الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(60) باب ما خُصَّ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر
[146]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا بِلَحمٍ، فَرُفِعَ إِلَيهِ الذِّرَاعُ وَكَانَت تُعجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنهَا نَهسَةً، فَقَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَومَ
ــ
(60)
ومن باب ما خصّ به نبينا صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة
(قوله (1): فنهس منها نهسة) النهس بالسين المهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان، وقد يقال عليه أيضًا نهش بالمثلثة (2)، حكاه الجوهري، وقيل: النهش بالأضراس، قاله أبو العباس، وقال غيره: هو نثر (3) اللحم.
و(قوله: أنا سيّد الناس) أي: المقدم عليهم. والسيّد هو الذي يسود قومه؛ أي: يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة، بحيث يلجأون إليه ويعوّلون عليه في مهماتهم، قال الشاعر (4):
فإن كنتَ سيِّدَنا سدتَنا
…
وإن كنت للخال فاذهب فخِل
وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، ويشهد له بذلك النبيُّون والمرسلون. وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء، فكلّهم تبرّأ منها. ودلّ على غيره، إلى أن بلغت محلّها، واستقرَّت في نصابها.
ومحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم للذراع؛ لنضج لحمها وسُرعة استمرائها وزيادة
(1) من هنا إلى قوله: (بالتنوين فيهما) ساقط من (ع).
(2)
في (ل): بالمعجمة.
(3)
في (ل): هرش.
(4)
نسبه في اللسان إلى رجل من عبد قيس.
القِيَامَةِ. وَهَل تَدرُونَ بِمَ ذلكَ؟ يَجمَعُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدنُو الشَّمسُ، فَيَبلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَربِ مَا لا يُطِيقُونَ وَما لا يَحتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعضُ النَّاسِ لِبَعضٍ: أَلا تَرَونَ مَا أَنتُم فِيهِ؟ أَلا تَرَون مَا قَد بَلَغَكُم؟ أَلا تَنظُرُونَ مَن يَشفَعُ لَكُم إِلَى رَبِّكُم؟ فَيَقُولُ بَعضُ النَّاسِ لِبَعضٍ: ائتُوا آدَمَ، فَيَأتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ! أَنتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ،
ــ
لذتها، ولبعدها عن موضع الأثفال (1).
والصعيد المستوي من الأرض. الثرى هو التراب. ثعلب: هو وجه الأرض.
و(قوله: فيسمعهم الداعي وينفُذهم البصر) معناه: أنهم مجتمعون مهتمُّون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد، بحيث إن دعاهم داعٍ سمعوه، وإن نظر إليهم ناظر أدركهم. ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر، كقوله تعالى: يَومَ يَدعُو الدَّاعِي إِلَى شَيءٍ نُكُرٍ.
و(قوله: خلقك الله بيده) اعلم أنّ الله تعالى منزّه عن يد الجارحة كما قد قدمناه. واليد في كلام العرب تطلق على القدرة والنعمة والملك. واللائق هنا حملُها على القدرة (2)، وتكون فائدة الاختصاص لآدم: أنّه تعالى خلقه بقدرته ابتداءً من غير سبب ولا واسطة خلق ولا أطوار قلبه فيها، وذلك بخلاف غيره من ولده، ويحتمل أن يكون شرّفه بالإضافة إليه، كما قال: بَيتِيَ. وقد قدّمنا أن التسليم في المشكلات أسلم.
و(قوله: ونفخ فيك من روحه) الروح هنا هو المذكور في قوله: تَنَزَّلُ
(1)"الأثفال": الرجيع والروث.
(2)
مذهب السلف: أنَّ لله تعالى يدًا أثبتها لنفسه من غير تأويل ولا تكلييف ولا تشبيه. وهو الأسلم.
