الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) بَابُ إِطلَاقِ اسمِ الإِيمَانِ عَلَى مَا جَعَلَهُ فِي حَدِيثِ جِبرِيلَ إِسلَامًا
[14]
عَن أَبِي جَمرَةَ، قَالَ: كُنتُ أُتَرجِمُ بَينَ يَدَيِ ابنِ عَبَّاسٍ وَبَينَ النَّاسِ، فَأَتَتهُ امرَأَةٌ فَسَأَلَتهُ عَن نَبِيذِ الجَرِّ؟ فَقَالَ: إِنَّ وَفدَ عَبدِ القَيسِ أَتَوا
ــ
(5)
وَمِن بَابُ إِطلَاقِ اسمِ الإِيمَانِ عَلَى مَا جَعَلَهُ فِي حَدِيثِ جِبرِيلَ إِسلَامًا
معنى جَعَلَ في هذه الترجمة: سمّى، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُم عِبَادُ الرَّحمَنِ إِنَاثًا ويصلُحُ أن يكون بمعنى: صيَّر؛ كما تقول العرب: جعلتُ حُسنَ فلانٍ قبحًا، أي: صيَّرتُهُ، وقد تقدَّم القولُ في الإيمان والإسلام من حديث جبريل.
(قوله: أبو جمرة) هذا الذي يروي عن ابن عبَّاسٍ حديثَ وَفدِ عبد القَيس، هو بالجيم والراء، واسمه: نَصرُ بنُ عِمرَانَ الضُّبَعِيُّ، وقد روى عن ابنِ عبَّاسٍ رجلٌ آخر يقالُ له: أبو حَمزةَ - بالحاء المهملة والزاي - واسمه: عِمرَانُ بنُ أبي عطاءٍ القَصَّابُ (1).
و(قوله: كُنتُ أُتَرجِمُ بَينَ يَدَيِ ابنِ عَبَّاسٍ وبَينَ النَّاسِ) أي: أبلِّغُ كلامه، وأفسِّره لِمَن لا يفهمه، وعُرفُ الترجمةِ: التعبيرُ بلغةٍ عن لغةٍ لمن لا يفهم، وقيل كان أبو جمرة يتكلَّم بالفارسيَّة. وفيه دليلٌ على أنَّ ابنَ عبَّاس كان يكتفي في الترجمة بواحد؛ لأنَّهُ مُخبِرٌ، وقد اختُلِفَ فيه، فقيل: لا يكفي الواحدُ، بل لا بدَّ من اثنين؛ لأنَّها شهادة.
و(قوله: فَأَتَتهُ امرَأَةٌ فَسَأَلَتهُ عَن نَبِيذِ الجَرِّ) وهي: جمعُ جَرَّةٍ، وهي: قِلَالٌ من
(1) في (ع): والراء بدل والزاي، وعطاء بدل من أبي عطاء، والتصحيح من تقريب التهذيب وبقية النسخ.
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنِ الوَفدُ؟ - أو: مَنِ القَومُ؟ - قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: مَرحَبًا بِالقَومِ - أو بِالوَفدِ - غَيرَ خَزَايَا وَلا النَّدَامَى، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رسولَ الله، إِنَّا نَأتِيكَ مِن شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَينَنَا وَبَينَكَ هَذَا الحَيَّ
ــ
فَخَّارٍ، غير أنها مَطلِيَّةٌ بالزجاج، وهو الحَنتَمُ، ونبيذُ الجرِّ: هو ما يُنبَذُ فيها من التمر وغيره. وإنما سأَلَتهُ عن حكم النبيذ في الجِرَارِ: هل يَحِلُّ أم لا؟ فذكَرَ لها ما يدُلُّ على منع ذلك، ثم أخذ في ذكر الحديث بقصَّته. ففيه: ما يدلُّ على أن المفتي يجوز (1) له أن يذكر الدليلَ مستغنيًا به عن النصِّ على الفتيا إذا كان السائلُ بصيرًا بموضع الحُجَّة.
