الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه أحمد (1/ 444)، والبخاري (32) و (4776)، ومسلم (124)، والترمذي (3069).
* * *
(41) بَابٌ فِي قَولِهِ عز وجل: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ إلَى آخِرِ السُّورَةِ
[99]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ، قَالَ: لَمَّا أُنزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ مَا فِي
ــ
وفي هذا الحديثِ: ما يدلُّ على أنَّ النكرةَ في سياق النفي تَعُمُّ؛ لأنَّ الصحابة فَهِمَت من ذلك العمومِ كُلَّ ظلم، وأقرَّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الفَهمِ، وبيَّن لهم أنَّ المراد بذلك ظُلمٌ مخصوص. وفي الآية: دليلٌ على جواز إطلاقِ اللَّفظِ العامِّ، والمرادُ به الخصوصُ.
(41)
ومِن بَابِ قَولِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ الآيَةَ
ما هذه التي في أوَّلِ الآية بمعنى الذي، وهي متناولةٌ لمن يَعقِلُ وما لا يعقل، وهي هنا عامَّةٌ لا تخصيصَ فيها بوجه؛ لأنَّ كلَّ من في السماواتِ والأرضِ وما فيهما وما بينهما: خَلقُ الله تعالى، ومِلكٌ له. وهذا إنما يتمشَّى على مذهبِ أهلِ الحَقِّ والتحقيقِ الذين يُحِيلُونَ على الله تعالى أن يكونَ في السماءِ أو في الأرضِ؛ إذ لو كان في شيء، لكان محصورًا محدودًا، ولو كان كذلك، لكان مُحدَثًا. وعلى هذه القاعدة: فقوله تعالى: أَأَمِنتُم مَن فِي السَّمَاءِ وقولُ الأَمَةِ
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَإِن تُبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أَو تُخفُوهُ يُحَاسِبكُم بِهِ اللَّهُ الآية، قَالَ: فَاشتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَي رسولَ الله، كُلِّفنَا مِنَ الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ؛ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ،
ــ
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها: أَينَ اللهُ؟ فقالَت: فِي السَّمَاءِ (1)، ولم يُنكِر عليها ذلك، وما قد رُوِيَ عن بعض السلف أنَّهم كانوا يُطلِقون ذلك، ليس على ظاهره، بل هو مُؤَوَّلٌ تأويلاتٍ صحيحةً قد أبداها كثيرٌ من أهل العلمِ في كتبهم، لكنَّ السلَفَ رضي الله عنهم أجمعين - كانوا يجتنبون تأويلَ المتشابهات، ولا يتعرَّضون لها، مع عِلمهم بأنَّ الله تعالى يستحيلُ عليه سِمَاتُ المُحدَثَات، ولوازمُ المخلوقات، واستيفاءُ المباحث هذه في علم الكلام.
و(قوله: إِن تُبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أَو تُخفُوهُ يُحَاسِبكُم بِهِ اللَّهُ) ما: هذه أيضًا على عمومها، فتتناولُ كلَّ ما يقع في نَفسِ الإنسانِ من الخواطر؛ ما أُطِيقَ دفعُهُ منها وما لا يطاق؛ ولذلك أَشفَقَتِ الصحابة مِن محاسبتِهِم على جميعِ ذلك ومؤاخذتِهِم به، فقالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلِّفنَا مَا نُطِيقُ بالصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَهَذِهِ الآيةُ لَا نُطِيقُهَا.
ففيه دليلٌ على أنَّ موضوعَ ما للعموم، وأنَّه معمولٌ به فيما طريقُهُ الاعتقادُ؛ كما هو معمولٌ به فيما طريقُهُ العمل، وأنَّه لا يجبُ التوقُّفُ فيه إلى البحثِ على المخصِّص، بل يُبَادِرُ (2) إلى استغراقِ الاعتقاد (3) فيه، وإن جاز التخصيصُ، وهذه المسائلُ اختُلِفَ فيها؛ كما بيَّنَّاه في الأصول.
ولمَّا سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك القولَ منهم، أجابهم بأن قال: أَتُرِيدُونَ أَن تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهلُ الكِتَاب مِن قَبلِكُم: سَمِعنَا
(1) رواه مسلم (537)، وأبو داود (930 و 931)، والنسائي (3/ 14 - 18) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(3)
في (ل) و (ط): اعتقاد الاستغراق.