وَأَمَرَ المَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى إِلَى مَا قَد بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي عز وجل قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيتُهُ، نَفسِي، نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ! أَنتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرضِ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبدًا شَكُورًا، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّنا، أَلا تَرَى مَا نَحنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَد بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُم: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن
ــ
المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ونَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ وشرّفه بالإضافة كما قال: {فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رُوحِنَا} وهو جبريل على قول أكثر المفسرين؛ أي: كان كل واحد منهما من نفخة الملك، فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته، ولا يلتفت إلى ما يقال غير هذا. وقد تقدم أنّ غضب الله عبارة عن انتقامه وحلول عذابه.
والشفاعة أصلها: الضم والجمع، ومنه ناقة شَفُوع، إذا جمعت بين حلبتين في حلبة واحدة، وناقة شافع، إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضمُّ واحدٍ إلى واحدٍ. والشفعة ضمُّ ملك الشريك إلى ملكك. فالشفاعة إذن ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفِّع وإيصال منفعةٍ إلى المشفوع له، وسيأتي ذكر أقسامها.
والشكور الكثير الشكر، وهو من أبنية المبالغة، وأصل الشكر الظهور، ومنه دابة شَكور، إذا كانت يظهر عليها من السمن فوق ما تأكله من العلف، وأشكر الضرع، إذا ظهر امتلاؤه باللبن، والسماء بالمطر، فكأنّ الشاكر يظهر القيام بحق المنعم، ولذلك قيل: الشكور هو: الذي ظهر منه الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة، وملازمة الحرمة.
يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ.
وَإِنَّهُ قَد كَانَت لِي دَعوَةٌ دَعَوتُ بِهَا عَلَى قَومِي، نَفسِي، نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى إِبرَاهِيمَ. فَيَأتُونَ إِبرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِن أهل الأَرضِ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَد
ــ
و(قوله: كانت لي دعوة دعوت بها على قومي) يريد قوله: {رَبِّ لا تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} وإبراهيم بالسريانية هو الأب الرحيم، حكاه المفسرون.
والخليل الصديق المخلص، والخُلَّة بضم الخاء الصداقة والمودة، ويقال فيها أيضًا. خلالة بالضم والفتح والكسر، والخَلة بفتح الخاء. الفقر والحاجة، والخِلة بكسرها واحدة خِلل السيوف وهي بطائن أغشيتها، والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال.
واختُلِف في الخليل اسم إبراهيم عليه السلام من أي هذه المعاني والألفاظ أخذ؟ فقيل: إنّه مأخوذ من الخُلّة بمعنى الصداقة، وذلك أنه صدق في محبة الله تعالى، وأخلص فيها حتى آثر محبته على كل محبوباته، فبذل ماله للضيفان وولده للقربان، وجسده للنيران. وقيل: من الخَلَّة التي بمعنى الفقر والحاجة، وذلك أنه افتقر إلى الله في حوائجه ولجأ إليه في فاقته، حتى لم يلتفت إلى غيره، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل وهو في الهواء حين رمي في المنجنيق: ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك، فلا. وقيل: من الخَلَل بمعنى الفرجة بين الشيئين، ذلك لما تخلل قلبه من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك. وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء، فقال:
قد تخللت مسلك الروح مني
…
ولذا سمي الخليل خليلاً
ولقد جمع هذه المعاني وأحسن من قال في الخلة: إنها صفاء المودّة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار، والغنى عن الأغيار.
و(قوله: إنما كنت خليلاً من وراء وراء) أي: إنما كنت خليلاً متأخرًا عن
بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُم إِبرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا، لَم يَغضَب قَبلَهُ
ــ
غيري؛ إشارة إلى أن كمالَ الخلّة، إنما تصح لمن يصحّ له في ذلك اليوم المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون، وذلك لم يصح ولا يصح إلَاّ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وراءَ وراءَ صحيح الرواية فيه بالمد والفتح، وكأنه مبني على الفتح (1)؛ لتضمنه الحرف، كما قالت العرب: هو جاري بيتَ بيتَ؛ أي: بيته إلى بيتي، فكأنه قال في الحديث: من ورائي إلى ورائي. ونحوه: خمسة عشر، وسائر الأعداد المركبة، ومنه قولهم: هي همزة بين بين، وأتيتك صباح مساء، ويوم يوم، وتركوا البلاد حيثَ بيث، وحاث باث؛ ونحو ذلك.
