الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب في صفة الوضوء
[169]
عَن حُمرَانَ مَولَى عُثمَانَ؛ أَنَّ عُثمَانَ بنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضمَضَ وَاستَنثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمنَى إِلَى المِرفَق ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يده اليُسرَى مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجلَهُ اليُمنَى إِلَى الكَعبَينِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ اليُسرَى مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نحو وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَن تَوَضَّأَ نحو وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكعَتَينِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ.
قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الوُضُوءُ أَسبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلاةِ.
ــ
(2)
ومن باب صفة الوضوء
(قوله: ثلاث مرات) هو تعديد الغسلات لا تعديد الغرفات كما ذهب إليه بعضهم، وليس بشيءٍ؛ إذ لم يجر للغرفات في هذا الحديث ذِكرٌ، وإنما قال: غسل يديه ثلاث مرات. وثلاث: منصوبٌ نصب المصدر لإضافته إليه فكأنه قال: غسلات ثلاثًا، ومن ضرورة ذلك تعديد الغرفات. والمضمضة: وضعُ الماء في الفم، وخَضخضتُهُ فيه، والاستنثار: إيصال الماء إلى الأنف ونثره منه بنَفَسٍ أو بأصبعيه، وسمي: استنثارًا بآخرِ الفعل، وقد يسمى: استنشاقًا بأولهِ، وهو استدعاء الماء بنفس الأنف.
و(قوله: هذا الوضوء أسبغ) أي: أكمل، والدرع السابغ: الكامل، وقد يقال على هذا، فكيف يكون هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحدٌ، ولم يذكر فيه
رواه أحمد (2/ 59)، والبخاري (164)، ومسلم (226)، وأبو داود (106 - 110)، والنسائي (1/ 64 - 65).
[170]
وَعَن أَبِي أَنَسٍ؛ أَنَّ عُثمَانَ تَوَضَّأَ بِالمَقَاعِدِ فَقَالَ: أَلا أُرِيكُم وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا.
رواه أحمد (1/ 57)، ومسلم (230).
ــ
مسح الأذنين؟ والجوابُ: أن اسم الرأس تضمنهما (1)، والله أعلم. والمقاعد: دكاكين ومواضع كانوا يقعدون عليها، وكانت بقرب المسجد.
و(قوله: ثلاثًا ثلاثًا) تمسّك به الشافعي في استحبابه تكرار مسح الرأس بمياهٍ متعددةٍ كالأعضاء المغسولة. وخالفه في ذلك مالك وأبو حنيفة، ورأيا: أن هذا اللفظ مخصصٌ، أو مبين بما ورد من حديث عثمان نفسه، حيث ذكر أعضاء الوضوء مفصلةً، وقال فيها: ثلاثًا ثلاثًا، ولم يذكر لمسح الرأس عددًا، وليس في شيء من أحاديث عثمان الصحاح؛ ذكر أنه عليه الصلاة والسلام مسح رأسه ثلاثًا على ما قاله أبو داود، بل قد جاء في حديث عبد الله بن زيد: أنه مسح رأسه مرة واحدة، وعضدا هذا بإبداء مناسبةٍ، وهي: أن المسح شرع تخفيفًا، وفرض مشروعية التكرار فيه تثقيلٌ، فلا يكون مشروعًا.
و(قوله: عن أبي أنس) هو مالك بن أبي عامر الأصبحي، قال أحمد بن حنبل: وهم وكيعٌ في قوله: عن أبي أنس، وإنما هو أبو النضر عن بشر بن سعيد عن عثمان، وقال الدارقطني: هذا مما وهم فيه وكيع عن الثوري، وخالفه بقية أصحاب الثوري الحفاظ فرووه عن الثوري، عن أبي النضر، عن بشر بن سعيد، عن عثمان.
(1) في هامش (م): في نسخة: يعمهما.
[171]
وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ النَبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُم فَلِيَجعَل فِي أَنفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنتَثِر، وَمَنِ استَجمَرَ فَليُوتِر.
رواه أحمد (2/ 242 و 278)، والبخاري (162)، ومسلم (237)، وأبو داود (140)، والنسائي (1/ 66 - 67).
