الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(44) بَاب إِثمِ مَنِ اقتَطَعَ حَقَّ امرِئٍ بِيَمِينِهِ
[105]
عَن أَبِي أُمَامَةَ؛ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اقتَطَعَ حَقَّ امرِئٍ مُسلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَد أَوجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِن كَانَ شَيئًا يَسِيرًا، يَا رَسُولَ اللهِ؟ ! قَالَ: وَإِن كان قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ.
رواه أحمد (5/ 260)، ومسلم (137)، والنسائي (8/ 246).
[106]
وَعَن عَلقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَن أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِن حَضرَمَوتَ وَرَجُلٌ مِن كِندَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الحَضرَمِيُّ: يَا رسولَ الله، إِنَّ هَذَا قَد غَلَبَنِي عَلَى أَرضٍ لِي كَانَت لِأَبِي، قَالَ الكِندِيُّ:
ــ
(44)
وَمِن بَابِ إِثمِ مَنِ اقتَطَعَ حَقَّ امرِئٍ بِيَمِينِهِ
اقتَطَعَ: من القطع، وهو الأَخذُ هنا؛ لأنَّ مَن أخَذَ شيئًا لنفسه، فقد قطَعَهُ عن مالكه.
و(قوله: فَقَد أَوجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ) أي: إن كان مستَحِلاًّ لذلك، فإن كان غيرَ مستحلٍّ، وكان ممَّن لم يغفرِ اللهُ له، فيعذِّبُهُ اللهُ في النار ما شاء من الآباد، وفيها تحرِّمُ عليه الجنةَ، ثم يكونُ حاله كحالِ أهلِ الكبائر من الموحِّدين؛ على ما تقدَّم.
ويستفادُ من هذا الحديث: أنَّ اليمينَ الغَمُوسَ لا يَرفَعُ إثمَهَا الكَفَّارةُ، بل هي أعظَمُ مِن أن يُكفِّرَهَا شيءٌ، كما هو مذهبُ مالك، على ما يأتي في الأيمان إن شاء الله تعالى.
و(قوله: إِنَّ هَذَا قَد غَلَبَنِي عَلَى أَرضٍ لِي كَانَت لِأَبِي) وفي الرواية الأخرى: انتَزَى، بمعنى غلب، وهو من النَّزو، وهو الارتفاعُ، وهو دليلٌ على
هِيَ أَرضي فِي يَدِي أَزرَعُهَا، لَيسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلحَضرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَال: لا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ، قَالَ: يَا رسولَ الله،
ــ
أنَّ المُدَّعِيَ لا يلزمُهُ تحديدُ المُدَّعَى به إن كان مما يُحَدُّ، ولا أن يصفه بجميعِ أوصافه كما يوصفُ المُسلَمُ فيه، بل يكفي من ذلك أن يتميَّز المدعَى به تمييزًا تنضبطُ به الدعوى، وهو مذهبُ مالك.
خلافًا لما ذهَبَت الشافعيَّة إليه؛ حيثُ ألزموا المدعيَ أن يَصِفَ المُدَّعَى به (1) بحدودِهِ وأوصافِهِ المعيَّنةِ التامَّة، كما يوصفُ المُسلَمُ فيه. وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهم؛ أَلَا ترى أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُكَلِّفهُ تحديدَ الأرضِ ولا تعيينَهَا، بل لمَّا كانتِ الدعوَى متميِّزةً في نفسها، اكتفَى بذلك.
وظاهرُ هذا الحديثِ: أنَّ والد المدَّعِي قد كان توفِّي، وأنَّ الأرضَ صارت للمدَّعِي بالميراث، ومع ذلك فلم يطالبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإثباتِ الموتِ ولا بِحَصرِ الورثة؛ فَيَحتملُ أن يقال: إنَّ ذلك كان معلومًا عندهم، وَيَحتملُ أن يقالَ: لا يلزمُهُ إثباتُ شيء من ذلك، ما لم يناكرهُ خَصمه، والله أعلم.
وفيه دليلٌ على أنَّ مَن نسَبَ خَصمَهُ إلى الغَصبِ حالةَ المحاكمة، لم يُنكِرِ الحاكمُ عليه، إلا أن يكونَ المقولُ له ذلك لا يَلِيقُ به.
و(قوله: هِيَ أَرضِي فِي يَدِي أَزرَعُهَا، لَيسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ) دليلٌ على أنَّ المدعَى فيه لا يُنتَزَعُ من يدِ صاحبِ اليدِ لمجرَّدِ الدعوَى، وأنَّه لا يُسأَلُ عن سببِ يدِهِ، ولا عن سببِ ملكه.
