الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(30) بَابٌ لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن فِي قَلبِهِ كِبرٌ
[72]
عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كَانَ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ، فقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَن يَكُونَ
ــ
(30)
وَمِن بَابٍ: لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن فِي قَلبِهِ كِبرٌ
الكِبرُ والكِبرِيَاء في اللغة: هو (1) العظمة، يقال فيه: كَبُرَ الشيءُ، بضمِّ الباء، أي: عَظُمَ، فهو كبيرٌ وكُبَار، فإذا أفرَطَ قيل: كُبَّار، بالتشديد؛ وعلى هذا فيكونُ الكِبرُ والعظمةُ اسمَين لمسمًّى واحد.
وقد جاء في الحديث ما يُشعِر بالفرق بينهما؛ وذلك أنَّ الله تعالى قال: الكِبرِيَاءُ رِدَائِي، والعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنهُمَا، قَصَمتُهُ (2)؛ فقد فرَّق بينهما بأن عبَّر عن أحدهما بالإزار، وعن الآخر بالرداء، وهما مختلفان، ويَدُلُّ أيضًا على ذلك قوله: فَمَن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنهُمَا؛ إذ لو كانا واحدًا، لقال: فمَن نازعنيه. فالصحيحُ إِذَنِ الفرقُ، ووجهُهُ: أنَّ جهة الكِبرِيَاءَ: يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لمَّا فسَّر الكِبرَ، قال: الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ، وهو احتقارُهُم، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه، وهو الحقُّ أو الخَلقُ، والعَظَمَةُ: لا تقتضي ذلك.
فالمتكبِّرُ يلَاحِظ ترفعَ نفسِهِ على غيره بسببِ مزيَّةِ كمالها فيما يراه، والمعظِّمُ يلَاحِظ كمالَ نفسه مِن غير ترفعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجبِ في حقِّنا إذا انضَاف إليه نِسيانُ مِنَّةِ الله تعالى علينا فيما خصَّنا به مِن ذلك الكمال.
وإذا تقرَّر هذا: فالكِبرِيَاءُ والعَظَمَةُ مِن أوصافِ كمالِ الله تعالى
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه مسلم (2620)، وأبو داود (4090) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واجبان له؛ إذ ليست أوصافُ كمالِ (1) الله وجلالُهُ مُستفادةً مِن غيره، بل هي واجبة الوجود لذواتها، بحيثُ لا يجوزُ عليها العدَمُ ولا النقص، ولا يجوزُ عليه تعالى نقيضُ شيءٍ من ذلك، فكمالُهُ وجلالُهُ حقيقةٌ له؛ بخلاف كمالنا، فإنَّه مستفادٌ مِنَ الله تعالى، ويجوزُ عليه العدَمُ وطروءُ النقيضِ والنقصِ.
وإذا كان هذا، فالتكبُّرُ والتعاظُمُ خُرقٌ مِنَّا، ومستحيل في حقِّنا؛ ولذلك حرَّمهما الشرع، وجعلهما من الكبائر؛ لأنَّ مَن لاحظَ كمالَ نفسه ناسيًا مِنَّةَ الله تعالى فيما خصَّه به، كان جاهلاً بنفسه وبربِّه، مغترًّا بما لا أصلَ له، وهي صفةُ إبليسَ الحاملةُ له على قوله: أَنَا خَيرٌ مِنهُ وصفةُ فرعونَ الحاملةُ له على قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى ولا أقبَحَ ممَّا صارا إليه؛ فلا جَرَمَ كان فرعونُ وإبليسُ أَشَدَّ أهلِ النار عذابًا؛ نعوذ بالله من الكِبرِ والكفر.