ــ
و(قوله: لا يحدث فيهما نفسه) أي: حديثًا مكتسبًا له؛ بحيث يتمكن من إيقاعه ودفعه، فأما ما لا يكون مكتسبًا للإنسان، فلا يتعلق عليه ثواب ولا عقاب.
و(قوله: ثم لينتثر) متمسك لأحمد، وإسحاق، وأبي ثور على وجوب الاستنشاق في الوضوء والغسل. والجمهور على أن ذلك من السُّنن فيهما، متمسكين بأن فروض الوضوء محصورة في آية الوضوء، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: توضأ كما أمرك الله (1). وليس في الآية ذكر الاستنثار؛ وبدليل أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر في وضوئه على الأعضاء الأربعة، ولم يزد عليها، وذلك يدل على أن غيرها من الأعضاء ليس فعله بواجبٍ، وهذه عمدة أصحابنا في حكمهم بحصر فُروض الوضوء في ستة، فإن النية مفهومة من قوله: إِذَا قُمتُم؛ أي: إذا أردتم القيام، والماء المطلق من قوله: فَلَم تَجِدُوا مَاءً، ومن تضمن الغسل له، والأربعة الأعضاء منصوص عليها في الآية، وما عدا ذلك من أحكام الوضوء مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فمنه: متأكدٌ، ويسمى: سنة، وغير متأكد، ويسمى: فضيلة، كما هو معروف في كتب أصحابنا.
و(قوله: من استجمر فليوتر) الاستجمار: هو التمسح من الغائط بالجمار، وهي: الأحجار الصغار، ومنه: الجمار التي يرمى بها في الحج، وقد نص عليها في حديث سلمان (2)، وقال أبو الحسن بن القصار: ويجوز أن يقال:
(1) رواه أبو داود (861) من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (262)، وسيأتي في التلخيص في باب: ما يُستنجى به رقم (9).
[172]
وَعَنهُ؛ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا استَيقَظَ أَحَدُكُم مِن مَنَامِهِ فَليَستَنثِر ثَلاثًا، فَإِنَّ الشَّيطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ.
رواه أحمد (2/ 395)، والبخاري (162)، ومسلم (238)، وأبو داود (103 - 105)، والترمذي (24)، والنسائي (6 - 7).
ــ
إنه أُخذ من الاستجمار بالبخور؛ لأنه يزيل الرائحة القبيحة.
وقد اختلف قول مالكٍ وغيره في معنى الاستجمار في هذا الحديث. فقيل ما تقدم، وقيل: هو البخور، فيجعل منه ثلاث قطعٍ، أو يأخذ منه ثلاث مرات، واحدةً بعد أخرى، والأول أظهر.
و(قوله: فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) هو جمع خيشوم، وهو أعلى الأنف، وقيل: الأنف كله، ويحتمل البقاء على ظاهره كما جاء: إن الشيطان يدخل إذا لم يكظم المتثائب فاه (1) ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عما ينعقد من رطوبة الأنفِ وقَذره الموافقة للشيطان، وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستشنع إلى الشيطان، كما قال تعالى: كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وكما قال الشاعر (2):
. . . . . . . . . . . . . .
…
ومسنونة زرقٌ كأنياب أغوالِ (3)
وهي الشياطينُ، ويحتمل أن يكون ذلك عبارةً عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا
(1) رواه أحمد (37/ 3) بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليضع يده على فيه؛ فإن
الشيطان يدخل مع التثاؤب" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
هو امرؤ القيس.
(3)
صدر البيت: أَيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي.
[173]
وَعَن عبد الله بنِ زَيدِ بنِ عَاصِمٍ الأَنصَارِيِّ - وَكَانَت لَهُ صُحبَةٌ - قَالَ: قِيلَ لَهُ: تَوَضَّأ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكفَأَ مِنه
ــ
هو نام ثلاث عقد (1). ويكون أمره بالاستنثار أمرًا بالوضوء كما قد جاء مفسرًا في غير كتاب مسلم: فليتوضأ، وليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه.