وقد زعم بعض النحويين المتأخرين أن الصواب الضم فيهما، واستدلّ على ذلك بما أنشده الجوهري في الصحاح:
إذا أنا لم أُومن عليك ولم يكُن
…
لِقاؤُكَ إلَاّ من وَراءُ وراءُ
قلت: ولا شك أن السماع في هذا البيت بالضم فيهما، ووجهه ما نبّه عليه الأخفش؛ حيث قال: لقيته من وراء، فترفعه على الغاية، كقولك: من قبلُ ومن بعدُ، فنبّه على أن: وراء الأولى، إنما بنيت لقطعها عن الإضافة، وأما الثانية: فيحمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف من لدلالة الأولى عليها، ويحتمل أن تكون الثانية تأكيدًا لفظيًّا للأولى. ويجوز أن تكون بدلاً منها، أو عطف بيان عليها. كما قالوا: يا نصرُ نصرٌ على تكلف. وقد وجدت في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب بن محمد الفهري السبتي: مِن وراءَ، مِن وراءَ بتكرار مِن وفتح الهمزتين. وكان رحمه الله تعالى قد اعتنى بهذا الكتاب غاية الاعتناء، وقيده تقييدًا حسنًا.
فلا يصح أن يقال: إن ذلك بناء على الوجه الأول، لوجود من المضمنة في الوجه الأول، وإنما محمله على أن وراء قطعت عن الإضافة، ولم تقصد قصد مضاف بعينه، فصارت كأنها اسم علم، وهي مؤنثة، فيجتمع فيها
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (م).
مِثلَهُ، وَلا يَغضَبُ بَعدَهُ مِثلَهُ - وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ - نَفسِي. نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى
ــ
التعريف والتأنيث، فيمتنع الصرف. وإنما قلنا: إن وراء مؤنثة؛ لما قال الجوهري: إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها: وُريِّئة. وعلى هذا: فهمزتها ليست للتأنيث، ولأن همزة التأنيث لا تقع ثالثة. وقد وجدت في بعض المعلقات بخط معتبر. قال الفراء: تقول العرب: فلان يكلمني من وراءَ وراءَ، بالنصب على الظرف، ومن وراء وراء، بجعل الأولى ظرفًا والثانية غاية. ومن وراء وراء بجعلهما غايتين. ومِن وراءِ وراء تضيف الأولى إلى الثانية وتمنع الثانية من الجر. ومن وراءِ وراءِ على البناء. وحكى ثعلب عن بعض الناس: أنهم قالوا: من وراء وراء بالتنوين فيهما (1).
و(قوله: وذكر كذباته) قد فسّرها في الرواية الأخرى، بما ليس كذبًا على التحقيق، ونحن نذكرها ونبيّنها إن شاء الله تعالى. فمنها قوله في الكوكب: هَذَا رَبِّي ذكر المفسرون أنّ ذلك كان منه في حال الطفولية في أول حال استدلاله، ثم إنه لَمّا تكامل نظره؛ وتمّ على السداد وضح له الحق، قال: وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفًا.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا لا يليق بالأنبياء؛ لأن الله تعالى خصهم بكمال العقل والمعرفة بالله عز وجل، وسلامة الفطرة والحماية عن الجهل بالله تعالى والكفر من أول نشوئهم وإلى تناهي أمرهم، إذ لم يُسمع عن واحد منهم أنه اعتقد مع الله إلَهًا آخر، ولا اعتقد محالاً على الله تعالى، ولا ارتكب شيئًا من قبائح أممهم الذين أرسلوا إليهم، لا قبل النبوة ولا بعدها. ولو كان شيء من ذلك لقَرَّعهم بذلك أممهم لَمَّا دعوهم إلى التوحيد، ولاحتجوا عليهم بذلك، ولم ينقل شيء من ذلك. وأما بعد إرسالهم فكل (2) ذلك محال عليهم عقلاً على ما نبينه.
