الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) بَابُ الاِستِقَامَةِ فِي الإِسلَامِ، وَأَيُّ خِصَالِهِ خَيرٌ
[32]
عَن سُفيَانَ بنِ عَبدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلتُ: يَا رسولَ الله، قُل لِي فِي الإِسلَامِ قَولاً لَا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: غَيرَكَ - قَالَ: قُل: آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم.
رواه أحمد (3/ 413) و (4/ 385)، ومسلم (38).
ــ
(14)
وَمِن بَابِ الاِستِقَامَةِ فِي الإِسلَامِ، وَأَيُّ خِصَالِهِ خَيرٌ
(قوله: قُل لِي فِي الإِسلَامِ قَولاً لَا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ) أي: علِّمني قولاً جامعًا لمعاني الإسلام، واضحًا في نفسه، بحيثُ لا يحتاجُ إلى تفسيرِ غيرك، أعمَلُ عليه، وأكتفي به؛ وهذا نحو ممَّا قاله له الآخر: عَلِّمنِي شَيئًا أَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَلَا تُكثِر عَلَيَّ فَأَنسَى، فَقَالَ: لَا تَغضَب (1). وهذا الجوابُ، وجوابُهُ بقوله: قُل: آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم؛ دليلٌ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ جوامعَ الكَلِمِ، واختُصِرَ له القول اختصارًا؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُخبِرًا بذلك عن نفسه (2)؛ فإنّه عليه الصلاة والسلام جمَعَ لهذا السائلِ في هاتَين الكلمتَين معانيَ الإسلام والإيمانِ كلَّها؛ فإنَّه أمره أن يجدِّدَ إيمانَهُ متذكِّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه.
ويقتضي هذا استحضارَ تفصيلِ معاني الإيمانِ الشرعيِّ بقلبه، التي تقدَّم ذكرُهَا في حديثِ جبريل (3)، وأَمرِهِ بالاِستقامةِ على
(1) رواه أحمد (2/ 362، 466، و 5/ 34، 372، 373)، والبخاري (6116)، والترمذي (2021)، والموطأ (2/ 906) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوتيتُ جوامع الكلم. . ." رواه أحمد (2/ 250، 314، 442، 501)، ومسلم (523).
(3)
تقدّم الحديث في تلخيص مسلم برقم (7).
[33]
وعَن عَبدِ اللهِ بنِ عمرو؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسلامِ خَيرٌ؟ قَالَ: تُطعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَن عَرَفتَ وَمَن لَم تَعرِف.
ــ
أعمال الطاعات، والانتهاءِ عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج، فإنَّها ضِدُّه.
وكأنَّ هذا القولَ منتزَعٌ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا} أي: آمَنُوا باللهِ ووحَّدوه، ثم استقاموا على ذلك وعلى طاعتِهِ إلى أن تُوُفُّوا عليها؛ كما قال عمرُ بنُ الخَطَّاب: استَقَامُوا واللهِ على طاعتِهِ، ولم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثعالب، وملخَّصُهُ: اعتَدَلُوا على طاعة الله تعالى، عَقدًا وقولاً وفعلاً، وداموا على ذلك.
و(قوله: أَيُّ المُسلِمِينَ خَيرٌ) أي: أيُّ خصالهم أفضلُ؟ بدليل جوابه بقوله: تُطعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَن عَرَفتَ وَمَن لَم تَعرِف، وكأنَّه عليه الصلاة والسلام فَهِمَ عن هذا السائلِ أنَّه يسألُ عن أفضلِ خصالِ المسلمين المتعدِّيَةِ النفعَ إلى الغير، فأجابَهُ بأعمِّ ذلك وأنفعِهِ في حقِّه؛ فإنَّه عليه الصلاة والسلام كان يجيبُ كُلَّ سائلٍ على حَسَبِ ما يُفهَمُ منه، وبما هو الأهمُّ في حقِّه والأنفعُ له.
و(قوله عليه الصلاة والسلام: وَتَقرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَن عَرَفتَ وَمَن لَم تَعرِف) قال أبو حاتم: تقول: قَرَأَ عليه السلام وأقرَأَهُ الكتابَ، ولا تقول: أَقرَأَهُ السلامَ إلَاّ في لغة سُوء، إلَاّ أن يكونَ مكتوبًا فتقول: أَقرِئهُ السلامَ، أي: اجعلهُ يقرؤه. وجمَعَ له بين الإطعامِ والإفشاء؛ لاجتماعهما في استلزام المحبَّةِ الدينيَّة، والأُلفةِ الإسلاميَّة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: أَلَا أَدُلُّكُم عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلتُمُوهُ تَحَابَبتُم؟ أَفشُوا السَّلَامَ بَينَكُم (1).