و(قوله عليه الصلاة والسلام: مَنِ القَومُ؟ أو مَنِ الوَفدُ؟ ) هذا شَكٌّ من بعض الرواة. والوَفد: الوافدون، وهم القادمون والزائرون، يقال: وَفَدَ يَفِدُ، فهو وافد، والجمع: وَافِدونَ وَوُفُود، والقوم وَفدٌ، وقال ابنُ عبَّاسِ رضي الله عنهما في قوله تعالى: يَومَ نَحشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحمَنِ وَفدًا رُكبانًا.
و(قوله: مَرحَبًا) هو من الرُّحب - بضمِّ الراء - وهو السعة، والرَّحبُ - بفتح الراء -: هو الشيءُ الواسع، وهو منصوبٌ بفعلٍ مضمَرٍ، لا يُستعمل إظهارُهُ، أي: صادفتَ رُحبًا، أو أتيتَ رَحبًا؛ فاستَأنِس ولا تَستَوحِش. والخَزَايَا جمع خَزيَان؛ مثلُ: نَدمَان ونَدَامَى، وسَكران وسَكَارَى؛ كما قال تأَبَّطَ شَرًّا:
. . . . . . . . .
…
. . . . . . وَالمَوتُ خَزيَانُ يَنظُرُ (2)
خَزِيَ الرجلُ يَخزَى خِزيًا؛ إذا ذَلَّ، وخَزَايَةً: إذَا خَجِلَ واستحيى. والنَّدَامَى هنا: جمعُ نادمٍ؛ لكنَّه على غير قياس؛ لأنَّ قياس نَدَامَى أن يكون جمع نَدمَان، كما
(1) ساقط من (ع).
(2)
البيت بتمامه:
فخالط سهلٌ الأرضَ لم يكدحِ الصّفا
…
به كدحة والموت خزيانُ ينظرُ
مِن كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لا نَستَطِيعُ أَن نَأتِيَكَ إِلَاّ فِي شَهرِ الحَرَامِ،
ــ
قلناه، والندمان: هم المُجَاليِسُ على الخمر وساقيها؛ كما قال الشاعر:
فَإِن كُنتَ نَدمَانِي فَبِالأَكبَرِ اسقِنِي
…
وَلَا تَسقِني بِالأَصغَرِ المُتَثَلِّمِ
وليس مرادًا هاهنا، وإِنَّمَا جَمَعَ نَادِماً هذا على نَدَامَى؛ إتباعًا لخَزَايَا؛ على عادتهم في إتباع اللفظِ اللفظَ، وإن لم يكن بمعناه؛ كما قالوا: إنِّي لآتيه بالغَدَايَا والعَشَايَا؛ فجمعوا الغُدوَةَ: غَدَايَا؛ لمَّا ضمَّوه إلى العشايا؛ كما قال شاعرهم:
هَتَّاكِ أَخبِيَةٍ وَلاجِ أَبويَةٍ (1)
…
. . . . . . . . . . . .
فجمَعَ البابَ على أَبوِيةً، لَمَّا أتبعَهُ أَخبِيَة، ولو أفرده لما جاز ذلك، ومن هذا النوع: قولُهُ عليه الصلاة والسلام للنساء المتَّبعات للجنازة: ارجِعنَ مَأزُورَاتٍ غَيرَ مَأجُورَاتٍ (2)، ولولا مراعاةُ الإتباع قال: مَوزُورات بالواو؛ لأنه من الوِزرِ. وقال القَزَّاز (3) في جامعه: يقال في النادم: نَدمَانُ؛ فيكون نَدَامَى على القياس، ومعنى هذا القول: التأنيسُ، والإكرامُ والثناءُ عليهم بأنَّهم بادروا بإسلامهم طائِعِينَ من غيرِ خِزيٍ لَحِقَهُم من قَهرٍ ولا سِبَاء، ثُمَّ إنَّهم لمَّا أسلموا كذلك احتُرِمُوا وأُكرِموا وأُحِبُّوا، فلم يَندَمُوا على ذلك، بل انشرحَت صدورهم للإسلام، وتنوَّرَت قلوبُهُم بالإيمان.
