الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(35) بَابٌ مَن قَتَلَ نَفسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ
[85]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَن قَتَلَ نَفسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفسَهُ، فهو يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفسَهُ، فهو يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا.
رواه أحمد (2/ 254 و 478 و 488)، والبخاري (5778)، ومسلم (109)، وأبو داود (3872)، والترمذي (2044) و (2045)، والنسائي (4/ 66 - 67).
ــ
(35)
وَمِن بَابِ: مَن قَتَلَ نَفسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ
(قوله: مَن قتَلَ نَفسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) يتوجَّأ: يطعن، وهو مهموز، من قولهم: وَجَأتُهُ بالسِّكِّينِ أَجَؤُهُ؛ أي: ضربتُهُ، ووُجِئَ هو، فهو موجوءٌ، ومصدرُهُ: وَجَئا مقصورًا مهموزًا (1)، فأما الوِجَاءُ، بكسر الواو والمَدِّ: فهو رَضُّ الأنثيين، وهو ضَربٌ من الخِصَاء.
و(قوله: خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) ظاهرُهُ: التخليدُ الذي لا انقطاعَ له بوجه، وهو محمولٌ على مَن كان مستَحِلاًّ لذلك، ومَن كان مُعتقِدًا لذلك، كان كافرًا. وأمَّا
(1) قوله: (مقصورًا مهموزًا) ساقط من (ع).
[86]
وَعَن ثَابِتِ بنِ الضَّحَّاكِ؛ أَنَّهُ بَايَعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحتَ الشَّجَرَةِ،
ــ
مَن قتَلَ نفسَهُ، وهو (1) غيرُ مستحلٍّ، فليس بكافر، بل يجوزُ أن يَعفُو اللهُ عنه، كما يأتي في الباب الآتي بعد هذا، في الذي قطَعَ بَرَاجِمَهُ (2) فمات، وكما تقدَّم في حديثِ عبادة (3) وغيره.
ويجوزُ أن يراد بقوله: خَالِدًا مخلَّدًا فِيهَا أَبَدًا تطويلُ الآمادِ، ثم يكونُ خروجُهُ مِنَ النار مِن آخر مَن يخرُجُ من أهل التوحيد؛ ويجري هذا مَجرَى المثل فتقول العرب: خَلَّدَ اللهُ مُلكَكَ، وأبَّد أيَّامك، ولا أُكَلِّمُك أَبَدَ الآبِدِين، ولا دَهرَ الداهرين، وهو ينوي أن يكلِّمَهُ بعد أزمان. ويجري هذا مجرى الإِعيَاءِ في الكلامِ على ما تقدَّم، والله تعالى أعلم.
والسُّمُّ: القاتلُ للحيوان، يقال بضَمِّ السين وفتحها. فأمَّا السَّمُّ الذي هو ثُقبُ الإبرة: فبالفتح لا غير.
ويَتَحَسَّاهُ: يَشربه و: يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ؛ كما قال الله تعالى.
و(قوله: إِنَّهُ بَايَعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحتَ الشَّجَرَةِ) وَكَانَت سَمُرَةً، وهذه بيعةُ الرضوانِ التي قال الله فيها: لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ. وكانت قبل فَتحِ مَكَّة في ذي القَعدَةِ سنة سِتٍّ من الهجرة. وكان سببها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصَدَ إلى مَكَّةَ معتمرًا، فلمَّا بلغ الحُدَيبِيَةَ - وهي
(1) من (ل).
(2)
"البراجم": هي العُقَد التي في ظهور الأصابع.
(3)
سبق برقم (23).
وَأَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيرِ الإِسلَامِ كَاذِبًا فهو كما قال - وَفِي رِوَايَةٍ: مُتَعَمِّدًا - وَمَن قَتَلَ نَفسَهُ بِشَيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ،
ــ
موضعٌ فيه ماءٌ، بينه وبين مَكَّةَ نحو من أميال - صَدَّتهُ قريشٌ عن الدخولِ إلى البيت، فوجَّه لهم عثمانَ رَسُولاً، فَتُحُدِّثَ أنَّ قريشًا قتلوه، فتهيَّأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لحربهم، فبايَعَ أصحابَهُ تلك البيعةَ على الموت، أو على ألَاّ يَفِرُّوا؛ كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: مَن حلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيرِ الإسلَامِ) اليمينُ هنا: يعني به المحلوفَ عليه؛ بدليلِ ذكرِهِ المحلوفَ به، وهو بملَّةٍ غيرِ الإسلام. ويجوز أن يقال: إنَّ عَلَى صِلَةٌ، وينتصبُ يَمِين على أنَّه مصدرٌ مُلَاقٍ في المعنَى لا في اللفظ.