وقوله للحضرمي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ وفي الطريق الأخرى: شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ، دليلٌ على أنَّ المدعي يلزمُهُ إقامةُ البيِّنة، فإن لم يُقِمهَا، حَلَفَ المدعى عليه؛ وهو أمرٌ متَّفَقٌ عليه، وهو مستفادٌ من هذا الحديث.
فأمَّا ما يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم من
(1) ما بين حاصرتين يساقط من (ع).
إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيهِ، وَلَيسَ يَتَوَرَّعُ مِن شَيءٍ، فَقَالَ: لَيسَ لَكَ مِنهُ إِلَاّ ذَلِكَ، فَانطَلَقَ لِيَحلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
قوله: البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَن أَنكَرَ (1)، فليس بصحيحِ الرواية؛ لأنَّه يدورُ على مسلمِ بنِ خالدٍ الزَّنجِيِّ، ولا يُحتَجُّ به (2)، لكنَّ معنى متنه صحيحٌ بشهادةِ الحديثِ المتقدِّم له، وبحديثِ ابنِ عبَّاس الذي قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه: وَلَكِنِ اليَمِينُ عَلَى مَن أَنكَرَ (3).
وفيه: حجةٌ لمن لا يشترطُ الخِلطَةَ في توجُّه اليمينِ على المدعَى عليه، وقد اشترَطَ ذلك مالكٌ، واعتُذِرَ له عن هذا الحديث: بأنَّها قضيةٌ في عَينٍ، ولعلَّه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بينهما خِلطةً، فلم يطالبهُ بإثباتها، والله تعالى أعلم.
و(قوله: إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيهِ، وَلَيسَ يَتَوَرَّعُ مِن شَيءٍ) الفاجر: هو الكاذبُ الجريءُ على الكذب، والوَرَعُ: الكَفُّ، ومنه قولُهُم: رَوِّعُوا اللِّصَّ وَلَا تُورِعُوه أي: لا تنكفُّوا عنه. وظاهر هذا الحديث: أنَّ ما يجري بين المتخاصمَينِ في مجلس الحكم مِن مثلِ هذا السَّبِّ والتقبيحِ: جائزٌ، ولا شيءَ فيه؛ إِذ لم يُنكِر ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وإلى هذا ذهَبَ بعضُ أهل العلم. والجمهورُ: لا يُجِيزون شيئًا من ذلك، ويَرَونَ إنكارَ ذلك ويؤدِّبون عليه؛ تمسُّكًا بقاعدةِ تحريمِ السبابِ والأعراضِ.
واعتذَرُوا عن هذا الحديث: بأنَّه مُحتمِلٌ لأن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علم أنَّ المقولَ له ذلك القولُ كان كما قِيلَ له؛ فكان القائلُ صادقًا ولم يَقصِد أذاه بذلك، وإنَّما قصَدَ منفعةً يستخرجها، فلعلَّه إذا شُنِّعَ عليه، فقد ينزجرُ بذلك، فيرجعُ به للحق. ويَحتملُ: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تركَهُ ولم يَزجُرهُ؛ لأنَّ المقولَ له لم يَطلُب حقَّه في ذلك، والله أعلم.
(1) رواه الترمذي (1341) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
في هامش (م): في تقريب التهذيب: صدوق كثير الأوهام، من الثامنة، مات (179 هـ) أو بعدها.
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 252).
لَمَّا أَدبَرَ: أَمَا لَئِن حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأكُلَهُ ظُلمًا، لَيَلقَيَنَّ اللهَ وهو عَنهُ مُعرِضٌ.
رواه مسلم (139)، وأبو داود (3245)، والترمذي (1340).
[107]
ومِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَن
ــ
و(قوله: شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ) دليلٌ على اشتراطِ العددِ في الشهادة، وعلى انحصارِ طُرُقِ الحِجَاجِ في الشاهد واليمين، ما لم يَنكُلِ المُدَّعَى عليه عن اليمين، فإن نَكَلَ، حلَفَ المدَّعي واستحَقَّ المدعَى فيه، فإن نكل، فلا حُكمَ، ويُترَكُ المدعَى فيه في يد مَن كان بيده، وسيأتي القولُ في الشاهد واليمين.
و(قوله: لَيَلقَيَنَّ اللهَ وهو عَنهُ مُعرِضٌ) أي: إعراضَ الغضبان، كما قال في الحديث الآخر: وهو عَلَيهِ غَضبَانُ. وقد تقدَّم القولُ في غضبِ الله تعالى وفي رضاه، وأنَّ ذلك محمولٌ إمَّا (1) على إرادةِ عقابِ المغضوبِ عليه وإبعادِهِ، وإرادةِ إكرامِ المرضِيِّ عنه. أو على ثَواب تلك الإرادة، وهو الإكرامُ أو الانتقامُ. وفيه: دليلٌ على نَدبِيَّةِ وَعظِ المُقدِمِ على اليمين.
