الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) بَابٌ يُقَاتَلُ النَّاسُ إِلَى أَن يُوَحِّدُوا الله وَيَلتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ
[17]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَاستُخلِفَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه بَعدَهُ، وَكَفَرَ مَن كَفَرَ مِنَ العَرَبِ،
ــ
(7)
ومِن بَابٍ يُقَاتَلُ النَّاسُ إِلَى أَن يُوَحِّدُوا الله، وَيَلتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ
(قوله: وَكَفَرَ مَن كَفَرَ مِنَ العَرَبِ) قال ابنُ إسحاق: لمَّا قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ارتدَّتِ العربُ إلَاّ ثلاثةَ مساجدَ: مسجدَ المدينةِ، ومسجدَ مَكَّةَ، ومسجدَ جُؤاثَا.
قال القاضي أبو الفضلِ عِيَاضٌ: كان أهلُ الردَّةِ ثلاثةَ أصناف: فصنفٌ كفَرَ بعد إسلامه، وعاد لجاهليته، واتَّبَعَ مُسَيلِمَة والعَنسِيَّ، وصدَّقَ بهما. وصنفٌ أقرَّ بالإسلام إلا الزكاة فجحدها، وتأوَّلَ بعضُهُم أنَّ ذلك كان خاصًّا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقولِهِ تعالى: خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وصنفٌ اعترَفَ بوجوبِها، ولكنِ امتنع مِن دفعها إلى أبي بكر، فقال: إنما كان قَبضُهَا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً لا لغيره، وفرَّقوا صدقاتِهم بأيديهم، فرأى أبو بَكرٍ والصحابةُ قتالَ جميعِهم، الصِّنفانِ الأَوَّلانِ لِكُفرهم، والثالثُ لامتناعهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وهذا الصنفُ الثالثُ هم الذين أشكَلَ أمرُهم على عمر، فباحَثَ أبا بكرٍ في ذلك حتَّى ظهَرَ له الحقُّ الذي كان ظاهرًا لأبي بكر، فوافقه على ذلك؛ ولذلك قال: فَوَاللهِ! مَا هو إِلا أَن رَأَيتُ اللهَ قَد شَرَحَ صَدرَ أَبِي بَكرٍ لِلقِتَالِ؛ فَعَرَفتُ أنّهُ الحَقُّ، أي: ظَهَرَ له من الدليل، وحصَلَ له من ثَلَجِ الصدر وانشراحِهِ لذلك، مثلُ الذي حصَلَ لأبي بكر، لأنَّه قلَّده واتَّبَعَهُ بعد ظهور الدليل؛ لأنَّ التقليد لا ينشرحُ به الصدرُ، ولا يُعرَفُ به الحقُّ، ولأنه لا يجوزُ لمجتهدٍ أن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقلِّد مجتهدًا عند تمكُّنِهِ من الاجتهادِ؛ كما بيَّنَّاه في أصول الفقه، ثُمَّ إنَّ أبا بكر قاتَلَ جميعَ المرتدِّين الثلاثة الأصناف (1)، وسَبَى ذراريهم؛ قال القاضي: وحكَمَ فيهم بحكم الناقضين للعهد، فلمَّا تُوُفِّيَ أبو بكرٍ ووَلِيَ عمر رَدَّ عليهم سَبيَهُم، وحكَمَ عليهم (2) بحكم المرتدِّين، وكان أبو بكر يرى سَبيَ أولاد المرتدِّين؛ وبذلك قال أصبَغُ بن الفَرَجِ (3) من أصحابنا، وكان عمر يرى أنهم لا يُسبَونَ، ولذلك ردَّ سبيهم؛ وبهذا قال جمهورُ العلماءِ وأئمَّةُ الفتوى.
ويستفاد مِن فعل عمر وحُكمِهِ: أنَّ الإمام المجتِهدَ العدلَ إذا أمَرَ بأمر، أو حكم بحكم، وجبَت موافقتُهُ على الجميع، وإن كان فيهم مَن يرى خلافَ رأيه، بل يجبُ عليه تركُ العمل والفُتيَا بما عنده، وإن اعتقَدَ صِحَّته، فإن عاد الأمرُ إليه، عَمِلَ على رأيه الذي كان يعتقده صوابًا.