(1) من قوله: (قوله: فنهس منها نهسة) إلى هنا، ساقط من (ع).
(2)
في (م): فكان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك لقومه على جهة الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ لهم، والإنكار عليهم، وحذفت همزة الاستفهام اتساعًا، كما قالت العرب:
لعمرك ما أدري وإني لحاسب
…
بسبعٍ رميتُ الجمرَ أم بثمانِ (1)
وقال آخر (2):
رفوني (3) وقالوا: يا خويلد لم ترع
…
فقلت: وأنكرت الوجوه هُم هُم
أي: أهم أهم.
وقيل: إنما قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه؛ تنبيهًا على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية.
ومنها قوله لآلهتهم: {بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا} إنما قاله ممهدًا للاستدلال على أنها ليست آلهة، وقطعا لقومه في قولهم: إنها تضرُّ وتنفع. وهذا الاستدلال والذي قبله يتحرّر من الشرط المتصل، ولذلك أردف على قوله: بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم، قوله: فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ، وعند ذلك قالوا: لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ فقَالَ لهم: أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الآية، فحقت كلمته وظهرت حجته.
(1) القائل: هو عمر بن أبي ربيعة.
(2)
هو أبو خراش الهذلي.
(3)
في (ل) و (م): رموني. والمثبت من (ع) واللسان.
و"رفوني": سكَّنوني من الرعب.
غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى مُوسَى. فَيَأتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى! أَنتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالاتِهِ وَبِكلامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ.
ــ
ومنها قوله: إِنِّي سَقِيمٌ هذا تعريض، وحقيقته أنه سيسقم، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير، ويحتمل أن يريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم؛ إذ كان لا يصح على جواز ذلك حجة.
ومنها ما جاء في حديث إبراهيم أنّه قال قوله لزوجه سارة حين دخل أرض الجبار فسئل عنها فقال: إنها أختي. وصدق، فإنها أخته في الإسلام، وكذلك جاء عنه منصوصًا أنّه قال: إنما أنتِ أختي في الإسلام.
وعلى الجملة فأوجه هذه الأمور واضحة وصدقها معلوم على الأوجه المذكورة، فليس في شيء منها ما يقتضي عتابًا ولا عقابًا، لكن هول المقام وشدة الأمر حمله على ذلك (1) الخوف منها، وأيضًا فلنتبيّن درجة من يقول: نفسي نفسي من درجة من يقول: أمتي أمتي.
وموسى سمي بذلك؛ لأنه وجد بين موشِى بالعبرية؛ أي: الماء والشجر فعرب، والجمع موسَون في الرفع، وبالياء في النصب والجر عند البصريين، وعند الكوفيين موسُون بضم السين وموسِين بكسرها.
و(قوله: وفضلك الله برسالاته وبكلامه) هذه إشارة إلى قوله تعالى: {إِنِّي اصطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} ولا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبهه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف، ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحّت خصوصية الفضيلة لموسى بذلك؛ إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشترِك، كما قال تعالى: وَإِن أَحَدٌ مِنَ المُشرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّى يَسمَعَ كَلَامَ اللَّهِ واستيفاء الكلام على هذه المسألة سؤالاً وجوابًا في كتب الكلام.
(1) من (ل).
أَلا تَرَى مَا إلى نَحنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى إلى مَا قَد بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُم مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا، لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنِّي قَتَلتُ نَفسًا لَم أُومَر بِقَتلِهَا، نَفسِي. نَفسِي. اذهَبُوا إِلَى عِيسَى. فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى! أَنتَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلَّمتَ النَّاسَ فِي المَهدِ، وَكَلِمَةٌ مِنهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ، وَرُوحٌ مِنهُ، فَاشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَد بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُم عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليوم غَضَبًا، لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ. وَلَم يَذكُر لَهُ ذَنبًا، نَفسِي. نَفسِي. اذهَبُوا إِلَى غَيرِي. اذهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَيَأتُونِّي، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الأَنبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى مَا نَحنُ فِيهِ؟
ــ
و(قوله: وكلَّمتَ الناسَ في المهد) أي: صغيرًا في الحال الذي تمهد له فيها موضعه ليضجع عليه لصغره.