وغَيرَ خزايا: منصوبٌ على الحال، أي: أتيتُم في هذه الحال. وروي: ولا الندامى، ولا ندامى، معرَّفًا وغير مُعَرَّف؛ وهما بمعنىً واحدٍ. والشُّقَّة البعيدة: المسافةُ البعيدة الصعبة. والحَيُّ: القبيل، وربيعة: هو خبَرُ مبتدأ محذوف؛ أي: نحنُ بنو ربيعة.
و(قوله: وَإِنَّا لا نَستَطِيعُ أَن نَأتِيَكَ إِلَاّ فِي شَهرِ الحَرَامِ) كذا الرواية الصحيحة
(1) هذا صَدْرُ بيت للقُلاخِ بن حُبَابة، وقيل: لابن مُقبِل، وعجزه:
يَخلِطُ بِالبِرِّ منه الجِدَّ واللِّينا.
(2)
رواه ابن ماجه (1578) وَفي إسناده: دينار بن عمر، ضعيف.
(3)
هو محمد بن جعفر القيرواني النحوي، عالم باللغة. له كتاب "الجامع" توفي سنة =
فَمُرنَا بِأَمرٍ فَصلٍ نُخبِرُ بِهِ مَن وَرَاءَنَا نَدخُل بِهِ الجَنَّةَ، قَالَ: فَأَمَرَهُم بِأَربَعٍ، وَنَهَاهُم عَن أَربَعٍ؛
ــ
بتعريف الحرام، وإضافة الشهر إليه، وهو من باب إضافةِ الشيء إلى صفته؛ كما قالوا: مسجدُ الجامع، وصلاةُ الأُولَى؛ وقال تعالى: وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وهو على تقدير محذوف؛ فكأنّه قال: شَهرٌ الوقتِ الحرامِ، ومسجدُ المكانِ الجامعِ، ولدارُ الحالةِ الآخِرَةِ، ونحوه.
ويعنون بشَهرِ الحرامِ: رجبًا؛ لأنَّه متفردٌ بالتحريم من شهور الحِلِّ، بخلاف سائر الأشهر الحُرُم؛ فإنَّها متوالية؛ ولذلك قال فيها: ثلاثةٌ سَرد، وواحدٌ فَرد، يعنون به: رجبًا، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ شَهرُ مُضَرَ (1)، وإنما نسبُهُ إليهم: إمَّا لأنَّها انفردَت بابتداء احترامه، أو لتخصيص الاحترامِ به، أو بزيادةِ التعظيمِ له على غيرهم، والله تعالى أعلم.
وقد وقع في بعض النسخ: في شهرٍ حَرَامٍ، وهو يصلُحُ لرجبٍ وحدَهُ، ولجميعِ الأشهُرِ الحُرُمِ، وحاصلُ قولهم هذا أنه اعتذارٌ عن امتناعِ تكرُّرِ قدومهم عليه.
و(قوله: فَمُرنَا بِأَمرٍ فَصلٍ نُخبِرُ بِهِ مَن وَرَاءَنَا، نَدخُل بِهِ الجَنَّةَ) قيّدناه على مَن يُوثَقُ بعلمِه: نُخبِر بهُ مرفوعًا، وندخل مرفوعًا ومجزومًا؛ فرفعهما على الصفة لأَمر، وجزمُ ندخُل على جوابِ الأمرِ المتضمِّنِ للجزاء؛ فكأنَّه قال: إن أمرتَنَا بأمرٍ واضحٍ، فعلنا به، ورجَونَا دخولَ الجنة بذلك الفعل.
والقولُ الفصلُ: هو الواضحُ البليغُ الذي يَفصِلُ بين الحقِّ والباطل؛ كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقَولٌ فَصلٌ.
و(قوله: فَأَمَرَهُم بِأَربَعٍ، وَنَهَاهُم عَن أَربَعٍ) ثُمَّ إنَّه ذكر خمسًا: فقيل في ذلك:
= (412 هـ). انظر: (سير أعلام النبلاء 17/ 326).