وفيه: دليلٌ على أنَّ السلام لا يُقصَرُ
(1) رواه أحمد (2/ 391)، ومسلم (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والترمذي (2512) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه.
وَفِي أُخرَى: أَيُّ المُسلِمِينَ خَيرٌ؟ قَالَ: مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
رواه البخاري (12)، ومسلم (39)، وأبو داود (5194)، والنسائي (8/ 107)، وابن ماجه (3253).
[34]
وعَن جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
ــ
على من يُعرَفُ، بل على المسلمين كافَّة؛ لأنّه كما قال عليه الصلاة والسلام: السَّلَامُ شِعَارٌ لِمِلَّتِنَا، وَأَمَانٌ لِذِمَّتِنَا (1). ورَدُّ السلامِ أوكَدُ من ابتدائه، وسيأتي القولُ فيه، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: أَيُّ المُسلِمِينَ خَيرٌ؟ فقَالَ: مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ) هذا السؤالُ غيرُ السؤالِ الأوَّل وإن اتَّحَدَ لفظهما؛ بدليلِ افتراق الجواب، وكأنَّه عليه الصلاة والسلام فَهِمَ عن هذا السائلِ أنه إنما سأل عن أحقِّ المسلمين باسم الخيريَّة وبالأفضليَّة، وفَهِمَ عن الأوَّل أنَّه سَأَلَ عن أحقِّ خصالِ الإسلامِ بالأفضليَّة، فأجاب كُلاًّ منهما بما يليقُ بسؤاله، والله تعالى أعلم، وهذا أولى مِن أن تقول: الخبران واحد، وإنَّما بعضُ الرواة تسامَحَ؛ لأنَّ هذا التقديرَ يرفَعُ الثقةَ بأخبارِ الأئمَّةِ الحفَّاظِ العدول، مع وجودِ مندوحةٍ عن ذلك.
(1) رواه الطبراني في الصغير (1/ 75)، بلفظ:"السلام تحية. . ."، وفي الكبير (7518)، والخطيب في تاريخه (4/ 396)، والشهاب في مسنده (184). وفي إسناده: طلحة بن زيد، وهو متهم، قال ابن عدي: روى بهذا الإسناد ستة أحاديث موضوعة، وأورده صاحبُ "الدر الملتقط" برقم (17)، وابن الجرزي في الموضوعات (3/ 79) لأنَّ فيه عصمة وهو كذاب.
المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
رواه مسلم (40).
* * *
ــ
و(قوله: المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ) أي: مَن كانت هذه حالَهُ، كان أحقَّ بهذا الاسمِ، وأمكنَهُم فيه.
ويبيِّن ذلك: أنَّه لا ينتهي الإنسانُ إلى هذا، حتَّى يتمكَّنَ خوفُ عقابِ الله تعالى مِن قلبه، ورجاءُ ثوابه، فيُكسِبُهُ ذلك وَرَعًا يحمله على ضَبطِ لسانه ويده، فلا يتكلَّمُ إلَاّ بما يعنيه، ولا يفعلُ إلَاّ ما يَسلَمُ فيه؛ ومَن كان كذلك، فهو المسلمُ الكامل، والمتَّقي الفاضل.
ويقرُبُ من هذا المعنى بل يزيدُ عليه: قولُهُ عليه الصلاة والسلام: لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ (1)؛ إذ معناه: أَنَّهُ لَا يتمُّ إيمانُ أحدٍ الإيمانَ التامَّ الكامل (2)، حتَّى يَضُمَّ إلى سلامةَ النَّاسِ منه إرادته الخيرِ لهم، والنُّصحَ لجميعهم فيما يحاوله معهم. ويستفادُ من الحديث الأوَّل: أنَّ الأصلَ في الحقوقِ النفسيَّة والماليَّة المنعُ؛ فلا يحلُّ شيءٌ منها إلَاّ بوجهٍ شرعيٍّ، واللهُ تعالى أعلَمُ بغيبه وأحكم.
* * *
(1) رواه أحمد (3/ 176، 272، 278)، والبخاري (13)، ومسلم (45)، والترمذي (2517)، والنسائي (8/ 115)، وابن ماجه (66).
(2)
قوله: الإيمان التام الكامل، من (ط).