و(قوله: وكلمة منه) قال ابن عباس: سماه كلمة؛ لأنه كان بكلّمة كن من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلّب غيره. وألقاها إلى مريم أي: أبلغها إليها. وقد تقدم الكلام في وصفه عليه السلام بأنه روح الله.
و(قوله: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافا كثيرا. والذي ينبغي أن يقال: إنّ الأنبياء معصومون مما يناقض مدلولَ المعجزة عقلاً، كالكفر بالله تعالى، والكذب عليه، والتحريف في التبليغ والخطأ فيه، ومعصومون من الكبائر وعن الصغائر التي تزري بفاعلها، وتحطّ منزلته وتسقط مروءته إجماعًا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة. وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم.
واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم، فمِن
أَلا تَرَى مَا قَد بَلَغَنَا؟ فَأَنطَلِقُ فَآتِي تَحتَ العَرشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلهِمُنِي مِن مَحَامِدِهِ وَحُسنِ الثَّنَاءِ عَلَيهِ شَيئًا لَم يَفتَحهُ لأَحَدٍ قَبلِي، ثُمَّ يقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارفَع رَأسَكَ، سَل تُعطَهِ، اشفَع تُشَفَّع. فَأَرفَعُ رَأسِي
ــ
قائل: بالوقوع، ومِن قائل بمنع ذلك. والقول الوسط في ذلك: أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا وتابوا. وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويلات بجملتها، وإن قبل ذلك آحادها.
لكن الذي ينبغي أن يقال: إنّ الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر ولا مما يُزري بمناصبهم على ما تقدم، ولا كثر منهم وقوع ذلك، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم، وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم، وإنما عُددت عليهم وعوتبوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم وإلى علو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يُثاب عليه السائس (1). ولقد أحسن الجنيد (2) حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يُخِلّ ذلك بمناصبهم، ولا قدح ذلك في رتبتهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى يوم الدين - والكلام على هذه المسألة تفصيلا يستدعي تطويلا، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية.
و(قوله: فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا) قد زاد عليه في حديث أنس: فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد، ثم أخِرّ
(1)"السائس": رائِض الدّواب ومُدَرِّبها.
(2)
هو الجُنَيْدُ بن محمد الخزاز، أبو القاسم: من العلماء بالدين، ومن علماء التصوّف المشهورين. توفي سنة (297 هـ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ساجدًا (1). وبمجموع الحديثين يكمل المعنى، ويعلم مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لآداب الحضرة العليّة. ثم اعلم أن هذا الانطلاق من النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إلى جنة الفردوس التي هي أعلى الجنة، وفوقها عرش الرحمن كما جاء في الصحيح؛ بناء على أن لا محل هناك إلا الجنة والنار، وعلى أنّ العرش محيط بأعلى الجنة، والله تعالى أعلم.
ولا شكّ في أن دخول الجنة هو المحلّ الكريم، لا بد فيه من استئذان الخزنة، وعن هذا عبّر بقوله عليه الصلاة والسلام: فأستأذن على ربي، ولا يُفهم من هذا ما جرت به عاداتنا في أن المستأذَن عليه قد احتجب بداره وأحاطت به جهاته، فإذا استؤذن عليه فأذِن، دخل المستأذن معه فيما أحاط به؛ إذ كل ذلك على الله محال، فإنه منزّه عن الجسمية ولوازمها على ما تقدم.
والعرش في أصل اللغة الرفع، ومنه قوله:{مَعرُوشَاتٍ وَغَيرَ مَعرُوشَاتٍ} ؛ أي: مرفوعات القضبان، قاله ابن عباس، أو مرفوعات الحيطان على قول غيره، ومنه سمي السرير وسقف البيت عرشًا، ويقال: لما يُستظَلُّ به عرش وعريش، وإضافته إلى الله تعالى على جهة الملك أو التشريف، لا لأنّ الله استقرّ عليه أو استظلّ به كما قد توهمه بعض الجُهّال في الاستقرار، وذلك على الله محال؛ إذ يستحيل عليه الجسمية ولواحقها (2).