(1)
رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679)، وأبو داود (1947).
قَالَ: أَمَرَهُم بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَحدَهُ، وَقَالَ: هَل تَدرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَن لَا إِلهَ إِلَاّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَومُ رَمَضَانَ، وَأَن تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ المَغنَمِ، وَنَهَاهُم عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالحَنتَمِ، وَالمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: المُقَيَّرِ، وَرُبَّمَا قَالَ: النَّقِيرِ - وَقَالَ: احفَظُوهُ، وَأَخبِرُوا بِهِ مِن وَرَائِكُم.
وَفِي رِوَايَةٍ: مَن وَرَاءَكُم.
رواه البخاري (53)، ومسلم (17)، وأبو داود (3692) و (3694) و (3696)، والترمذي (2614)، والنسائي (8/ 323).
[15]
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ؛ أَنَّ نَاسًا مِن عَبدِ القَيسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَر نَحو مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: آمُرُكُم بِأَربَعٍ، وَأَنهَاكُم عَن أَربَعٍ: اعبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ،
ــ
إنَّ أَوَّلَى الأربعِ الموعود بها: هو إقامُ الصلاة، في ذكَرَ كلمةَ التوحيد؛ تبرُّكًا بها، وتشريفًا لها
…
كما قيل ذلك في قوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ في قولِ كثيرٍ من أهل العلم. وقيل: إنما قصد إلى ذِكرِ الأركان الأربع التي هي: التوحيدُ، والصلاة، والصوم، والزكاة، ثم ظهر له أنَّهُم أهلُ غزو وجهاد، فَبَيَّنَ لهم وجوبَ أداءِ الخُمُسِ، والله أعلم.
وإنما لم يذكُر لهم الحجَّ؛ لأنَّهم لم يكن لهم إليه سبيلٌ من أجلِ كُفَّارِ مُضَرَ، أو لأَنَّ وجوبَ الحجِّ على التراخي، والله تعالى أعلم. وقد تقدَّم القولُ في الإيمان والإسلام، وأنَّهما حقيقتان متباينتانِ في الأصل، وقد يُتَوَسَّعُ فَيُطلَقُ أحدها على الآخر، كما جاء هنا؛ فإنَّهُ أطلَقَ الإيمانَ على الإسلام؛ لأنَّهُ عنه يكون غالبًا، وهو مُظهِرُهُ.
و(قوله: وَأَنهَاكُم عَن أَربَعٍ) أي: عن الانتباذِ في هذه الأواني الأربع؛ فالمنهيُّ عنه واحدٌ بالنوع، وهو الانتباذُ، ثمَّ إنَّه تعدَّد بحَسَبِ هذه الأوعية الأربعِ
وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعطُوا الخُمُسَ مِنَ الغَنَائِمِ، وَأَنهَاكُم عَن أَربَعٍ: عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالحَنتَمِ، وَالمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا عِلمُكَ بِالنَّقِيرِ؟ قَالَ: بَلَى؛ جِذعٌ تَنقُرُونَهُ، فَتَقذِفُونَ فِيهِ مِنَ القُطَيعَاءِ - أو قَالَ: مِنَ التَّمرِ - ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبتُمُوهُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُم - أو إِنَّ أَحَدَهُم - لَيَضرِبُ ابنَ عَمِّهِ بِالسَّيفِ، قَال: وَفِي القَومِ رَجُلٌ
ــ
التي هي: الدُّبَّاء، والحَنتَم، والمزفَّت، والنَّقِير، وخَصَّ هذه بالنهي؛ لأنَّها أوانيهم التي كانوا ينتبذون فيها: فالدُّبَّاء ممدودًا، وهي: القَرعَةُ كانت يُنبَذُ فيها فيضَرَّى (1)؛ قاله الهروي.