وأمَّا مَن لاحظ مِن نفسه كمالاً، وكان ذاكرًا فيه مِنَّةَ الله تعالى عليه به، وأنَّ ذلك مِن تفضُّله تعالى ولطفه، فليس مِنَ الكِبرِ المذمومِ في شيء، ولا مِنَ التعاظُمِ المذموم، بل هو اعترافٌ بالنعمة، وشُكرٌ على المِنَّة. والتحقيقُ في هذا: أنَّ الخَلقَ كلَّهم قوالبُ وأشباح، تجري عليهم أحكامُ القُدرة؛ فمَن خصَّه الله تعالى بكمالٍ، فذلك الكمالُ يرجعُ للمكمِّلِ الجاعل، لا للقالَبِ القابل. ومع ذلك: فقد كمَّل الله الكمالَ بالجزاءِ والثناءِ عليه؛ كما قد نقَصَ النقصَ بالذمِّ والعقوبةِ عليه، فهو المُعطِي والمُثنِي، والمُبلِي والمعافي؛ كيف لا وقد قال العليُّ الأعلى: أَنَا اللهُ خَالِقُ الخَيرِ وَالشَّرِّ؛ فَطُوبَى لِمَن خَلَقتُهُ لِلخَيرِ وَقَدَرتُهُ عَلَيهِ، وَالوَيلُ لِمَن خَلَقتُهُ لِلشَّرِّ وَقَدَرتُهُ عَلَيهِ (2)؛ فلا حِيلَةَ تعمل مع قهر؛ لَا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ.
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه ابن شاهين في "شرح السنة" عن أبي أمامة بإسناد ضعيف. (إحياء علوم الدين 4/ 335 - 336)
ثَوبُهُ حَسَنًا، وَنَعلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ؛ الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ.
ــ
ولمَّا تقرَّر أنَّ الكِبرَ يستدعي متكبَّرًا عليه، فالمتكبَّرُ عليه إن كان هو اللهَ تعالى، أو رُسُولَهُ، أو الحَقَّ الذي جاءت به رسلُهُ؛ فذلك الكِبرُ كُفر. وإن كان غَيرَ ذلك؛ فذلك الكِبرُ معصيةٌ وكبيرة، يُخَافُ على المتلبِّس بها المُصِرِّ عليها أن تُفضِيَ به إلى الكُفر، فلا يدخُلُ الجنَّة أبدًا.
فإن سَلِمَ مِن ذلك، ونفَذَ عليه الوعيد، عوقبَ بالإذلالِ والصَّغَار، أو بما شاء اللهُ مِن عذابِ النار، حتَّى لا يبقى في قلبه مِن ذلك الكِبرِ مثقالُ ذَرَّة، وخَلُصَ من خَبَثِ كِبره حتى يصيرَ كالذَّرَّة؛ فحينئذ يتداركُهُ الله برحمتِه، ويخلِّصُهُ بإيمانِهِ وبركتِه. وقد نصَّ على هذا المعنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المحبوسين على الصِّرَاط لما قال: حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُم فِي دُخُولِ الجَنَّةِ (1)، والله تعالى أعلم.
و(قوله: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ): الجمالُ لغةً: هو الحُسنُ؛ يقال: جَمُلَ الرجلُ يَجمُلُ بالضمِّ، جَمَالاً؛ فهو جميلٌ، والمرأةُ جميلة، ويقال: جَملَاءُ عن الكِسائيِّ.
وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الجميل مِن أسماء الله تعالى، وقال بذلك جماعةٌ من أهل العلم، إلَاّ أنَّهم اختلفوا في معناه: فقيل: معناه معنى الجليل؛ قاله القشيريُّ.
وقيل: معناه ذو النُّورِ والبهجة، أي: مالكُهُمَا؛ قاله الخَطَّابيّ. وقيل: جميلُ الأفعالِ بكُم والنظرِ إليكم؛ فهو يُحِبُّ التجمُّلَ منكم في قلَّةِ إظهارِ الحاجة إلى غيره؛ قاله الصَّيرَفيُّ. وقال: الجميلُ: المنزَّهُ عن النقائص، الموصوفُ بصفاتِ الكمال، الآمِرُ بالتجمُّلِ له بنظافةِ الثياب والأبدان، والنزاهةِ عن الرذائلِ والطغيان، وسيأتي القولُ في أسماء الله تعالى.
وبَطَرُ الحقِّ: إبطالُهُ؛ من قول العرب: ذهَبَ دمُهُ بِطرًا وبُطرًا؛ أي: باطلاً.
(1) رواه أحمد (3/ 13 و 63 و 74)، والبخاري (6535).
وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إِيمَانٍ، وَلَا يَدخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةِ من خَردَلٍ مِن كِبرٍ.
رواه أحمد (1/ 399 و 451)، ومسلم (91)، وأبو داود (4091)، والترمذي (1999)، وابن ماجه (59).