تنبيه: في حديث أبي هريرة: إن المحامد كانت بعد السجود، وفي حديث أنس قبل السجود في حالة القيام، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده إلى أن أسعف في طلبته.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
مذهب السلف في الصفات الإلهية إثباتُ ما أثبت الله تعالى لنفسه، دون تأويل، أو تشبيه، أو تكييف.
فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي. أُمَّتِي.
ــ
و(قوله: فأقول يا ربِّ أمتي أمتي، فيقال: يا محمدُ، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه) هذا يدل على أنه شفع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقفِ، فإنه لما أُمِر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شُرِع في حساب من عليه حِساب من أمته وغيرهم، ولذلك قال في الرواية الأخرى: فيؤذن له وتُرسَل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط. هذا المساق أحسن من مساق حديث معبد عن أنس، فإنه ذكر فيه عقيب استشفاعه لأهل الموقف أنه أجيب بشفاعته لأمته، وليست الشفاعة العامة التي طلب منه أهل الموقف. وكأن هذا الحديث سُكِت فيه عن هذه الشفاعة فذُكِرت شفاعته لأمته؛ لأن هذه الشفاعة هي التي طلبت من أنس أن يحدّث بها في ذلك الوقت، وهي التي أنكرها أهل البدع، والله أعلم.
قال القاضي عياض: شفاعات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أربعٌ:
الأولى: شفاعته العامة لأهل الموقف؛ ليعجِّل حسابهم ويُراحوا من هول موقفهم، وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم.
الثانية: في إدخال قوم الجنة دون حساب.
الثالثة: في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بشفاعته، وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعةُ الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح العقليَّين، وتلك الأصول قد استأصلها أئمتنا في كتبهم أنها مصادمة لأدلة الكتاب والسنة الدالة على وقوع الشفاعة في الآخرة. ومن تصفح الشريعة والكتاب والسنة وأقوال الصحابة وابتهالهم إلى الله تعالى في الشفاعة علم على الضرورة صحة ذلك وفساد قول من خالف في ذلك.
الرابعة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها.
فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدخِلِ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِكَ، مَن لا حِسَابَ عَلَيهِ، مِنَ البَابِ الأَيمَنِ مِن أَبوَابِ الجَنَّةِ، وَهُم شُرَكَاءُ النَّاسِ بسائر الأَبوَابِ. وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ مَا بَينَ المِصرَاعَينِ مِن مَصَارِيعِ الجَنَّةِ لَكَمَا بَينَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ. أو كَمَا بَينَ مَكَّةَ وَبُصرَى.
ــ
و(قوله: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه) يعني به - والله أعلم -: السبعين ألفًا الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. ومن الباب الأيمن هو الذي عن يمين القاصد إلى الجنة بعد جواز الصراط - والله أعلم - وكأنه أفضل الأبواب.
و(قوله: هم شركاء الناس بسائر (1) الأبواب) يحتمل أن يعود هذا الضمير إلى الذين لا حساب عليهم، وهو الظاهر ويكون معناه أنهم لا يلجؤون إلى الدخول من الباب الأيمن، بل من أي باب شاؤوا، كما جاء (2) في حديث أبي بكر، حيث قال: فهل على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، وأرجو أن تكون منهم (3). وكما قال عليه الصلاة والسلام فيمن أسبغ الوضوء وهلّل بعده: أدخله الله من أي أبواب الجنّة الثمانية شاء (4). ويحتمل أن يعود على الأمة، وفيه بعد. والمصرَعان ما بين عضادتي البابين، والباب: المغلقُ.
و(قوله: لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) يحتمل أن
(1) في (ل) و (م): في سائر.
(2)
في (ل): قال.
(3)
رواه البخاري (1897)، ومسلم (1027)، والنسائي (6/ 48) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (234)، والترمذي (55)، وابن ماجه (470)، والنسائي في اليوم والليلة (84) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
زَادَ فِي رِوَايَة - فِي قِصَّةِ إِبرَاهِيمَ - قَالَ: وَذَكَرَ قَولَهُ فِي الكَوكَبِ: هَذَا رَبِّي وَقَوله لآلِهَتِهِم: بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ.