والحَنتَمُ: أَصَحُّ ما قيلَ فيها: إنَّها كانت جِرَارًا مَطلِيَّةً بالحَنتَمِ المعمولِ من الزجاجِ، كانت الخمرُ تُحمَلُ فيها، ونُهُوا عن الانتباذ فيها؛ لأنَّها تعجِّلُ إسكارَ النبيذ كالدُّبَّاء، وقال عطاءٌ: كانت تُعمَلُ مِن طين يعجن بالدم والشعر؛ وعلى هذا يكونُ النهيُ عنها؛ لأجل أصل النجاسة، والأوَّل أعرفُ وأصحُّ.
والمُزَفَّت: المطليُّ بالقارِ، وهو نوعٌ من الزِّفت. والنَّقِيرُ: مفسَّر في الحديث. والجِذع: أصل النخلة، ويجمع على جذوع. وتَقذِفُون: تجعلون وترمون، وأصل القذف: الرمي. والقُطَيعَاء: نوعٌ من التمر يقال له: الشِّهرِيز.
وفي رواية أخرى: وتُدِيفُونَ مِنَ القُطَيعَاءِ، والرواية: مضموم التاء رباعيًّا، وبالدال المهملة، وقد حكى ابن دُرَيد: دُفتُ الدَّوَاءَ وغيرَهُ بالماء أَدُوفُهُ، بإهمال الدال، وحكى غيره أنه (2) يقال: ذُفتُه أَذُوفُهُ، وسُمٌّ مَذُوفٌ ومَذِيفٌ، ومُذَوَّوفٌ، ومُذَافٌ، بالذال المعجمة، وحكى غيره أنه يقال: أَدافَ الدواءَ بالدواء؛ فالروايةُ على هذا صحيحةٌ، ومعناه: خَلَطَ ومزَجَ. والأَسقِية: جمعُ سِقَاءٍ، وهو الإناءُ من الجِلدِ. والأَدَمُ: جمع أَديم، وهو الجلدُ أيضًا.
(1)" فيضرى": أي: يشتدّ.
(2)
من (ل).
أَصَابَتهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ، وَكُنتُ أَخبَأُهَا حَيَاءً مِن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلتُ: فَفِيمَ نَشرَبُ يا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: فِي أَسقِيَةِ الأَدَمِ الَّتِي تُلاثُ عَلَى أَفوَاهِهَا، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ أَرضَنَا كَثِيرَةُ الجِرذَانِ، وَلَا تَبقَى فيِهَا أَسقِيَةُ الأَدَمِ،
ــ
و(تُلَاثُ عَلَى (1) أَفوَاهِهَا) أي: تُشَدُّ وتُربَط. قال القُتَبِيُّ (2): أصلُ اللَّوثِ: الطَّيُّ، ولُثتُ العمامةَ: لَفَفتُها؛ وهذا نحو ممَّا يقال: عليكم بالمُوكَى بالقصر، أي: السقاء الذي يُربَطُ فوه بالوِكَاء، وهو الخيط.
والجِرذَان جمعُ جُرَذٍ، وهو الفأر، وإنما حضَّهم على الانتباذ في الأسقية؛ لأنها إذا غلا فيها النبيذُ انشقَّت لرقَّةِ (3) الجلود خلافِ الأواني المذكورةِ؛ قيلُ: فإنها تعجِّل الشدَّةَ وتُخفِيهَا.
و(قولهم: إِنَّ أَرضَنَا كَثِيرَةُ الجِرذَانِ، وَلَا تَبقَى فيِهَا أَسقِيَةُ الأَدَمِ) أي: لأنَّ الجِرذَانَ تأكلها؛ ولذلك قال لهم: وَإِن أَكَلَتهَا الجِرذَانُ، ولم يعذرهم بذلك؛ لأنَّهم يمكنهم التحرُّزُ بتعليق الأَسقية، أو باتِّخَاذِ ما يُهلِكُ الفئران مِن حيوانٍ أو غيره، والله تعالى أعلم.