و(قوله في الحديث قبله: ومن استجمر فليوتر) تمسك به من يراعي عدد الثلاث مع الإنقاء، وهو قول أبي الفرج، وابن شعبان من أصحابنا. والشافعي وأصحابه صائرين (2) إلى أن أقل الوتر هنا ثلاث، بدليل حديث سلمان؛ حيث نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار (3). والجمهور يستحبون الوتر؛ بدليل قوله: الاستجمار تَو (4) أي: وترٌ، ولا يشترطون عددًا، بل الإنقاء إذا حصل هو المقصود الأصلي، وقد استدعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحجار، فأتي بحجرين وروثةٍ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة.
وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في كتاب أبي داود: إذا استجمر أحدكم فليستجمر بثلاثة أحجار، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (5). وإنما جرى ذكر الثلاث في الأحجار، إما لأن الإنقاء يحصل بها غالبًا، وإما لأن الاثنين للصفحتين، والثالث للوسط، والله أعلم.
و(قوله في حديث عبد الله بن زيد: وقيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ. المعلم للوضوء إذا نوى به رفع الحدث أجزأه، فإن لم ينو، لم يُجزه عند من يشترط النية على ما يأتي، وكذلك المتعلمُ.
(1) رواه أحمد (2/ 243)، والبخاري (1142)، ومسلم (776)، وأبو داود (1306)،
والنسائي (3/ 203 و 204) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كذا في جميع النسخ، وهي حال سدَّ مسدَّ الخبر.
(3)
يأتي برقم (199) باب رقم (9).
(4)
رواه مسلم (1300).
(5)
رواه أبو داود (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: التمهيد (11/ 18).
عَلَى يَدَيهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاثًا، ثُمَّ أَدخَلَ يَدَهُ فَاستَخرَجَهَا، فَمَضمَضَ وَاستَنشَقَ مِن كَفٍّ وَاحِدَةٍ، ففَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدخَلَ يَدَهُ فَاستَخرَجَهَا فَغَسَلَ وَجهَهُ ثَلاثًا،
ــ
و(قوله: فغسلهما ثلاثًا) حجة لأشهب في اختياره في غسلهما الإفراغ عليهما معًا، وقد روى ابن القاسم عن مالك: أنه استحب أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلها، ثم يدخلها ويصب بها على اليسرى، محتجًّا بقوله في الموطأ في هذا الحديث: فأفرغ على يديه وغسلهما مرتين مرتين (1). وقد يكون منشأ الخلاف في هذا الفرع الخلاف في غسلهما، هل هو عادة فيغسل كل عضو منهما بانفراده كسائر الأعضاء؟ أو هو للنظافة فتغسلان مجتمعين (2).
و(قوله: فمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثًا) أي: جمع بين المضمضة والاستنشاق في كف واحدة. وفعل ذلك ثلاثًا من ثلاث غرفات، كما بينه في رواية ابن وهبٍ، فإنه قال: فمضمض واستنشق من ثلاث غرفات. وقد اختلف في الأَولى من ذلك عن مالك والشافعي، فقيل: الأولى عندهما: جمعهما في غرفة واحدة، والإتيان بها كذلك في ثلاث غرفات، وقيل: بل الأولى عندهما إفرادُ كلِّ واحدةٍ منهما متفرقين بثلاث غرفات، ويشهد للأولى رواية ابن وهب، والثاني ما في كتاب أبي داود من قوله: فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. قيل: بل يفعلان معًا ثلاث مرات من غرفة واحدة، كما روى البخاري قال: فمضمض واستنشق ثلاثًا من غرفة.
و(قوله: ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه) ظاهِرُه: أنه أدخل يدَهُ الواحدة في الماء فأفرغ بها على اليسرى. وهو أحد القولين عندنا، وأنه كذلك
(1) رواه مالك في الموطأ (1/ 18) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
(2)
في (ل): مجموعتين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يفعل في جميع الأعضاء. وفي البخاري في بعض طرق هذا الحديث: ثم أدخل يديه فاغترف بهما. وهذا حجة لاختيار مالك في هذه المسألة، وكذلك القول في غرفة مسح الرأس.