و(قوله: كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا) يحتملُ أن يريدَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن كان معتقدًا لتعظيمِ تلك المِلّةِ المغايرةِ لملَّةِ الإسلام؛ وحينئذٍ يكونُ كافرًا حقيقةً، فيبقى اللفظُ على ظاهره. وكاذبًا: منصوبٌ على الحال؛ أي: في حال تعظيمِ تلك المِلَّة التي حلَفَ بها، فتكونُ هذه الحالُ من الأحوالِ اللازمة؛ كقوله تعالى: وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا؛ لأنَّ مَن عظَّم مِلَّةً غيرَ الإسلام، كان كاذبًا في تعظيمِهِ دائما في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتٍ، لا ينتقلُ عن ذلك.
ولا يصلُحُ أن يقال: إنَّه يعني بكونه كاذبًا في المحلوفِ عليه؛ لأنَّه يستوي في ذَمِّهِ كونُهُ صادقًا أو كاذبًا إذا حلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلام؛ لأنَّه إنَّما ذمَّهُ الشرعُ مِن حيثُ إنَّه حَلَفَ بتلك الملَّةِ الباطلة، معظِّمًا لها على نحو ما تعظَّمُ به ملَّةُ الإسلامِ الحَقِّ؛ فلا فَرقَ بين أن يكونَ صادقًا أو كاذبًا في المحلوفِ عليه، والله تعالى أعلم.
وأمَّا إن كان الحالفُ بذلك غيرَ معتقِدٍ لذلك: فهو آثمٌ مرتَكِبٌ كبيرةً؛ إذ قد نسبه في قوله لمَن يعظِّمُ تلك المِلَّةَ ويعتقدها، فغُلِّظَ عليه الوعيدُ؛ بأن صيّرَه كواحدٍ منهم، مبالغةً في الرَّدعِ والزَّجر؛ كما قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم. وهل تجبُ عليه كفَّارةٌ أم لا؟ اختلَفَ العلماءُ في ذلك: فَرُوِيَ عن
وَلَيسَ عَلَى رَجُلٍ نَذرٌ فِي شَيءٍ لَا يَملِكُهُ.
ــ
ابن المبارك مما ورَدَ مِثلَ هذا: أنَّ ذلك على طريقةِ التغليظ، ولا كفَّارةَ على مَن حلف بذلك وإن كان آثِمًا؛ وعليه الجمهورُ، وهو الصحيحُ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: مَن حَلَفَ بِاللَاّتِ، فَليَقُل: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ (1)، ولم يوجب عليه أكثَرَ من ذلك، ولو كانتِ الكفَّارةُ واجبةً، لبيَّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينئذٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجة. وقد ذهب بعضُ العراقيِّين إلى وجوبِ الكفَّارة عليه، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
و(قوله: لَيسَ عَلَى رَجُلٍ نَذرٌ فِي شَيءٍ لَا يَملِكُهُ) هذا صحيحٌ فيما إذا باشَرَ النذرُ مِلكَ الغير؛ كما لو قال: للهِ عَلَيَّ عِتقُ عبدِ فلانٍ، أو هَديُ بَدَنَةِ فُلَان، ولم يعلِّق شيئًا مِن ذلك على مِلكِهِ له، فلا خلافَ بين العلماء أنَّ ذلك لا يلزمُه منه شيءٌ؛ غير أنَّه حُكِيَ عن ابن أبي ليلى في العتق: أنَّه إذا كان مُوسِرًا عتِقَ عليه، ثُمَّ رجَعَ عنه.
وإنَّما اختلَفُوا فيما إذا علَّقَ العِتقَ أو الهَديَ أو الصدقةَ على المِلك؛ مِثلُ أن يقول: إن مَلَكتُ عَبدَ فلانٍ، فهو حُرٌّ، فلم يُلزمهُ الشافعيُّ شيئًا من ذلك عَمَّ أو خصَّ؛ تمسُّكًا بهذا الحديث. وألزمَهُ أبو حنيفة: كُلَّ شيء مِن ذلك عمَّ أو خصَّ؛ لأنَّه مِن بابِ العقودِ المأمورِ بالوفاءِ بها، وكأنَّه رأى أنَّ ذلك الحديثَ لا يتناوَلُ المعلَّقَ على المِلك؛ لأنَّه إنَّما يلزمُهُ عند حصولِ المِلكِ لا قبله. ووافَقَ أبا حنيفةَ مالكٌ فيما إذا خَصَّ؛ تمسُّكًا بمثل ما تمسَّكَ به أبو حنيفة، وخالَفَهُ إذا عمَّ؛ رفعًا للحَرَجِ الذي أدخَلَهُ على نفسه، ولمالكٍ قولٌ آخر مِثلُ قولِ الشافعيِّ.