وقد تمسَّكَ بعض أهل العلم بظاهر هذا النهي عن الانتباذ في تلك الظروف؛ فحمله على التحريم، ومِمَّن قال هذا: ابن عمر، وابن عباس، على ما يأتي في الأشربة؛ فسنبيِّن هنالك - إن شاء الله تعالى - أنَّ ذلك منسوخٌ بقوله عليه الصلاة والسلام: كنتُ نَهَيتُكُم عَنِ الاِنتِبَاذِ إِلَاّ فِي الأسِقَية، فَانتَبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيرَ أَلَاّ تَشرَبُوا مُسكِرًا (4).
(1) في (ع) و (م): و.
(2)
كذا في (ع) و (م) و (ل)، وفي اللسان (ابن قتيبة)، انظر: مادة (لوث).
(3)
في (ع): لقوة، والتصحيح من (ل) و (م) وشرح النووي لصحيح مسلم.
(4)
رواه مسلم (977) من حديث بُريدة رضي الله عنه.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَإِن أَكَلَتهَا الجِرذَانُ! وَإِن أَكَلَتهَا الجِرذَانُ! وَإِن أَكَلَتهَا الجِرذَانُ! قَالَ: وَقَالَ نبي الله صلى الله عليه وسلم لِأُشَجِّ عَبدِ القَيسِ: إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلمُ وَالأَنَاةُ.
رواه أحمد (3/ 23)، ومسلم (18)، والنسائي (8/ 306).
* * *
ــ
وأشجُّ عبد القيس اسمه: المنذر بن عائذ، بالذال المعجمة، وقيل: المنذر بن الحارث، وقيل: هو عبد الله بنُ عَوف، وقيل: قيس، والأوَّلُ أصحُّ.
وقد روى أبو داودَ، من حديثِ أُمِّ أَبَانَ بنتِ الوازعِ بن زارع، عن جَدِّها زارع، وكان في وَفدِ عبد القيس، قال: فلمَّا قَدِمنَا المدينةَ، تبادَرنَا مِن رواحلنا نُقبِّلُ يدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِجلَهُ، وانتظَرَ المنذرُ حتى أتى عَيبَتَهُ (1)، فَلَبِسَ ثوبه، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ ورسوله: الحِلمُ، والأَنَاةُ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا، أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيهِمَا؟ فَقَالَ: بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيهِمَا، قَالَ: الحَمدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ (2).
والحِلمُ هنا: هو العَقلَ، وهو بكسر الحاء؛ يقال منه: حَلُمَ الرجلُ يَحلُمُ، بضم اللام: إذا صار حليمًا، وتحلَّم: إذا تكلَّف ذلك. والأناة: الرفقُ والتثبُّت في الأمور؛ يقال منه: تأنَّى الرجل يتأنَّى تَأَنِّيًا؛ ومنه قولُ الشاعر:
أَنَاةً وحِلمًا وانتِظَارًا بِهِم غَدًا
وقد يقال الحِلمُ على الأناة. وقد ظهَرَ من حديث أبي داود: أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك للأشَجِّ؛ لِمَا ظَهَرَ له منه مِن رِفقِهِ وتَركِ عجلته. وقد رُوي في غير
(1)"العَيْبَة": وعاء يُوضع فيه الثياب، ثم يُوضع على الرحل، وقيل: هو الخُرْج.
(2)
رواه أبو داود (5225).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كتاب أبي داود: أنَّه لمَّا بادَرَ قومُهُ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم تأنَّى هو، حتَّى جمَعَ رحالَهُم، وعقَلَ ناقته، ولَبِسَ ثيابًا جُدُدًا، ثم أقبَلَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حالِ هدوءٍ وسكينة، فأجلَسَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جانبه، ثم إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِوَفدِ عبد القيس: تُبَايِعُونَ عَلَى أَنفُسِكُم وَعَلَى قَومِكُم؟ فقال القومُ: نَعَم، فقال الأَشَجُّ: يا رسولَ الله، إِنَّكَ لم تُزَاوِلِ الرَّجُلَ عَلَى أَشَدَّ عَلَيهِ مِن دِينِهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى أَنفُسِنَا، وتُرسِلُ معنا مَن يَدعُوهُم، فمَنِ اتَّبَعَنَا كَانَ مِنَّا، ومَن أَبَى قَاتَلنَاهُ، قال: صَدَقتَ؛ إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ. . الحديثَ (1).
