْ تِلْكَ الأيَّامَ، وإن دَخَلَتْ بَيْتًا أو سَقْفًا اسْتَأْنَفَتْ. وقال الزُّهْرِىُّ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ: تَرْجِعُ إلى مَنْزِلِها؛ لأنَّه وَجَب عليها الخُرُوجُ مِن المَسْجِدِ، فلم تَلْزَمْها الإِقامَةُ في رَحْبَتِه، كالخارِجَةِ لعِدَّةٍ، أو خوْفِ فِتْنَةٍ. ووَجْهُ قَوْل الخِرَقِىِّ ما روَى المِقْدامُ بنُ شُرَيْحٍ، عن عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: كُنَّ المُعْتَكِفاتُ (1) إذا حِضْنَ أمَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بإخْراجهِنَّ مِن المَسْجِدِ، وأن يَضْرِبْنَ الأخْبِيَةَ في رَحْبَةِ المَسْجِدِ. رَواه أَبو حَفْصٍ (2) بإسْنادِه. وفارَقَ المُعْتَدَّةَ، فإنَّ خُرُوجَها
(1) في م: «معتكفات» .
(2)
لعله، يعنى ابن شاهين. انظر ترجمته في 3/ 432.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لتَعْتَدَّ في بَيْتِها وتُقِيمَ فيه، ولا يَحْصُلُ ذلك مع الكَوْنِ في الرَّحْبَةِ، وكذلك الخائِفَةُ مِن الفِتْنَةِ خُرُوجُها لِتَسْلَمَ منها، فلا تُقِيمُ في مَوْضِعٍ لا تَحْصُلُ السَّلامَةُ بالإِقامَةِ فيه. قال (1): والظّاهِرُ أنَّ إقامَتَها في الرَّحْبَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، وليس بواجِبٍ. وإن لم تُقِمْ في الرَّحْبَةِ رَجَعَتْ إلى مَنْزِلِها أو غيرِه، ولا شئَ عليها إلَّا القَضاءَ لأيامِ حَيْضِها، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا إلَّا قولَ إبراهيمَ، وهو تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه.
فصل: فأمّا الاسْتِحاضَةُ فلا تَمْنَعُ الاعْتِكافَ؛ لكَوْنِها لا تَمْنَعُ الصلاةَ، وقد قالت عائِشَةُ، رضى اللهُ عنها: اعْتَكَفَتْ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ مِن أزْواجِه مُسْتَحاضَةٌ، فكانت تَرَى الحُمْرَةَ والصُّفْرَةَ، ورُبَّما وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَها وهى تُصَلِّى. أخْرَجَه البخارىُّ (2). ويَجِبُ عليها أن تَتَحَفَّظَ وتَتَلَجَّمَ، لئَلَّا تُلَوِّثَ المَسْجدَ، فإن لم يُمْكِنْ صِيانَتُه منها خَرَجَتْ مِن المَسْجِدِ؛ لأنَّه عُذْرٌ وخُرُوجٌ لحِفْظِ المَسْجِدِ مِن نَجاسَتِها، أشْبَهَ الخُرُوجَ لقَضاءِ الحاجَةِ.
(1) أى الشيخ ابن قدامة. انظر المغنى 4/ 487، 488.
(2)
تقدم تخريجه في 2/ 457.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: والمُتَوَفَّى عنها يَجِبُ عليها أن تَخْرُجَ لقَضاءِ العِدَّةِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال رَبِيعَةُ، ومالكٌ، وابنُ المُنْذِرِ: تَمْضِى في اعْتِكافِها، حتى تَفْرَغَ منه، ثم تَرْجِعُ إلى بَيْتِ زَوْجِها فتَعْتَدُّ فيه؛ لأنَّ الاعْتِكافَ المَنْذُورَ واجِبٌ، والاعْتِدادَ في البَيْتِ واجِبٌ، فقد تعارَضَ واجِبانِ، فيُقَدَّمُ أسْبَقُهما. ولنا، أنَّ الاعْتِدادَ في بَيْتِ زَوْجِها واجِبٌ، فلَزِمَها الخُرُوجُ إليه، كالجُمُعَةِ في حَقِّ الرجلِ. ودَلِيلُهم يَنْتَقِضُ بالخُرُوجِ إلى الجُمُعَةِ وسائِرِ الواجِباتِ.