وَقَد أُنزِلَ عَلَيكَ هَذِهِ الآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا! ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتُرِيدُونَ أَن تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهلُ الكِتَابَينِ مِن قَبلِكُم: سَمِعنَا وَعَصَينَا؟ ! بَل قُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ، فَلَمَّا اقتَرَأَهَا القَومُ، وَذَلَّت بِهَا
ــ
وَعَصَينَا؟ ! بَل قُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، فأقرَّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ما فهموه، وبيَّن لهم أنَّ لله تعالى أن يُكلِّفَ عبادَهُ بما يطيقونَهُ وبما لا يطيقونه، ونهاهم عن أن يقَعَ لهم شيءٌ مما وقَعَ لضُلَاّلِ أهل الكتاب مِنَ المخالفة، وأمَرَهُم بالسَّمعِ والطاعةِ، والتسليمِ لأمر الله تعالى على ما فهموه، فسلَّم القومُ لذلك وأذعنوا، ووطَّنوا أنفسهم على أنَّهم كُلِّفُوا في الآية بما لا يطيقونَهُ، واعتقدوا ذلك، فقد عملوا بمقتضى ذلك العمومِ، وثبَتَ ووَرَدَ، فإن قدِّر رافعٌ لشيء منه، فذلك الرَّفعُ نسخٌ لا تخصيص.
وعلى هذا: فقولُ الصحابي: فَلَمَّا فَعَلُوا نَسَخَهَا اللهُ على حقيقة النسخ، لا على جهة التخصيص؛ خلافًا لمن لم يَظهَر له ما ذكرناه، وهم كثيرٌ من المتكلِّمين على هذا الحديث، مِمَّن رأى أنَّ ذلك من باب التخصيص، لا مِن باب النسخ، وتأوَّلوا قولَ الصحابيِّ: إنَّه نَسخٌ؛ على أنَّه أراد بالنَّسخِ التخصيصَ، وقال: إنَّهم كانوا لا يفرِّقون بين النسخ والتخصيص، وقد كُنتُ على ذلك زمانًا إلى أن ظَهَرَ لي ما ذكرتُهُ، فتأمَّلهُ؛ فإنَّه الصحيح، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: إِنَّهُم - يعني: الصحابةَ إنهم - كانوا لا يُفرِّقون بين النسخ والتخصيص) إن أراد به: أنَّهم لم ينصُّوا على الفَرقِ فمسلَّم، وكذلك أكثرُ مسائلِ عِلمِ الأصول، بل كله؛ فإنَّهم لم ينصُّوا على شيء منها، بل فرَّعوا عليها، وعَمِلُوا على مقتضاها، من غير عبارةٍ عنها ولا نُطقٍ بها، إلى أن جاء مَن بعدهم، ففَطنُوا لذلك وعبَّروا عنه، حتى صنَّفوا فيه التصانيفَ المعروفة، وَأَوَّلُهُم في ذلك الشافعيُّ رحمه الله فيما علمنا. وإن أراد بذلك: أنَّهم لم يكونوا يَعرِفُونَ الفرقَ بين النسخ والتخصيص (1)، ولا عَمِلُوا عليه: فقد نسبهم إلى ما يستحيلُ عليهم؛ لثقابةِ أذهانهم،
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
أَلسِنَتُهُم، أَنزَلَ اللهُ فِي إِثرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى؛ فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا اكتَسَبَت رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخطَأنَا قَالَ: نَعَم،
ــ
وصحَّةِ فهومهم، وغزارةِ علومهم، وأنَّهم أَولَى بعلم ذلك مِن كل مَن بعدهم؛ كيف لا وَهُم أئمَّةُ الهدى، وبهم إلى كُلِّ العلومِ يُقتدَى، وإليهم المرتَجَع، وقولهم المُتَّبَع، وكيف يَخفَى عليهم ذلك، وهو مِنَ المبادئ الظاهرة على ما قَرَّرنَاهُ في الأصول.
و(قوله: لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ) أي: يقولون: لا نفرِّقُ بين أحد منهم؛ في العلم بِصِحَّةِ رسالاتهم، وصِدقِهِم في قولهم.
وغُفرَانَكَ: منصوبٌ على المصدر، أي: اغفر غفرانَكَ، وقيل: مفعولٌ بفعل مضمر، أي: هَب غفرانَكَ. والمَصِير: المرجع. والتَّكلِيف: إلزامٌ مَا في فعله كُلفَةٌ، وهي النَّصَبُ والمشقَّة. والوُسع: الطاقة.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ لله تعالى أن يكلِّفَ عبادَهُ بما يُطِيقونه وما لا يُطِيقونه، ممكنًا كان أو غيرَ ممكن، لكنَّه تعالى تفضَّلَ بأنَّه لم يُكَلِّفنَا ما لا نطيقه، وبما لا يمكننا إيقاعُهُ، وكمَّلَ علينا بِفَضلِهِ برَفعِ الإصرِ والمشقات التي كلَّفها غيرنا. واستيفاءُ مباحثِ هذه المسألةِ في علمِ الكلامِ والأصول.