ويحصَّل من قضيَّة أبي بكر وعمر: أنَّ سَبيَ أولادِ المرتدِّين لم يكن مُجمَعًا عليه، وأنَّ عمر إنَّما وافق أبا بكرٍ ظاهرًا وباطنًا على قتال الجميعِ لا غيرُ، وأمَّا سبيُ الذراري، فلم يوافقهُ عليه عمرُ باطنًا، لكنَّه تركَ العملَ بما ظهَرَ له والفُتيَا به؛ لِمَا يجبُ عليه مِن طاعة الإمام وموافقتِهِ، فلمَّا وَلِيَ عمل بما كان عنده؛ هذا هو الظاهرُ من حال عمر. ولا يجوزُ أن يقال: إنَّهُ كان قد ظهَرَ له مِن جواز السَّبيِ ما ظهر لأبي بكر، ثمّ تغيَّر اجتهاده؛ لأنّ ذلك يلزمُ منه خرقُ إجماعِ الصحابة السابق؛ فإنَّهم كانوا قد أجمعوا مع أبي بكر على السَّبيِ، وَعَمِلُوا بذلك مِن غير مخالفة ظهرَت من أحد منهم ولا إنكارٍ ظاهرٍ؛ غير أنَّهم منقسمون في ذلك إلى
(1) قوله: الثلاثة الأصناف ساقط من (ع)، ومستدرك من (م) و (ط) و (ل).
(2)
في (ع): فيهم.
(3)
هو فقيه مالكي مصري ثقة، له تصانيف. توفي سنة (225 هـ).
قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه لأبِي بَكر رضي الله عنه: كَيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَد قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلهَ إِلا اللهُ، فَمَن قَالَ: لا إِلهَ إِلا اللهُ،
ــ
مَن ظَهَرَ له جوازُ ذلك؛ فسكَتَ لذلك، ومنهم: مَن ظهر له خلافُ ذلك؛ فسكَتَ بحكم ترجيحِ قول الإمام العدل المجتَهِدِ على رأيه، ولوجوبِ اتَّبَاعِ الإمامِ على ما يراه، والعمل به؛ فإذا فُقِدَ ذلك الإمامُ، تعيَّن على ذلك المجتهدِ أن يعمَلَ على ما كان قد ظهر له، لكن بعد تجديد النظر، لا أنّه يعتمدُ على ذلك الرأيِ الأوَّلِ مِن غير إعادة البحث ثانيةً؛ لإمكانِ التغييُّر على ما بَيَّنتُه في عِلم الأصول.
وقد حكى بعضُ الناس: أنّ الإجماع انعقد بعد أبي بكر على أنّ المرتدَّ لا يُسبَى؛ وليس ذلك بصحيح؛ لوجودِ الخلاف في ذلك؛ كما قد حكيناه عن أصبَغَ، ولأنَّه يؤدِّي إلى تناقُضِ الإجماعَينِ، وهو محالٌ؛ كما يُعرَفُ في الأصول. ولمَّا اعتقَدَ بعضُ الأصوليِّين في هذه المسألة إجماعَين متناقَضَين رأى أنَّ المُخَلِّصَ من ذلك: اشتراطُ انقراضِ العَصرِ في صحَّة الإجماع، فلم ينعقد عند هذا القائل فيها إجماعٌ أوَّلاً ولا آخرًا؛ لأنَّ عصر الصحابة لم يكنِ انقرَضَ في زمان عمر.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: واشتراطُ انقراضِ العصر في دلالة الإجماعِ باطلٌ؛ لأنَّهُ زيادةُ شرطٍ في دلالات الإجماعِ الصحيحِة، من غير أن يَشهَدَ لتلك الزيادةِ عَقلٌ ولا نقل، والصحيحُ من هذه المسألة: أنَّه لا إجماعَ فيها أوَّلاً ولا آخِرًا؛ لإضمارِ الخلاف فيها في عَصرِ أبي بكر، والتصريح به بعده، والله تعالى أعلم.
و(قولُ عمر لأبي بكر: كَيفَ تُقَاتِلُ النَّاس وَقَد قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إلا اللهُ)؟ ظاهره: أنَّ مَن نطق بكلمة التوحيد فقط حُكِمَ له بِحُكمِ الإسلام. وهذا الظاهرُ متروكٌ قطعًا؛ إذ لا بدَّ مع ذلك من
فَقَد عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفسَهُ، إِلَاّ بِحَقِّهِ،
ــ
النطقِ بالشهادة بالرسالةِ أو بما يدلُّ عليها، لكنَّهُ سكَتَ عن كلمة الرسالة؛ لدلالة كلمة التوحيد عليها؛ لأنَّهما متلازمان، فهي مرادةٌ قطعًا.