و(قوله: إِنَّ رَجُلاً مِمَّن كَانَ (2) قَبلَكُم خَرَجَت بِوَجهِهِ قُرحَةٌ) القُرحَةُ: واحدةُ القُرَحِ والقروح، وهي الجِرَاحُ؛ يقال منه: قَرِحَ جِلدُهُ بالكسر يَقرَحُ قَرَحًا،
(1) رواه البخاري (11/ 537) تعليقًا.
(2)
ساقط من (ل) و (م) و (ط) والمثبت من (ع).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويقال: القَرحُ والقُرحُ - بفتح القاف وضمِّها - لغتان عن الأخفش، وقال غيره: القَرحُ، بالفتح: الجَرح، وبالضمِّ: ألمُ الجراح.
و(قوله: فَنَكَأَهَا) بهمزةٍ مفتوحةٍ على الألف، أي: قَشَرها وفَجَرها.
و(قوله: فَلَم يَرقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ) أي: لم ينقطع، وهو بالهمز؛ يقال: رَقَأ الدَّمُ يَرقَأُ: إذا انقطع؛ ويروى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَسُبُّوا الإِبِلَ؛ فَإِنَّ فِيهَا رَقُوءَ الدَّمِ (1)، أي: إذا دُفِعَتِ الإبلُ في الدية، ارتفَعَ القصاصُ والقَتلُ وانقطَعَ الدم.
وهذا الفعلُ مِن هذا الرجل يَحتملُ أن يكونَ: إنَّما حمله عليه الجزَعُ والتبرُّمُ واستعجالُ الموت؛ فيكونُ ممَّن قتَلَ نفسه بحديدةٍ؛ فيكونُ فِعله نحوًا ممَّا فعله الذي أصابتهُ جِرَاحَةٌ في الحرب، فاستعجَلَ الموتَ، فوضَعَ نَصلَ سيفه بالأرض، وذُبَابَهُ (2) بين ثديَيهِ، فتحامَلَ عليه، فقتَلَ نفسه. ويَحتملُ أن يكونَ قصَدَ بَطَّ (3) تلك الجراحةِ؛ ليخفف عنه الألَمُ، ففرَّطَ في التحرُّز، فعوقبَ على تفريطه. ويُستفادُ مِنَ التأويلِ الأوَّل: وجوبُ الصبرِ على الآلام، وتحريمُ استعجالِ الموتِ عند شِدَّةِ الآلام وإن أيقَنَ به. ومِنَ التأويل الثاني: وجوبُ التحرُّزِ مِنَ الأدويةِ المَخُوفَةِ والعلاجِ الخطر، وتحريمُ التقصيرِ في التحرُّزِ مِن ذلك، والله تعالى أعلم.
و(قوله: لَعنُ المُؤمِنِ كَقَتلِهِ) أي: في الإثم. ووجهه: أنَّ مَن قال لمؤمنٍ: لَعَنَهُ اللهُ، فقد تضمَّنَ قولُهُ ذلك إبعادَهُ عن رحمةِ الله تعالى التي رَحِمَ بها المسلمين، وإخراجَهُ مِن جملتهم في أحكامِ الدنيا والآخرة، ومَن كان كذلك، فقد صار بمنزلةِ المَفقُودِ عن المسلمين بعد أَن كان موجودًا فيهم؛ إذ لم يَنتفِع بما انتفَعَ به المسلمون، ولا انتفَعُوا به؛ فأشبَهَ ذلك قتلَهُ. وعلى هذا فيكونُ إثمُ اللاعنِ كَإِثمِ القاتل، غير أنَّ القاتِلَ أَدخَلُ في الإثم؛ لأنَّه أفقَدَ المقتولَ حِسًّا ومعنًى، واللاعنُ
(1) ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 248).
(2)
"ذبابُ السيف": حد طرفه الذي بين شفرتيه.
(3)
"بطّ الجرح": شقّه.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَعنُ المُؤمِنِ كَقَتلِهِ.
وَفِيهَا: وَمَنِ ادَّعَى دَعوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَم يَزِدهُ اللهُ إِلَاّ قِلَّةً، وَمَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبرٍ فَاجِرَةٍ.
ــ
أفقدَهُ معنًى، فإثمه أخفُّ منه، لكنَّهما قد اشتَرَكَا في مطلَقِ الإثمِ، فصدَقَ عليه أنَّه مِثلُهُ، والله أعلم.