و(قوله: لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا اكتَسَبَت) أي: ما كسَبَت من خيرٍ، فلها ثوابه، وما اكتسَبَت من شَرٍّ، فعليها عقابُهُ. وكَسَبَ واكتَسَبَ: لغتان بمعنًى واحدٍ؛ كقَدَرَ واقتَدَرَ.
ويمكنُ أن يقال: إن هذه التاءَ تاءُ الاستفعالِ والتعاطي، ودخلَت في اكتسابِ الشَّرِّ دون كسب الخير؛ إشعارًا بأنَّ الشَّرَّ لا يؤاخَذُ به إلا بعد تعاطيه
رَبَّنَا وَلَا تَحمِل عَلَينَا إِصرًا كَمَا حَمَلتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِنَا قَالَ: نَعَم، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ: نَعَم، وَاعفُ عَنَّا وَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا أَنتَ مَولَانَا فَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ قَالَ: نَعَم.
رواه أحمد (2/ 412)، ومسلم (125).
ــ
وفعلِهِ دون الهَمِّ به؛ بخلاف الخير: فإنَّه يُكتَبُ لمن هَمَّ به وتحدَّثَ به في قلبه، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام مُخبِرًا عن الله تعالى: إِذَا تَحَدَّثَ عَبدِي بِأَن يَعمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَم يَعمَلهَا، فَإذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ بِعَشرِ أَمثَالِهَا، وإِذا تَحَدَّثَ بِأَن يَعمَلَ (1) سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغفِرُهَا لَهُ مَا لَم يَعمَل، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (2)، وفي لفظٍ آخَرَ: فإِذَا هَمّ بدل تَحَدَّثَ، وسيأتي إن شاء الله تعالى النظرُ في هذا الحديث (3).
والإِصرُ: العهدُ الذي يُعجَزُ عنه؛ قاله ابن عباس، وقال الربيع: هو الثقلُ العظيم، وقال ابن زيد: هو الذنبُ الذي لا توبةَ له، ولا كَفَّارَةَ.
و(قوله: وَاعفُ عَنَّا وَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا) قيل: اعفُ عن الكبائر، واغفِرِ الصغائر، وارحَم بتثقيل الموازين، وقيل: اعفُ عن الأقوال، واغفِرِ الأفعال، وارحَم بتوالي الألطافِ وسَنِيِّ الأحوال. قلت: وأصلُ العفو: التسهيلُ، والمغفرةُ، والسترُ، والرحمةُ: إيصالُ النعمةِ إلى المحتاج.
ومولانا: وليُّنا، ومتولِّي أمورِنَا، وناصرُنَا.
ونَعَم: حرفُ جواب، وهو هنا إجابةٌ لما دَعَوا فيه، كما قال في الرواية
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
سيأتي تخريجه برقم (101) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إذا تحدّث. . . ". ورواه أبو عوانة في مسنده (1/ 83) بلفظ: "إذا همّ. .". وانظره في صحيح مسلم (162) بنحوه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
أغفل المؤلف رحمه الله شَرْح هذا الحديث.
[100]
وعَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَت بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَم تَعمَل أو تَكَلَّم بِهِ.
رواه أحمد (2/ 393 و 425 و 474 و 481)، والبخاري (2528)، ومسلم (127)، وأبو داود (2209)، والترمذي (1183)، والنسائي (6/ 156 - 157)، وابن ماجه (2040).
* * *
ــ
الأخرى عن ابن عبَّاس: قَد فَعَلتُ بدل قوله هنا: نَعَم. وهو إخبارٌ من الله تعالى: أنَّه أجابهم في تلك الدعوات، فكلُّ داعٍ يشاركُهُم في إيمانِهِم وإخلاصِهِم واستسلامِهِم، أجابه (1) الله تعالى كإجابتهم؛ لأنَّ وَعدَه تعالى صدقٌ، وقولَهُ حقٌّ. وكان معاذ يختمُ هذه السورةَ بآمِينَ كما يختمُ الفاتحة (2)، وهو حَسَن.