وفي البخاري: ثم أخذ بيديه ماء فمسح برأسه. واختلف عن مالك في حدِّ الوجه طولاً وعرضًا. فأما الطول فمن منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن مُطلقًا، للأمردِ والملتحي. وقيل: إلى آخر اللحية للملتحي. وأما حدُّه عرضًا؛ فمن الأذن إلى الأذن. وقيل: من العذار (1) إلى العذار، وقيل: بالفرق بين الأمرد والملتحي، وسبب هذا الخلاف: الاختلاف في اسم الوجه والمواجهة على ماذا يقعان؟
و(قوله: فغسل يديه إلى المرفقين) المرفق: هو العظم الناتئ في آخر الذراع، سمي بذلك؛ لأنه يرتفق عليه، أي: يُتَّكأُ ويُعتمدُ. واختلف فيهما: هل يدخُلانِ في الغسل أم لا؟
وسببه: توهم الاشتراك في إلى وذلك (2) أنها لانتهاء الغاية في الأصل، وقد تأتي بمعنى: مع في مثل (2) قوله تعالى: وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَهُم إِلَى أَموَالِكُم، وفي قوله تعالى: مَن أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ. وفي قول العرب: الذود (3) إلى الذود إبلٌ، والأصل فيها: انتهاء الغاية، فيجب أن تحمل عليه. ويمكن أن يقال: إن إلى وإن كانت لانتهاء الغاية فهي محتملة لدخول الغاية فيما قبلها، والذي يرفع الخلاف فيها ما حكي عن سيبويه: أن الغاية إن كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن لم تدخل، مثال ذلك: أن تقول: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، والمبيع شجرٌ، فلا شك في دخول
(1)"العذار": جانب اللحية.
(2)
ساقط من (م).
(3)
"الذَّوْد": جماعة الإبل بين الثلاث والعَشر.
ثُمَّ أَدخَلَ يَدَهُ فَاستَخرَجَهَا فَغَسَلَ يَدَيهِ إِلَى المِرفَقَينِ، مَرَّتَينِ مَرَّتَينِ، ثُمَّ أَدخَلَ يَدَهُ فَاستَخرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأسِهِ
ــ
الشجرتين في جملة الشجر المبيعة، وإن كان المبيع أرضًا لم يدخلا، والله تعالى أعلم.
و(قوله: فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين) دليل على عدم كراهة الشفع في الغسلات، ولا خلاف أنه يجوز الاقتصار على الواحدة إذا أسبغ، وأن الاثنتين أفضل من الاقتصار على الواحدة، وأن الثلاث أفضل من الاثنتين، وأن الزيادة على الثلاث ممنوعةٌ، إلا أن يفعل بنية تجديد الوضوء، فإن أبا حنيفة أجاز ذلك، وعندنا أنه لا يصح له التجديد حتى يفعل بذلك الوضوء صلاةً، وسيأتي. وقد كره مالك الاقتصار على الواحدة للجاهل؛ لما يخاف من تفريطه، وللعالم لئلا يقتدي به الجاهل.
و(قوله: فمسح برأسه) الباء في برأسه باء التعدية؛ أي: التي يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت برأس اليتيم، ومسحتُ رأسَهُ، وسميت ابني بمحمد ومحمدًا، ولا يصح أن تكون للتبعيض، خلافًا للشافعي؛ لأن المحققين من أئمة النحويين البصريين وأكثر الكوفيين أنكروا ذلك، ولأنها لو كانت للتبعيض لكان قولك: مسحت برأسه كقولك: مسحت ببعض رأسه، ولو كان كذلك لما حَسُنَ أن تقول: مسحت ببعض رأسه، ولا برأسه بعضه؛ لأنه كان يكون (1) تكريرًا، ولا مسحت برأسه كله؛ لأنه: كان يكون مناقضًا له، ولو كانت للتبعيض لما جاز إسقاطها هنا (2)؛ فإنه يقال: مسحتُ برأسهِ، ومسَحت رأسَه بمعنى واحدٍ، وأيضًا فلو كانت مبعضةً في مسح الرأس في الوضوء لكانت مُبعضَةً في مسح
(1) ساقط من (ع).