ثُمَّ النطقُ بالشهادتَين يدلُّ على الدخولِ في الدِّينِ والتصديقِ بكلِّ ما تضمَّنه؛ وعلى هذا: فالنطقُ بالكلمةِ الأولى يفيدُ إرادةَ الثانية، كما يقال: قرأتُ: الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ والمرادُ جميعُ السورة. ويدلُّ على صِحَّةِ ما قلناه: الرواياتُ الأُخَرُ التي فيها: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، وفي لفظٍ آخر: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلا اللهُ، وَيُؤمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئتُ بِهِ. غير أنَّ أبا بكر وعمر لم يَحضر لهما في وقتِ هذه المناظرة غيرُ ذلك اللفظِ الذي ذكراه؛ إذ لو حضر لهما قولُهُ عليه الصلاة والسلام: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، لارتفَعَ البحثُ بينهما؛ لأنَّ هذا اللفظَ نَصُّ في المطلوب، وأوضَحُ في الدلالة ممَّا استدَلَّ به أبو بكر مِن قوله: لَأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
ويعني بهذا أبو بكر - واللهُ أعلَم -: أنَّ الله تعالى قد سوَّى بين الصلاة والزكاة في الوجوب في قولِهِ تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ؛ وفي غيرها، فقد جمَعَ اللهُ تعالى بينهما في الأمر بهما، والصلاةُ المأمورُ بها واجبةٌ قطعًا؛ فالزكاةُ مثلُهَا، فمَن فرَّقَ بينهما قُوتِلَ.
ويمكنُ أَن نشِيرَ بذلك إلى قولِهِ تعالى: فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم، ودليلُ خطابها: أنَّ مَن لم يفعَل جميعَ ذلك لَم يُخَلَّ سبيلُهُ، فيقاتَلُ إلى أن يُقتَلَ أو يتوبَ، وبهذه الآية وبذلك الحديث استدلَّ الشافعيُّ ومالك ومَن قال بقولهما على قَتلِ تاركِ الصلاة وإن كان معتقدًا لوجوبها؛ على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
و(قوله: فَقَد عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفسَهُ إِلَاّ بِحَقِّهِ) عصَمَ: منع، وَالعِصمَةُ: المنعُ والاِمتناع، والعِصَامُ: الخيطُ الذي يُشَدُّ به فَمُ القِربةِ، سُمِّيَ بذلك؛ لمنعه الماءَ
وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ، فَقَالَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه: وَاللهِ! لَأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللهِ! لَو مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلتُهُم عَلَى مَنعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: فَوَاللهِ مَا هو إِلَاّ أَن رَأَيتُ اللهَ عز وجل قَد شَرَحَ صَدرَ أَبِي بَكرٍ لِلقِتَالِ؛ فَعَرَفتُ أَنَّهُ الحَقُّ.
ــ
من السَّيلان، والحقُّ المستثنَى: هو ما بيَّنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر بقوله: زنًى بَعدَ إِحصَانٍ، أو كُفرٌ بَعدَ إِيمَانٍ، أو قَتلُ النَّفسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ (1)، وسيأتي ذكره في الحدود.
و(قوله: وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ) أي: حسابُ سرائرهم على الله؛ لأنَّه تعالى هو المُطَّلِعُ عليها؛ فَمَن أخلَصَ في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاءَ المُخلِصين، ومن لم يُخلِص في ذلك كان من المنافقين، يُحكَمُ له في الدنيا بأحكامِ المسلمين، وهو عند الله مِن أسوأ الكافرين.
ويستفادُ منه: أنَّ أحكامَ الإسلامِ إِنَّما تُدَارُ على الظواهرِ الجليَّة، لا الأسرارِ الخفيَّة.
و(قوله: وَاللهِ لَو مَنَعَونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلتُهُم عَلى مَنعِهِ) اختُلِفَ في هذا العِقَال على أقوال: أولها: أنه الفريضةُ من الإبل؛ رواه ابن وَهبٍ عن مالك، وقاله النَّضرُ بن شُمَيل. وثانيها: أنَّه صَدَقةُ عامٍ؛ قاله الكسائيُّ؛ وأنشد:
سَعَى عِقَالاً فَلَم يَترُك لَنَا سَبَدًا (2)
…
فَكَيفَ لَو قَد سَعَى عَمرٌو عِقَالَين؟ !
(1) لم نجده في كتاب الحدود، وهو عند الدارمي (2/ 171).
