الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(36) بَابُ لَا يُغتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنظَرَ بِمَا يُختَمُ لَهُ
[88]
عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ؛ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم التَقَى هو وَالمُشرِكُونَ فَاقتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسكَرِهِم، وَفِي أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُم شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَاّ اتَّبَعَهَا يَضرِبُهَا بِسَيفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجزَأَ مِنَّا اليَومَ أَحَدٌ كَمَا أَجزَأَ فُلَانٌ،
ــ
(36)
وَمِن بَابِ: لَا يُغتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنظَرَ بِمَا يُختَمُ عليهُ
(قوله: لَا يَدَعُ لَهُم (1) شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً) الشَّاذُّ: الخارجُ عن الجماعة، والفاذُّ: المنفرد، وأنَّث الكلمتَينِ على جهة المبالغة؛ كما قالوا: عَلَاّمَةٌ، ونَسَّابة؛ قال ابن الأعرابي: يقال: فلانٌ لا يَدَعُ لهم شَاذَّةً ولا فَاذَّةً: إذا كان شُجَاعًا لا يلقاه أحدٌ. وفيه من الفقه: ما يدلُّ على جواز الإغيَاءِ (2) في الكلامِ والمبالغةِ فيه، إذا احتِيج إليه، ولم يكن ذلك تعمُّقًا ولا تشدُّقًا.
و(قوله: مَا أَجزَأَ مِنَّا اليَومَ أَحَدٌ كَمَا أَجزَأَ فُلَانٌ) كذا صحَّت روايتنا فيه رباعيًّا مهموزًا، ومعناه: ما أغنَى ولا كَفَى. وفي الصحاح: أجزَأَني الشيءُ: كفاني، وجزَى عنِّي هذا الأمرُ، أي: قَضَى؛ ومنه قوله: لَا تَجزِي نَفسٌ عَن نَفسٍ شَيئًا أي: لا تَقضِي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردةِ: تَجزِي عَنكَ، وَلَا تَجزِي عَن أَحَدٍ بَعدَكَ (3)، قال: وبنو تميمٍ يقولون: أَجزَأَت عنك شاةٌ، بالهمز. وقال أبو عُبَيد: جَزَأتُ بالشيءِ وأجزَأتُ؛ أي: اكتفَيتُ به، وأنشَدَ:
(1) في (ط): له.
(2)
"الإغياء": بلوغ الغاية في الأمر.
(3)
رواه أحمد (4/ 302).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ مِن أهل النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسرَعَ أَسرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرحًا شَدِيدًا، فَاستَعجَلَ المَوتَ، فَوَضَعَ نَصلَ سَيفِهِ بِالأَرضِ، وَذُبَابَهُ بَينَ ثَديَيهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيفِهِ فَقَتَلَ نَفسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَشهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرتَ آنِفًا أَنَّهُ مِن أهل النَّارِ، فَأَعظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلتُ: أَنَا لَكُم بِهِ، فَخَرَجتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرحًا شَدِيدًا، فَاستَعجَلَ المَوتَ، فَوَضَعَ نَصلَ سَيفِهِ بِالأَرضِ، وَذُبَابَهُ بَينَ ثَديَيهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيهِ فَقَتَلَ نَفسَهُ،
ــ
فَإِنَّ اللُّؤمَ فِي الأَقوَامِ عَارٌ
…
وَإِنَّ المَرءَ يَجزَى بِالكُرَاعِ
وفلانٌ، قيل: هو قُزمَان. ونَصلُ السيف: حديدتُهُ كلُّها، وأنشدوا:
كالسَّيفِ سُلَّ نَصلُهُ مِن غِمدِهِ
…
. . . . . . . . . . . . . .
ويقال عليها: مُنصُلٌ، والمرادُ بالنَّصل في هذا الحديث: طَرَفُ النَّصلِ الأسفلُ الذي يسمَّى: القَبِيعة، والرئاس. وذُبَابُهُ: طَرَفُهُ الأعلى المحدَّدُ المهلَّل، وظبَتَاهُ وغَربَاه: حَدَّاهُ، وصدرُ السيفِ: مِن مَقبِضه إلى مَضرِبه، ومَضرِبُهُ: موقعُ الضَّرب منه، وهو دون الذُّبَاب بِشِبرٍ.
