الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) توثيق التلخيص والمفهم ومنهج المؤلف فيهما
أولًا - التوثيق:
تبدأ عناية أبي العباس القرطبي رحمه الله بصحيح مسلم من قرطبة، فيرويه قراءةً وسماعًا وإجازةً، عن شيخين كبيرين من شيوخ قرطبة في مجالسَ آخرُها سنة 607 هـ. ثم رواه في مصر عن الشيخ المأموني راوي صحيح مسلم في مصر، وكأن الشيخ القرطبي كان يحرصُ منذ شبابه أن يرتبطَ اسمُه بهذا الكتاب العظيم من كتب السُّنَّة المشرَّفة، فصنعَ له تلخيصًا متميزًا، وضبطَ ألفاظه بالرواية السماعية، ثم شرحَ مشكلاته بما رواه عن مشايخه، وبما فتحَ الله عليه من الفهم والإدراك الذاتيِّ. وشخصيته - رحمه الله تعالى - ظاهرة في مقدمة التلخيص والمفهم، وفي المنهج والأسلوب في كلا الكتابين، بالإضافة إلى صور النسخ المخطوطة الموثقة بالكتابة والسَّماعات، والتي اعتمدناها في تحقيق التلخيص والمفهم. كل ذلك يجعلنا واثقين كل الثقة بحول الله وقوته - ونحن ننفضُ غبارَ السِّنين عن كتاب المفهم ونربطه بالتلخيص مباشرةً في أحدث طباعة وأكمل إخراج - من ظهور طَيْف المؤلف القرطبِّي - رحمه الله تعالى - اسمًا وفكرًا ومنهجًا في كل صفحة وفي كل فقرة، حتى آخر كلمة من الكتاب.
ثانيًا - المنهج والأسلوب:
أ - في تلخيص صحيح مسلم: وضع القرطبي لنفسه منهجًا، نوضحه من خلال مقدمته على التلخيص بالفقرات التالية:
1 -
اختصارُ الأسانيد من جميع الأحاديث والروايات والاكتفاء بذكر الصحابي، وأحيانًا التابعي الذي روى عنه.
2 -
حذفُ المكرر من الأحاديث، وذكرها في موضع واحد حسب موضوعها.
3 -
ترجمة الأبواب بعناوين وافية ودقيقة.
وكان قصدُه رحمه الله تقريبَ "صحيح مسلم" لمن أراد حفظَه، وتيسيرَه لمن أراد التفقُّه فيه، مع ملاحظة تقاصُر الهمم في زمانه. ومن الإنصاف أن نذكرَ ميزتين لهذا التلخيص تجعله وافيًا ومحيطًا بما حواه الأصل من معارف، ومحقِّقًا لغرض مؤلفه، وهما:
الأولى: اختياره للحديث وفق أتم الروايات وأكملها، ثم إيراد بعض الروايات إن كان فيها زيادة في المعنى.
الثانية: اتباعه لترتيب كتاب مسلم، ولم يُخالف إلا في نقل بعض الأحاديث من أماكنها، وإيرادها في المكان الأكثر ملاءمة مع موضوعها، ونقل كتاب الجهاد من مكانه في الصحيح، ووضعه بعد الحج، إظهارًا لأهميته، واقتناعًا بما يعتبره بعض العلماء من أن الجهاد في سبيل الله هو الركن السادس من أركان الإسلام بعد الشهادتين والعبادات الأربع.
ب - وفي "المفهم" رأى المؤلف رحمه الله أن يكمل إفادة الطالبين للتلخيص، بشرح غريبه، والتنبيه على نكت من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بأحاديثه، وايضاح مشكلاته.
وقد وفَّى - رحمه الله تعالى - بهذا كله وزاد عليه، ونستطيع من خلال "المفهم" أن نسجل حول منهجه وأسلوبه الملاحظات التالية:
1 -
بالنسبة للألفاظ الغريبة، يبدأ المؤلف رحمه الله بضبطها، ثم يستعرض أقوال علماء اللغة في شرحها، ويشير إلى الأرجح منها، ولكنه يُوردُ بعضَ الألفاظ من صحيح مسلم، ويقول: جاء في "الأم". وفي بعض الأحيان تدخلُ عليه بعض
الألفاظ من صحيح البخاري أو من غيره من الكتب دون أن يشير إلى ذلك، ولعل سبب ذلك الاستقصاء أو توارد حفظه أثناء التأليف.
2 -
الأحكام الفقهية، المستنبطة من الأحاديث ظاهرة في الشرح، وطرائق الفقهاء في الاستدلال والاستنباط واضحة، مع البدء والتركيز على مذهب مالك رحمه الله أولًا.
3 -
تأويل المختلف، وحل المشكل، في بعض الأحاديث، يُظهر قدرة المؤلف رحمه الله على عرض الاحتمالات والافتراضات، ويساعده على ذلك اشتغاله في أول حياته بالمعقول، وفي الغالب تكون توجيهاته لإزالة التناقض أو التصادم بين الأدلة مفيدة.
4 -
يختم كثيرًا من الأحاديث، وأحيانًا فقرات الحديث الواحد، باستنباط توجيهات وإرشادات مفيدة جدًّا، نتمنى أن لو زاد منها وأكثر.
5 -
تَرِدُ أبوابٌ في "التلخيص" لم يتعرّض المؤلفُ رحمه الله إلى شرحِ شيء منها في "المفهم" لأنه لم يَجدْ فيها إشكالًا يحتاج إلى الشرح.
6 -
يمتاز أسلوب القرطبي - رحمه الله تعالى - بالرشاقة وحسن السَّبْك، مع البعد عن التقعر أو التكلف، وترد الجمل المتقابلة أو المسجوعة في كلامه، ولكن من غير تكلُّف ظاهر، وبالجمدة فإن عنايته باللغة والبلاغة من مطلع حياته، جعلت أسلوبه رائقًا وسلسًا، ومقدمتاه للتلخيص والمفهم والنهايات التي كان يختم بها شروح الأحاديث تؤكد ما ذهبنا إليه.
* * *