(2)
"سعى": على الصدقة: عَمِل في أَخْذها مِن أربابها. "السَّبَد": البقية من النَّبت، والقليل من الشَّعْر.
وعنه، عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلا اللهُ، وَيُؤمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم، إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ.
رواه أحمد (377/ 2 و 423 و 475 و 502 و 527 و 528)، والبخاري (2946)، ومسمم (21)، وأبو داود (1556) و (2640)، والترمذي (2610)، والنسائي (5/ 14)، وابن ماجه (3927).
ــ
وثالثهما: أنَّه كُلُّ شيءٍ يؤخذُ في الزكاةِ مِن أنعامٍ وثمار؛ لأنَّهُ يُعقَلُ عن مالكه؛ قاله أبو سَعِيدٍ الضريرُ.
ورابعها: هو ما يأخُذُهُ المصدِّق من الصدقة بعينها، فإن أخَذَ عِوَضَها، قيل: أخَذَ نقدًا؛ ومنه قولُ الشاعر:
وَلَم يَأخُذ عِقَالاً وَلَا نَقدًا
وخامسها: أنه اسمٌ لما يُعقَلُ به البعير؛ قاله أبو عُبَيد، وقال: قد بعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم محمَّد بن مَسلَمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كُلِّ قَرينَينِ عِقَالاً ورِوَاءً (1).
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: والأشبه بمساق قول أبي بكر أن يراد بالعِقَال: ما يُعقَلُ به البعير؛ لأنه خرج مَخرَجَ التقليل، والله أعلم.
وقد رُوِيَ في غير كتاب مسلم (2): لَو مَنَعُونِي عَنَاقًا مكان عِقَالاً، وهو الجَذَعُ مِن أولاد المَعز. وقد روي: جَذعًا مكانَ عَنَاقًا، وهو تفسيرٌ له، والجذَعُ من أولاد الغنم: هو الذي جاوز ستةَ أشهر إلى آخر السنة، ثم هو ثَنِيٌّ. وبهذه الروايةِ تمسَّك مَن أجاز أَخذَ الجذَعَ
(1)"الرواء": الحبل الذي تربط به المزادتان، والمزادة: الرَّاوية التي يُنقل بها الماء.
(2)
رواه أحمد (1/ 19، 36، 48، و 2/ 529)، والبخاري (1456)، وأبو داود (1556)، والنساني (7/ 78).
[18]
وَفِي رِوَايَةِ ابنِ عُمَرَ: حَتَّى يَشهَدُوا أَن لَا إِلهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ.
رواه البخاري (25)، ومسلم (22).
* * *
ــ
من المعز في الزكاة إذا كانت سِخَالاً كلُّها؛ وهو قولُ الشافعيِّ، وأحدُ قولَي مالك، وليس بالمشهور عنه. ولا حُجَّةَ في ذلك؛ لأنَّه خرج مَخرَجَ التقليل؛ فإنَّ عادةَ العرب إذا أَغيَت (1) تقليل شيء، ذَكَرَت في كلامها ما لا يكونُ مقصودًا؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَحقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَو فِرسِنَ شَاةٍ (2)، وفي أخرى: وَلَو ظِلفًا مُحرَقًا (3)، وليسا مما ينتفعُ به، وكذلك قولُهُ عليه الصلاة والسلام: مَن بَنَى مَسجِدًا لله وَلَو مِثلَ مَفحَصِ قَطَاةٍ (4)؛ وذلك القَدرُ لا يكونُ مسجدًا، ونحو من هذا في الإغيَاء قولُ امرئ القيس:
مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرفِ لَو دَبَّ مُحوِلٌ
…
مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتبِ مِنهَا لأثَّرا
ونحوُهُ كثيرٌ في كلامهم في التقليل والتكثيرُ والتعظيم والتحقير.
وفي الحديث: حُجَّةٌ على أنَّ الزكاةَ لا تسقُطُ عن المرتدِّ بردَّته، بل يؤخذُ منه ما وجَبَ عليه منها، فإن تاب، وإلا قُتِلَ وكان ماله فَيئًا.
(1)"أغيت": بلغت الغاية.
(2)
رواه البخاري (2566 و 6017)، ومسلم (1030).
"الفِرْسَن": ظلف الشاة، أي: مؤخرة الرِّجل.
(3)
رواه أبو داود (1667)، والترمذي (1665)، والنسائي (5/ 81).
"المفحص": عش القطاة الذي تبيت فيه. والقطاة: طائر.
(4)
رواه البيهقي في سننه الكبرى (2/ 437) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.