و(قوله: فَانطَلَقَ لِيَحلِفَ) دليلٌ على أنَّ اليمينَ لا تُبذَلُ أمام الحاكم، بل لها موضعٌ مخصوص، وهو أعظَمُ مواضعِ ذلك البلد؛ كالبيتِ بمكَّة، ومِنبَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومَسجِدِ بيت المَقدِس، وفي المساجِدِ الجامعةِ من سائرِ الأمصار؛ لكنَّ ذلك فيما ليس بتافِهٍ، وهو مما لا تُقطَعُ فيه يَدُ السارق، وهو أَقَلُّ من رُبُعِ دينار عند مالكٍ؛ فيحلَّفُ فيه حيثُ كان مستقبِلَ القبلة، وفي ربعِ الدينار فصاعدًا؛ لا يُحَلَّفُ إلا في تلك المواضع، وخالفه أبو حنيفة في ذلك، فقال: لا تكونُ اليمينُ إلا حيثُ كان الحاكم.
وظاهرُ هذا الحديث: أنَّ المدعَى عليه إذا حلَفَ، انقطعَت حجةُ خَصمه، وبقي المدعَى فيه بيدِهِ، وعلى ملكِهِ في ظاهر الأمر، غيرَ أنَّه لا يَحكُمُ له الحاكمُ بملك ذلك؛ فإنَّ غايتَهُ أنه حائز، ولم يَجد ما يزيله عن حَوزه، فلو سأل المطلوبُ تعجيزَ الطالبِ بحيثُ لا تَبقَى له حُجَّةٌ، فهل للحاكمِ تعجيزُهُ وقطعُ حُجَّته أم لا؟ قولان بالنفي والإثبات. وفي هذا الحديثِ أبوابٌ من علمِ القَضَاءِ لا تخفَى.
(1) ساقط من (ع).
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبرٍ، يَقتَطِعُ بِهَا مَالَ امرِئٍ مُسلِمٍ، هو فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وهو عَلَيهِ غَضبَانُ، فَنَزَلَت: إِنَّ الَّذِينَ يَشتَرُونَ بِعَهدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِم ثَمَنًا قَلِيلًا، إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
وَفِي أُخرَى: فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ.
وَفِي أُخرَى: أَنَّ الكِندِيَّ هو: امرُؤُ القَيسِ بنُ عَابِسٍ، وَخَصمُهُ: رَبِيعَةُ بنُ عِبدَانَ، ويُقَالُ: ابنُ عَيدَانَ.
رواه أحمد (1/ 426)، والبخاري (6676)، ومسلم (138)، وأبو داود (3243)، والترمذي (2999)، وابن ماجه (2323).
* * *
ــ
و(قوله: فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشتَرُونَ بِعَهدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِم ثَمَنًا قَلِيلًا عَهدُ اللهِ: هو ميثاقُهُ، وهو إيجابُهُ على المكلَّفين أن يقوموا بالحقِّ، ويعملوا بالعدل. والأيمانُ: جمعُ يمين، وهو الحَلِفُ بالله تعالى. ويشترون: يعتاضون؛ فكأنَّهم يُعطُونَ ما أوجَبَ الله عليهم مِن رعاية العهود والأيمان في شيءٍ قليلٍ حقيرٍ من عَرَضِ الدنيا. والخَلَاقُ: الحَظُّ والنصيب. ولَا يُكَلِّمُهُم، أي: بما يَسُرُّهم؛ إذ لا يكلِّمهم إعراضًا عنهم واحتقارًا لهم. ولا ينظُرُ إليهم نظَرَ رحمةٍ ولَا يُزَكِّيهِم، أي: لا يُثنِي عليهم كما يُثنِي على مَن تَزَكَّى، وقيل: لا يُطَهِّرهم من الذنوب. والأليم: المُوجِعُ الشديدُ الألم. وقد تقدَّم القولُ على يمين صبرٍ.
و(قوله: إِنَّ الكِندِيَّ هو: امرُؤُ القَيسِ بنُ عَابِسٍ، وَخَصمُهُ: رَبِيعَةُ بنُ عِبدَانَ) عَابِس: بالباءِ بواحدةٍ من تحتها بالسينِ المهملة. وعِبدَان: بكسرِ العينِ المهملة وباءٍ بواحدةٍ، هي رواية زُهَير. وقال أحمد بن حنبل: عَيدَان بفتح العين المهملة وياءٍ باثنتين من تحتها، وهو الصوابُ عند النُّقَّاد (1)؛ كالدارقطنيِّ، وابنِ مَاكُولَا، وأبي عليٍّ الغَسَّانِيِّ.
(1) ساقط من (م).