الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب في الاستبراء من البول والتستر وما يقول إذا دخل الخلاء
[225]
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبرَينِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمشِي بِالنَّمِيمَةِ.
ــ
هنا معناه الغسل، وتأوله على ذلك، ولا حاجة إلى هذا التأويل، بل إنما معناه الرشُّ، وأما غسل الدم فقد علمها إياه؛ حيث قال لها: تحته ثم تقرصه بالماء، وأما النضح فهو فيما شكت فيه من الثوب، كما قالت عائشة في المني، ولذلك جمعنا بين حديث عائشة في غسل المني وبين حديث أسماء في غسل دم الحيضة، حتى يتبين أن الكيفية المأمور بها في غسلهما واحدة، وأنهما متساويتان في النجاسة.
ويدل هذا الحديث على أن قليل دم الحيض وكثيره سواء في وجوب غسل جميعه، من حيث لم يفرق بينهما في محل البيان، ولو كان حكمهما مختلفًا لفصله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إجماعًا، وهو مشهور مذهب مالك، وقد قال مالك رحمه الله: قد سماه الله أذى، وهو يخرج من مخرج البول.
(19)
ومن باب الاستبراء من البول
(قوله: وما يعذبان في كبير) أي: عندكم، وهو عند الله كبيرٌ، كما جاء في البخاري: وإنه لكبير أي: عند الله، وهذا مثل قوله تعالى: وَتَحسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وقد تقدم الكلام على النَّمام في الإيمان. والنميمة: هي القالة التي ترفع عن قائلها ليتضرر بها قائلها.
وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَستَتِرُ مِن بَولِهِ، قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطبٍ فَشَقَّهُ بِاثنَينِ. ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ أَن يُخَفَّفُ عَنهُمَا، مَا لَم يَيبَسَا.
ــ
و(قوله: وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) أي: لا يجعل بينه وبين بوله سُترة حتى يتحفظ منه، كما قال في الرواية الأخرى: لا يستنزه عن البول أي: لا يتباعد منه. وهذا يدل على أن القليل من البول ومن سائر النجاسات والكثير منه سواء، وهو مذهب مالك وعامة الفقهاء، ولم يخفَّفوا في شيء من ذلك إلا في اليسير من دم غير الحيض خاصةً.
واختلف أصحابنا في مقدار اليسير، فقيل: هو قدر الدرهم البغلي (1). وقيل: قدر الخنصر، وجعل أبو حنيفة قدر الدرهم من كل نجاسة معفو عنه، قياسًا على المخرجين، وقال الثوري: كانوا يرخصون في القليل من البول، ورخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبرِ من البول.
وفيه دليلٌ على أن إزالة النجاسة واجبة متعينة، وكذلك في قوله: استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه (2). وقد تخيل الشافعي في لفظ البول العموم، فتمسك به في نجاسة جميع الأبوال، وإن كان بول ما يؤكل لحمه. وقد لا يسلم له أن الاسم المفرد للعموم، ولو سلم ذلك، فذلك إذا لم يقترن به قَرِينةُ عهدٍ، وقد اقترنت هاهنا، ولئن سُلم له ذلك فدليل تخصيصه حديث إباحة شرب أبوال الإبل للعرنيين، وإباحة الصلاة في مرابض الغنم، وطوافه عليه الصلاة والسلام على بعير، وسيأتي.
و(قوله: فدعا بعسيب رطب) العسيب من النخل: كالقضيب مما سِواهَا، والرطب: الأخضر.
و(قوله: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) اختلف العلماء في تأويل هذا
(1)"الدرهم البغلي": هو درهم فارسي، نُقش عليه رأس بغل، وهو أوفر الدراهم وزنًا انظر "المقاييسُ والأوزان الإسلامية" لهانس، من منشورات الجامعة الأردنية.
(2)
سبق تخريجه ص (552).
وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ الآخَرُ لا يَستَنزِهُ عَنِ البَولِ أو مِنَ البَولِ.
رواه البخاري (1378)، ومسلم (292)، وأبو داود (20 و 21)، والترمذي (70)، والنسائي (1/ 28 - 30).
[226]
وَعَن أَنَسٍ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلاءَ - فِي
ــ
الفعل، فمنهم من قال: أوحي إليه أنه يخفف عنهما ما داما رطبين، وهذا فيه بُعدٌ؛ لقوله: لعله، ولو أوحي إليه لما احتاج إلى الترجي. وقيل: لأنهما ما داما رطبين يسبحان، فإن رطوبتهما حياتهما، وأخذ من هذا التأويل جواز القراءة والذكر على القبور.
وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم شفع لهما، ودعا بأن يخفف عنهما، ما داما رطبين، وقد دل على هذا حديث جابر الذي يأتي في آخر الكتاب في حديث القبرين، قال فيه: فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ذلك، ما دام القضيبان رطبين (1)، فإن كانت القضية واحدة - وهو الظاهر - فلا مزيد على هذا في البيان.
و(قوله: فإذا دخل الخلاء) أصل الخلاء: الخلوة، وهي الخلو، كنى به عن الحدث؛ لأنه يُفعَل في خلوةٍ. والكنيف: الساتر. وقوله: إذا دخل أي: أراد أن يدخل، وقد جاء هذا أيضًا في البخاري هكذا: إذا أراد أن يدخل، ويخرج من هذا: كراهة ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن في هذه المواضع المعتادة للحدث، فلو لم يتعوذ عند الدخول ناسيًا، فهل يتعوذ بعد الدخول أم لا؟ فعن مالك في ذلك قولان، وكرهه جماعة من السلف كابن عباس، وعطاء، والشعبي. وأجاز ذكر الله تعالى في الكنيف، وعلى كل حال، جماعة كعبد الله بن عمر، وابن سيرين، والنخعي، متمسكين بقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (2).
(1) هو في صحيح مسلم رقم (3012).
(2)
رواه أحمد (6/ 70 و 153 و 278)، ومسلم (373)، وأبو داود (18)، والترمذي (3381).
رِوَايَةٍ: الكَنِيفَ - قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبثِ وَالخَبَائِثِ.
رواه أحمد (3/ 99)، والبخاري (142)، ومسلم (375)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، والنسائي (1/ 20)، وابن ماجه (296).
* * *
ــ
وكذلك اختلفوا في دخول الخلاء بالخاتم فيه اسم الله تعالى.
و(قوله: أعوذ) أي: ألوذ وألتجئ، وقد تقدم.
و(قوله: من الخبث والخبائث) رويناه: ساكن الباء ومضمومها. قال ابنُ الأعرابي: الخبيث في كلام العرب: المكروه. وهو ضد الطيب. قال أبو الهيثم: الخُبث - بالضم -: جمع خبيث، وهو الذَّكرُ من الشياطين، والخبائث: جمع الخبيثة، وهي الأنثى منهم، ويعني: أنه تعوذ من ذكورهم وإناثهم، ونحوه قال الخطابي. وقال الداودي: الخبيث: الشيطان، والخبائث: المعاصي. وأما بسكون الباء فقيل فيه: إنه المكروه مطلقًا، وقيل: إنه الكفر. والخبائث: الشياطين، قاله ابن الأنباري. وقيل: الخبائث: البول والغائط، كما قال: لا تدافعوا الأخبثين: الغائط والبول في الصلاة (1).
وقد روى أبو داود في المراسيل عن الحسن: أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث المخبث، الرجس النجس، الشيطان الرجيم (2)، فأتى بالخبيث للجنس، وأكده بالمخبث، والعرب تقول: خبيثٌ مخبثٌ، ومخبثان إذا بالغت في ذلك.
(1) ذكره الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 405) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو داود في المراسيل (2).