فالأُولى: هي الأناة، والثانية: هي العقل. وفيه من الفقه: جَوَازُ مدحِ الرجلِ مشافهةً بما فيه إذا أُمِنَت عليه الفتنةُ، والأصلُ منعُ ذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إِيَّاكُم والمَدح فَإِنَّهُ الذَّبح (2)، ولقوله للمادح: وَيلَكَ! قَطَعتَ عُنُقَ أَخِيكَ (3)، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
و(قوله: وَفِي القَومِ رَجُلٌ أَصَابَتهُ جِرَاحَةٌ كَذَلك) قيل: اسمُ هذا الرجل: جَهمُ بن قُثَمَ؛ قاله ابن أبي خَيثَمَةَ، وقيل: كانت الجراحةُ في ساقه.
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: وهذا الرجل ليس هو أشج عبد القيس؛ لأن اسمهما مختلف كما ذكر هنا وفيما تقدم؛ ولأنَّ الأصل في الشِّجاجِ لا يكون إلا في الرأس والوجه. وفي الصحاح: رَجُلٌ أَشَجُّ بيِّنُ الشَّجَجِ: إذا كان في جبينه أَثَرُ الشَّجَّةِ؛ وعلى هذا: يدُلُّ كونُ هذا الرجل غلب عليه الأشَجُّ؛ لأنَّهُ إنَّما يغلبُ على
(1) انظر روايات الحديث في مجمع الزوائد (9/ 387 - 390).
(2)
رواه أحمد (4/ 99)، وابن ماجه (3743) كلاهما من حديث معاوية رضي الله عنه، وانظر فتح الباري (10/ 478).
(3)
رواه البخاري (2662) في الشهادات، ومسلم (3000) في الزهد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإنسان ما كان ظاهرًا من أمره، ولمَّا كانت ظاهرةً في وجهه، نسَبَهُ إليها كُلُّ من كان رآه منه؛ فغلب عليه ذلك، ولو كانت في ساقه، لَمَا غلَبَ عليه ذلك، والله أعلم. وأصلُ الشَّجِّ القطعُ والشَّقُّ؛ ومنه قولهم: شَجَّتِ السفينةُ البحرَ؛ أي: شَقَّتهُ، وشَجَجتُ المفازة: قطعتُهَا؛ قال الشاعر:
تَشُجُّ بِيَ العَوجَاءُ كُلَّ تَنُوفَةٍ
…
كَأَنَّ لَهَا بَوًّا بِنِهيٍ تُغَاوِلُه (1)
وتعريف النبي صلى الله عليه وسلم بحالِ ذلك الرجل يَدُلُّ على أنَّه عَرَفَهُ بعينه؛ غير أنه لم يواجههُ بذلك؛ حُسنَ عِشرةٍ منه صلى الله عليه وسلم على مقتضى كَرَمِ خُلُقه؛ فإنّهُ كَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكرُهُه.
وإنَّما خَصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الأربعَ الأواني بالذكر؛ لأنها أغلب أوانيهم، ويلحق بها في النهي ما كان في معناها؛ كأواني الزُّجَاج، والحديد، والنُّحَاس، وغير ذلك مما تعجِّل الإسكار؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في جواب قولهم: فِبمَ نَشرَبُ يَا رسولَ الله؟ فَقَالَ: في أَسقِيةِ الأَدَمِ، وبدليلِ قوله في حديث بُرَيدَةَ: وكُنتُ نَهَيتُكُم عَنِ النَّبِيذِ إِلَاّ فِي سِقَاءٍ، ولأنَّ ما عدا تلك الأربعَ في معناها، فَيُلحَقُ بها على طريقة نَفيِ الفارق، والله أعلم.
* * *
(1)"تنوفة": القَفْر من الأرض. "البوّ": وَلَد الناقة. "النهي": الغدير. "تغاوله": تأخذه من حيث لم يَدْرِ.