(2)
ساقط من (ع).
فَأَقبَلَ بِيَدَيهِ وَأَدبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجلَيهِ إِلَى الكَعبَينِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ــ
الوجه في التيمم؛ لتساوي اللفظين في المحلين، ولم لا فلا (1)، ومذهب مالك رحمه الله وجوب عموم (2) مسح الرأس تمسكًا باسم الرأس، فإنه للعضو بجملته كالوجه، وتمسكًا بهذه الأحاديث، ثم نقول: نحن وإن تنزلنا على أن الباء تكون مبعضةً وغير مُبعضة، فذلك يُوجب فيها إجمالاً أزالَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فكان فعله بيانًا لمجمل واجب، فكان مسحه كله واجبًا (3)، وسيأتي القول في حديث المغيرة الذي ذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام: مسح مقدم رأسه وعلى عمامته.
و(قوله: فأقبل بيديه (4) وأدبر) معناه: أقبل إلى جهة قفاه، والإدبار: رجوعُهُ إلى حيث بدأ، كما فسره حيث قال: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه. وقيل: المراد: أدبر وأقبل؛ لأن الواو لا تُعطي رتبةً. وفي البخاري: فأدبر بهما وأقبل، وهذا أولى لهذا النص. وقيل: معنى أقبل: دخل في قبل الرأس، كما يقال: أنجدَ وأتهم: إذا دخل نجدًا وتهامةَ.
وقيل: معناه: أنه ابتدأ من الناصية مقبلاً إلى الوجه، ثم ردَّهُما إلى القفا، ثم رجع إلى الناصيةِ. وهذا ظاهرُ اللفظ. والإقبال والإدبار مسحة واحدة؛ لأنها بماء واحد، والمقصود بالرَّدة على الرأس: المبالغة في استيعابه.
و(قوله: ثم غسل رجليه إلى الكعبين) الكعب في اللغة: هو العظم الناشِز
(1) المقصود: لمّا لم تكن كذلك في مسح الوجه في التيمّم، فلا تكون كذلك في مسح الرأس في الوضوء.
(2)
ساقط من (ع).
(3)
في (ع): فكان مسح جميع الرأس واجبًا.
(4)
في (ع): بهما.
زَادَ فِي أُخرى: فَأَقبَلَ بِهِمَا وَأَدبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنهُ.
وَفِي أُخرى: فَمَضمَضَ وَاستَنشَقَ وَاستَنثَرَ مِن ثَلاثِ غَرَفَاتٍ. وَفِيها: فَمَسَحَ بِرَأسِهِ فَأَقبَلَ بِهِ وَأَدبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَفِي أُخرى: وَمَسَحَ بِرَأسِهِ ب ماءٍ غَير فَضل يَديهِ، وَغَسَلَ رِجلَيهِ حَتى أَنقَاهُما.
رواه أحمد (4/ 39)، والبخاري (185)، ومسلم (235) و (236)، وأبو داود (118 - 120)، والترمذي (35 و 47)، والنسائي (1/ 71 - 72).
* * *
ــ
عند ملتقى الساق والقدم، وأنكر الأصمعي قول الناس: إن الكعب في ظهر القدم، قاله في الصحاح، والأول هو المشهور عند أهل المذهب والفقهاءِ. وقد روي عن ابن القاسم: أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك، والأول هو الصحيح المعروف.
و(قوله: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه) دليل على مشروعية تجديد الماء لمسح الرأس، وأنه سنة، خلافًا للأوزاعي والحسن وعروة في تجويزهم مسحه ابتداءً بما فضل في يديه.
ولم يجئ في هذا الحديث ولا في حديث عثمان للأذنين ذكرٌ، ويمكن أن يكون ذلك؛ لأن اسم الرأس تضمنهما. وقد جاءت الأحاديث صحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صماخيه (1)، وسيأتي ذكرهما.
(1) رواه أبو داود (123) من حديث المقدام بن معدي كَرِب رضي الله عنه. ورواه النسائي (105) في السنن الكبرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.