و(قوله: وَمَنِ ادَّعَى دَعوَى كَاذِبَةً (1) لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَم يَزِدهُ اللهُ إِلَاّ قِلَّةً، يعني - والله أعلم -: أَنَّ مَن تظاهَرَ بشيء مِنَ الكمال، وتعاطاه، وادَّعَاهُ لنفسه، وليس موصوفًا به، لم يَحصُل له مِن ذلك إلَاّ نقيضُ مقصودِهِ، وهو النقص: فإن كان المُدَّعَى مالاً، لم يبارَك له فيه، أو علمًا، أظهَرَ اللهُ جَهلَهُ، فاحتقَرَهُ الناس، فقَلَّ مقدارُهُ عندهم.
وكذلك لو ادَّعَى دِينًا أو نَسَبًا أو غَيرَ ذلك، فضَحَهُ اللهُ، وأظهَرَ باطلَهُ؛ فقَلَّ مقدارُهُ، وذَلَّ في نفسه؛ فحصَلَ على نقيضِ قصده؛ وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام: مَن أَسَرَّ سَرِيرَةً، أَلبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، ونحو منه قولُهُ تعالى: وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بِمَا لَم يَفعَلُوا وقولُهُ عليه الصلاة والسلام: المُتَشَبِّعُ بِمَا لَم يُعطَ كَلَابِسِ ثَوبَي زُورٍ (2).
وفائدةُ الحديث: الزجرُ عن الرياءِ وتعاطيه، ولو كان بأمورِ الدنيا.
و(قوله: وَمَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبرٍ فَاجِرَةٍ) كذا صحَّتِ الروايةُ في أصلِ كتابِ مسلم لهذا الكلام، مقتصرًا على ذكر جملة الشرط مِن غير ذكرِ جملةِ الجزاء؛ فَيَحتمِلُ: أن سكَتَ عنه؛ لأنَّه عطفَهُ على مَن التي قبلها، فكأنَّه قال: ومن حلف يمينًا فاجرة، كان كذلك، أي: لم يَزِدهُ اللهُ بها إلَاّ قِلَّةً؛ قاله القاضي عِيَاض.
قال المؤلف رحمه الله: ويَحتمِلُ: أن يكونَ الجزاءُ محذوفًا، ويكونَ تقديره: مَن فعَلَ ذلك، غَضِبَ اللهُ عليه، أو عاقَبَهُ، أو نحو ذلك؛ كما جاء في
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه مسلم (2130)، والنسائي في السنن الكبرى (8920) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وَفِي أُخرَى: وَمَن ذَبَحَ نَفسَهُ بِشَيءٍ، ذُبِحَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ.
رواه أحمد (4/ 33 - 34)، والبخاري (6652)، ومسلم (110)، وأبو داود (3257)، والترمذي (2638)، والنسائي (7/ 5 - 6)، وابن ماجه (2098).
[87]
وَعَن جُندَبٍ، عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ رَجُلاً مِمَّن كَانَ قَبلَكُم خَرَجَت بِوَجهِهِ قُرحَةٌ، فَلَمَّا آذَتهُ، انتَزَعَ سَهمًا مِن كِنَانَتِهِ، فَنَكَأَهَا، فَلَم يَرقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَبُّكُم: قَد حَرَّمتُ عَلَيهِ الجَنَّةَ.
رواه البخاري (1364)، ومسلم (113).
* * *
ــ
الحديثِ الآخر: مَن حلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقتَطِعَ بِهَا مَالَ مُسلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وهو عليه غَضبَانُ (1). والروايةُ في يَمِينٍ صَبرٍ بالتنوينِ على أنَّ صَبرًا صفةٌ اليَمِين، أي: ذاتِ صَبرٍ. وأصلُ الصبر: الحَبسُ؛ كما قال عنترةُ:
فَصَبَرتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً (2)
…
. . . . . . . . . . . . .
أي: حَبَستُ في الحربِ نَفسًا معتادةً لذلك كريمةً لا ترضَى بالفرار. وقال أبو العبَّاس (3): الصبرُ ثلاثةُ أشياء: الحبسُ، والإكراهُ، والجرأة؛ كما قال تعالى: فَمَا أَصبَرَهُم عَلَى النَّارِ أي: ما أجرأَهُم عليها. ووُصِفَتِ اليمينُ بأنَّها ذاتُ صَبرٍ؛ لأنَّها تَحبِسُ الحالفَ لها، أو لأنَّ الحالفَ يجترئُ عليها، وذكر الصبر، وقد أجراه صفةً على اليمين، وهي مؤنَّثةٌ (4)؛ لأنَّه قَصَدَ قَصدَ المصدرِ.
(1) رواه أحمد (1/ 442)، والبخاري (6676)، ومسلم (138)، وأبو داود (3243)، والترمذي (2999) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
عجز البيت: تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ.
(3)
أي: المؤلِّف.
(4)
ساقط من (ع).