و(قوله عليه الصلاة والسلام: إِنَّ اللهَ تعالى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَت بِهِ أَنفُسَهَا) روايتنا: نصبُ أَنفُسَهَا، على أنَّه مفعولُ حَدَّثَت، وفي حَدَّثَت ضميرُ فاعلٍ عائدٌ على الأُمَّة. وأهل اللغة يقولون: أَنفُسُهَا بالرفع على أنَّه فاعلُ حَدَّثَت، يريدون بغير اختيار؛ قاله الطحاويُّ.
قال المؤلف رحمه الله: يعني: أنَّ الذي لا يؤاخَذُ به هي الأحاديثُ الطارئةُ التي لا ثباتَ لها، ولا استقرارَ في النَّفسِ، ولا رُكُونَ إليها. وهذا نحو ممَّا قاله القاضي أبو بكر في قوله عليه الصلاة والسلام عن الله: إِذَا هَمَّ عَبدِي بِحَسَنَةٍ، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَم يَعمَل، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ عَشرًا، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَأَنَا أَغفِرُهَا لَهُ مَا لَم يَعمَلهَا، فَإذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قال القاضي: إنَّ الهمَّ هاهنا: ما يَمُرُّ بالفِكرِ من غير استقرارٍ ولا توطين، فلو استمرَّ ووطَّن نفسه عليه، لكان ذلك هو العَزمَ المؤاخَذَ به أو المثابَ عليه؛ بدليل قوله - عليه الصلاة
(1) في (ل): أجابوا.
(2)
رواه أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر. (الدر المنثور 2/ 137).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والسلام -: إِذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا، فَالقَاتِلُ وَالمَقتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: يَا رسولَ الله، هَذَا القَاتِلُ، فَمَا بَالُ المَقتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتلِ صَاحِبِهِ (1).
لا يُقَالُ: هذه المؤاخذةُ هنا إنَّما كانت لأنَّه قد عَمِلَ بما استَقَرَّ في قلبه مِن حمله السلاحَ عليه، لا بمجرَّدِ حِرصِ القلب؛ لأنَّا نقول: هذا فاسدٌ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام قد نصَّ على ما وقعَتِ المؤاخذةُ به، وأعرَضَ عن غيره، فقال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتلِ صَاحِبِهِ، فلو كان حَملُ السلاحِ هو العِلَّةَ للمؤاخذةِ أو جُزءَهَا، لَمَا سكَتَ عنه، وعلَّقَ المؤاخذَةَ على غيره؛ لأنَّ ذلك خلافُ البيانِ الواجبِ عند الحاجةِ إليه، وهذا الذي صار إليه القاضي، هو الذي عليه عامَّةُ السلفِ وأهلِ العلمِ؛ من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين.
ولا يُلتَفَتُ إلى مَن خالفهم في ذلك؛ فزعم: أنَّ ما يَهُمُّ به الإنسانُ، وإن وطَّن نفسَهُ عليه، لا يؤاخَذُ به؛ مُتَمَسِّكًا في ذلك بقوله تعالى: وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِهَا وبقوله عليه الصلاة والسلام: مَا لَم يعمَل أو يتَكَلَّم بِهِ، ومن لم يعمل بما عزَمَ عليه ولا نطَقَ به، فلا يؤاخَذُ به، وهو متجاوَزٌ عنه، والجوابُ عن الآية: أنَّ مِنَ الهمِّ ما يؤاخَذُ به، وهو ما استَقَرَّ واستوطَنَ، ومنه ما يكونُ أحاديثَ لا تستقرُّ؛ فلا يؤاخَذُ بها؛ كما شَهِدَ به الحديثُ، وما في الآية من القِسمِ الثاني لا الأوَّل، وفي الآيةِ تأويلاتٌ هذا أحَدُهَا، وبه يحصُلُ الانفصال.
وعن قوله مَا لَم يعمَل أنَّ توطينَ النفسِ عليه عَمَلٌ يؤاخَذُ به، والذي يرفعُ الإشكالَ، ويبيِّنُ المرادَ بهذا الحديث: حديثُ أبي كَبشةَ الأنماريِّ، واسمه عُمَرُ بن سَعد - على ما قاله خَليفة بنُ خَيَّاط -: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّمَا الدُّنيَا لِأربَعَةِ نَفَرٍ. . (2) الحديثَ إلى آخره، وقد ذكرناه.
(1) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888)، وأبو داود (4268)، والنسائي (7/ 125)، وابن ماجه (3964) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (4/ 231)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228).