و(قوله: فَأَعظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ) أي: عظَّموه وكَبُرَ عليهم؛ وإنما كان ذلك؛ لأنَّهم نظروا إلى صورةِ الحال، ولم يعرفوا الباطنَ ولا المآل، فأعلَمَ العليمُ الخبيرُ البشيرَ النذيرَ بمُغَيَّبِ الأمرِ وعاقبتِه، وكان ذلك مِن أدلَّةِ صِدقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وصِحَّةِ رسالتِه، ففيه التنبيهُ على تركِ الاِعتمادِ على الأعمال، والتعويلُ على فضلِ ذي العزَّةِ والجلال.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِندَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ بعَمَل أهل الجَنَّةِ - فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ - وهو مِن أهل النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ بعَمَل أهل النَّارِ - فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ - وهو مِن أهل الجَنَّةِ.
رواه أحمد (4/ 135)، والبخاري (4202)، ومسلم (112).
ــ
و(قوله: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ بِعَمَلَ أهل الجَنَّةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ) دليلٌ على أنَّ ذلك الرجُلَ لم يكن مخلصًا في جهاده، وقد صرَّحَ الرجلُ بذلك فيما يروى عنه أنَّه قال: إِنَّمَا قَاتَلتُ عَن أَحسَابِ قَومِي، فيتناول هذا الخَبَرُ أهلَ الرياء. فأمَّا حديثُ أبي هريرة الذي قال فيه: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أهل الجَنَّةِ، ثُمَّ يُختَمُ لَهُ بِعَمَلِ أهل النَّارِ فَيَدخُلُهَا (1): فإنَّما يتناوَلَ مَن كان مخلصًا في أعمالِهِ، قائمًا بها على شروطها، لكن سبَقَت عليه سابقةُ القدر، فبدَّل به عند خاتمته؛ كما يأتي بحقيقته في كتاب القدر، إن شاء الله تعالى.
و(قوله عليه الصلاة والسلام: اللهُ أَكبَرُ! أَشهَدُ أَنِّي عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ عند وقوعِ ما أخبَرَ به من الغيب؛ دليلٌ على أنَّ ذلك مِن جملة معجزاته، وإن لم يقترن بها في تلك الحالِ تَحَدٍّ قوليٌّ؛ وهذا على خلافِ ما يقولُهُ المتكلِّمون: أنَّ مِن شروطِ المعجزةِ اقترانَ التحدِّي القَولِيِّ بها، فإن لم تكن كذلك، فالخارقُ كرامةٌ لا مُعجِزةٌ، والذي ينبغي أن يقال: إنَّ ذلك لا يشتَرَطُ؛ بدليلِ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا كُلَّما ظهَرَ لهم خارقٌ للعادة على يَدَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، استدلُّوا بذلك على صِدقِهِ وثبوتِ رسالته، كما قد اتَّفَقَ لعمر حين دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على قليلِ الأزوادِ، فكَثُرَت فقال عند ذلك: أَشهَدُ أن لَا إِلَهَ إلا الله، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ (2)، وكقول
(1) رواه مسلم (2651).
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 304): رواه أبو يعلى (230) وفيه عاصم بن عبيد الله العمري، وثقه العجلي، وضعْفه جماعة، وبقيّة رجاله ثقات.
[89]
وَفِي رِوَايَةٍ: فَأُخبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: اللهُ أَكبَرُ! أَشهَدُ أَنِّي عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالاً فَنَادَى فِي النَّاسِ: إنَّهُ لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ إِلَاّ نَفسٌ مُسلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ.
رواه أحمد (2/ 309 - 310)، والبخاري (4203)، ومسلم (111) من حديث أبي هريرة.
ــ
أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنه، وبدليل الاِتِّفاقِ على نَبعَ الماء مِن بين أصابعه، وتسبيحَ الحصَى في كَفِّه، وحَنِينَ الجِذع مِن أظهر معجزاته، ولم يصدُر عنه مع شيءٍ مِن ذلك تحدٍّ بالقولِ عند وقوعِ تلك الخوارق، ومع ذلك فَهِيَ معجزاتٌ. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ اقترانَ القولِ لا يلزم، بل يكفي مِن ذلك قولٌ كليٌّ يتقدَّم الخوارقَ؛ كقولِ الرسول صلى الله عليه وسلم: الدليلُ على صِدقِي ظهورُ الخوارق على يَدَيَّ؛ فإنَّ كُلَّ ما يظهَرُ على يَدَيه منها بعد ذلك يكونُ دليلاً على صِدقه وإن لم يقترن بها واحدًا واحدًا قولٌ. ويمكنُ أن يقال: إنَّ قرينةَ حاله تدلُّ على دوامِ التحدِّي، فيتنزَّلُ ذلك منزلةَ اقترانِ القول، والله أعلم.