ــ
وقال الأصمعيُّ: البَطَرُ: الحَيرة، أي: يتحيَّرُ عند الحقِّ؛ فلا يراه حَقًّا. وغَمطُ النَّاسِ: احتقارُهُم واستصغارهم؛ لما يرى مِن رِفعته عليهم، وهو بالغين المعجمة والطاء المهملة. ويُروَى: غَمص بالصاد المهملة في كتاب الترمذي، ومعناهما واحد؛ يقال: غَمَطَ الناسَ وغَمَصَهُم: إذا احتقرهم. والمِثقَالُ: مِفعالٌ من الثِّقَلِ، ومِثقالُ الشيء: وزنه، يقال: هذا على مِثقَالِ هذا، أي: على وزنه.
والمرادُ بالإيمان في هذا الحديث: التصديقُ القلبيُّ المذكورُ في حديث جبريل، ويُستفادُ منه: أنَّ التصديق القلبيَّ على مراتب، ويزيدُ وينقصُ؛ على ما يأتي في حديث الشفاعة، إن شاء الله تعالى.
وهذه النارُ المذكورةُ هنا: هي النارُ المُعَدَّةُ للكفَّارِ التي لا يُخرَجُ منها مَن دخلها؛ لأنَّه قد جاء في أحاديثِ الشفاعةِ المذكورةِ بعد هذا أنَّ خَلقًا كثيرًا ممَّن في قلبه ذَرَّاتٌ كثيرةٌ من الإيمانِ يدخلون النار، ثُمَّ يُخرَجون منها بالشفاعة أو بالقَبضة (1)؛ على ما يأتي، ووجهُ التلفيق: أنَّ النارَ دَرَكَاتٌ؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ وأهلُهَا في العذاب على مراتبَ ودَرَكاتٍ؛ كما قال الله تعالى: أَدخِلُوا آلَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ، وأنَّ نارَ مَن يعذَّبُ من الموحِّدين أخفُّها عذابًا، وأقرَبُهَا خروجًا؛ فمَن أُدخِلَ النارَ من الموحِّدين، لم يُدخَل نار الكفَّار، بل نارًا أخرى يموتون فيها، ثُمَّ يُخرَجون منها؛ كما جاء في الأحاديث الصحيحة الآتية بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
(1) إشارة إلى ما جاء في حديث مسلم برقم (183) فانظره إن شئت.
[73]
وَعَن جَابِرٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رسولَ الله، مَا المُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: مَن مَاتَ لَا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن مَاتَ يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ.
رواه أحمد (3/ 391 - 392)، ومسلم (93).
* * *
ــ
و(قوله: ما المُوجِبَتَانِ؟ ) سؤالُ مَن سمعهما ولم يدر ما هما، فأجابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهما: الإيمانُ، والشِّرك، وسُمِّيَا بذلك؛ لأنَّ الله تعالى أوجَبَ عليهما ما ذكره مِنَ الخلودِ في الجنة أو في النار.
و(قوله: مَن مَاتَ لَا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا، دَخَلَ الجَنَّةَ) أي: من مات لا يتخذ معه شريكًا في الإلهية، ولا في الخَلقِ، ولا في العبادة. ومن المعلومِ مِنَ الشَّرعِ المجمَعِ عليه مِن أهل السنَّة: أنَّ مَن مات على ذلك فلا بدَّ له من دخول الجنَّة، وإن جرَت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنَة، وأنَّ مَن مات على الشرك لا يدخُلُ الجَنَّة، ولا يناله من الله تعالى رَحمَة، ويخلُدُ في النارِ أبدَ الآباد، مِن غيرِ انقطاعِ عذابٍ ولا تصرمِ آباد، وهذا معلومٌ ضروريٌّ من الدِّين، مجمَعٌ عليه من (1) المسلمين.
وأما قولُ ابن مسعود المذكورُ في أصلِ كتاب مسلم، وهو قوله: قُلتُ أَنَا: وَمَن مَاتَ لَا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، فيعني بذلك: أنه لم يسمع هذا اللفظَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم نصًّا، وإنما استنبطَهُ استنباطًا من الشريعة؛ فإمَّا مِن دليلِ خطابِ قولِهِ عليه الصلاة والسلام: مَن مَاتَ يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ، أو مِن ضرورةِ انحصار الجزاءِ في الجنة والنار، أو مِن غير ذلك. وعلى الجملة فهذا الذي لم يسمعه ابنُ مسعودٍ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو حقٌّ في نفسه، وقد رواه جابرٌ في هذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك اكتفينا به في المختصَرِ عن نقل ابن مسعود.
(1) في (ط): بين.