رواه البخاري (3340)، ومسلم (194)، والترمذي (2436).
[147]
وَفِي أُخرى: فَيَقُولُ إِبرَاهِيمُ: لَستُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. إِنَّمَا كُنتُ خَلِيلاً مِن وَرَاءَ وَرَاءَ. وَفِيها: فَيَأتُونَ مُحَمَّدًا. فَيَقُومُ فَيُؤذَنُ لَهُ. وَتُرسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُم كَالبَرقِ قَالَ: قُلتُ: بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي! أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ البَرقِ؟ قَالَ: أَلَم تَرَوا إِلَى البَرقِ كَيفَ يَمُرُّ وَيَرجِعُ فِي طَرفَةِ عَينٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ. تَجرِي بِهِم أَعمَالُهُم، وَنَبِيُّكُم قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ!
ــ
يكون شكًّا من بعض الرواة، ويحتمل أن يكون تنويعًا، كأنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا رأى ما بينهما، قدره راءٍ بكذا، وقدّره آخر بكذا، ويصح أن يقال: سلك بها مسلك التخيير، فكأنه قال: قدِّروها إن شئتم بكذا، وإن شئتم بكذا، وإن شئتم بكذا.
و(قوله: تجري بهم أعمالهم) يعني: أن سرعة مرّهم على الصراط بقدر أعمالهم، ألا تراه كيف قال: حتى تعجِز أعمال العباد، وشدّ الرجال جريهم الشديد، جمع رجل. وعند ابن ماهان الرحال بالحاء المهملة، وكأنه سُميت الراحلة بالرحل ثم جمع، يريد: كجري الرواحل، وفيه بعد.
والزحف مشي الضعيف، يقال: زحف الصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي، وزحف البعيرُ إذا أَعيَا فَجَرَّ فِرسِنَه (1). والكلاليب جمع كَلُّوب على فَعُّول، نحو
(1)"فرسنه": أي: خفّه.
سَلِّم سَلِّم. حَتَّى تَعجِزَ أَعمَالُ العِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَستَطِيعُ السَّيرَ إِلا زَحفًا. قَالَ: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ، مَأمُورَةٌ بِأَخذِ مَن أُمِرَت بِهِ. فَمَخدُوشٌ نَاجٍ وَمَكردسٌ فِي النَّارِ. وَالَّذِي نَفسُ أَبِي هُرَيرَةَ بِيَدِهِ! إِنَّ قَعرَ جَهَنَّمَ لَسَبعينَ خَرِيفًا.
ورُويَ أيضًا عَن حُذيفَة.
رواه مسلم (195) عن أبي هريرة وعن حذيفة رضي الله عنهما.
* * *
ــ
سَفُّود، وهي التي سمّاها فيما تقدم خطاطيف ومكردس بمعنى: مكدوس، يقال: كردس الرجل خَيلَهُ إذا جمعها كراديس؛ أي: قطعًا كبارًا. ويحتمل أن يكون معناه المكسور فقار الظهر. ويحتمل أن يكون من الكردسة، وهو الوثاق، يقال: كُردِسَ الرجلُ، جُمعت يداه ورجلاه، حكاه الجوهري.
و(قوله: لسبعين خريفًا) تفسيره في الحديث الآخر؛ إذ قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى في شفير جهنّم، فتهوي فيها سبعين عامًا (1). والخريف أحد فصول السنة، وهو الذي تخترف (2) فيه الثمار، والعرب تذكره كما تذكر المساناة والمشاهرة، يقال: عاملته مُخَارَفَةً؛ أي: إلى الخريف. والأجود رفع لسبعون على الخبر، وبعضهم يرويه: لسبعين يتأوّل فيه الظرف، وفيه بعد.
* * *
(1) رواه الترمذي (2578) من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه.
(2)
"تُخترف": تُجنى وتقطف.