و(قوله: فَنَادَى فِي النَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ إِلَاّ نَفسٌ مُسلِمَةٌ) أي: مؤمنة (1)؛ لأنَّ الإسلام العَرِيَّ عن الإيمانِ لا يَنفَعُ صاحبَهُ في الآخرة، ولا يُدخِلُهُ الجَنَّة؛ وذلك بخلافِ الإيمان: فإنَّ مجرَّده يَدخُلُ صاحبُهُ الجنَّةَ وإن عُوقِبَ بتركِ الأعمال على ما سنذكرُهُ إن شاءَ اللهُ تعالى؛ فدلَّ هذا على أنَّ هذا الرجُلَ كان مُرَائِيًا منافقًا؛ كما تقدَّم.
ومما يدلّ على ذلك أيضًا: قولُهُ عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ (2)، وهو الكافر؛ كما قال: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا. ويؤيِّد: يُقَوِّي ويَعضُدُ. وأَمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يُنادِيَ بذلك
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه البخاري (6606) ومسلم (111).
[90]
وَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ خَيبَرَ، أَقبَلَ نَفَرٌ مِن صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَلَاّ! إِنِّي رَأَيتُهُ فِي النَّارِ، فِي بُردَةٍ غَلَّهَا، أو عَبَاءَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا ابنَ الخَطَّابِ، اذهَب فَنَادِ فِي
ــ
القولِ، إنَّما كان تنبيهًا على وجوبِ الإخلاصِ في الجهادِ وأعمالِ البِرِّ، وتحذيرًا من الرِّيَاءِ والنفاق.
و(قوله: حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ) هذا الرجلُ هو المسمَّى مِدعَم، وكان عبدًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَينَا هو يَحُطُّ رحلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إذ أصابه سهمٌ، فقال الناس: هنيئًا له الجَنَّةُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الكلامَ.
وكَلَاّ: رَدعٌ وزجر. والغُلُول: الخيانةُ في المَغنَم؛ يقالُ منه: غَلَّ بفتح الغين، يَغُلُّ بضمها في المضارع؛ قال ابن قتيبة وغيره: الغُلُولُ: من الغَلَل، وهو الماءُ الجاري بين الأشجار؛ فكأنَّ (1) الغالَّ سمِّي بذلك؛ لأنَّه يُدخِلُ الغلولَ على أثناءِ راحلته، فأمَّا الغِلُّ، بكسر الغين: فهو الحِقدُ والشَّحناء.
والبُردَة: كساءٌ أسودُ صغيرٌ مربَّع يلبسُهُ الأعراب؛ قاله الجوهري، وقال غيره: هي الشَّملَةُ المخطَّطة، وهي كساءٌ يُؤتَزَرُ به. والعباءة ممدود: الكِسَاء.
و(قوله: إِنِّي أُرِيتُهُ فِي النَّارِ) ظاهره: أنَّها رؤيةُ عِيَانٍ ومشاهدة، لا رؤية منام؛ فهو حُجَّةٌ لأهل السُّنَّة على قولهم: إنَّ الجَنَّةَ والنار قد خُلِقَتَا ووُجِدَتَا. وفيه: دليلٌ على أنَّ بعضَ مَن يُعَذَّبُ في النار يدخلُهَا ويعذَّبُ فيها قبلَ يوم القيامة.
ولا حُجَّةَ فيه للمُكَفِّرة بالذنوب؛ لأنَّا نقولُ: إنَّ طائفةً مِن أهلِ التوحيدِ يَدخُلُون النارَ بذنوبهم، ثُمَّ يَخرُجون منها بتوحيدهم، أو بالشفاعةِ لهم؛ كما سيأتي في الأحاديثِ الصحيحة، ويجوزُ أن يكونَ هذا الغالّ منهم، والله تعالى أعلم.
(1) ساقط من (ع).