الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنكِبَي رَجُلَينِ، يَطُوفُ بِالبَيتِ، فَقُلتُ: مَن هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا المَسِيحُ الدَّجَّالُ.
رواه أحمد (2/ 37 و 131)، والبخاري (3439) و (7407)، ومسلم (169).
* * *
(58) باب هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه
؟
177 -
[138] عَن مَسرُوقٍ؛ قَالَ: كُنتُ مُتَّكِئًا عِندَ عَائِشَةَ، فَقَالَت: يَا أَبَا
ــ
(58)
ومن باب هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربّه؟
(قول عائشة للذي سألها عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه: لقد قفّ شعري لِما قلت) أي: قام من الفزع. قال أبو زيد: قفّ الرجل من البرد قفّةً، والقفوف. القشعريرة. قال الخليل بن أحمد: القفقفة. الرعدة. قال ابن الأعرابي: تقول العرب عند إنكار الشيء. قفّ شعري واقشعرّ جلدي واشمأزّت نفسي.
واختلف قديمًا وحديثًا في جواز رؤية الله تعالى، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأهل السلف والسنة على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة، ثم هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربّه أم لا؟ اختلف في ذلك السلف والخلف، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب (1) جماعة من المتكلمين والمحدثين. وذهبت طائفة أخرى من السلف إلى
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (م).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقوعه وأنه رأى ربّه بعينيه، وإليه ذهب ابن عبّاس، وقال: اختُصّ موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية. وأبو ذرّ وكعب (1) والحسن وأحمد بن حنبل. وحُكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قول لهما آخر، ومثل ذلك حُكي عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه.
وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف (2)، وقالوا: ليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا، ولكنه جائز عقلاً، وهذا هو الصحيح؛ إذ رؤية الله تعالى جائزة كما دلّت عليها الأدلة العقلية والنقلية، فأما العقلية، فتعرف في علم الكلام. وأما النقلية فمنها سؤال موسى رؤية ربه، ووجه التمسّك بذلك علم موسى بجواز ذلك، ولو علم استحالة ذلك، لما سأله، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك؛ إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة، وانتهائه إلى أن يصطفيه الله على الناس، وأن يُسمعه كلامه بلا واسطة، جاهلاً بما يجب لله تعالى ويستحيل عليه ويجوز، ومجوز هذا كافر.
ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ووجه التمسك بها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة، وإذا جاز أن يروه فيها، جاز أن يروه في الدنيا؛ لتساوي الوقتين بالنظر إلى الأحكام العقلية.
ومنها: ما تواترت جملته في صحيح الأحاديث من أخباره صلى الله عليه وسلم لوقوع ذلك؛ كرامةً للمؤمنين في الدار الآخرة، فهذه الأدلة تدلّ على جواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة والدنيا. ثم هل وقعت رؤية الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أو لم تقع؟ ليس في ذلك دليل قاطع، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسّك
(1) من (م).
(2)
في (ع): الوقوف.
عَائِشَةَ! ثَلاثٌ مَن تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنهُنَّ فَقَد أَعظَمَ عَلَى اللهِ الفِريَةَ. قُلتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَت: مَن زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَد أَعظَمَ عَلَى اللهِ الفِريَةَ. قَالَ: وَكُنتُ مُتَّكِئًا فَجَلَستُ، فَقُلتُ: يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ! أَنظِرِينِي وَلا تَعجَلِيني. أَلَم يَقُلِ اللهُ عز وجل: وَلَقَد رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ، وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى. فَقَالَت: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَن ذَلِكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّمَا هو جِبرِيلُ، لَم أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيهَا غَيرَ هَاتَينِ المَرَّتَينِ، رَأَيتُهُ مُنهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلقِهِ مَا
ــ
بظواهر متعارضة معرضة للتأويل، والمسألة ليست من باب العمليات، فيكتفى فيها بالظنون، وإنما هي من باب المعتقدات، ولا مدخل للظنون فيها؛ إذ الظنّ من باب الشك؛ لأن حقيقته تغليب أحد المُجَوَّزَين، وذلك يناقض العلم والاعتقاد.
واختلفوا أيضا هل كلّم محمد صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فذهب ابن مسعود وابن عبّاس وجعفر بن محمد وأبو الحسن الأشعري في طائفة من المتكلمين إلى أنه كلّم الله بغير واسطة (1)، وذهبت جماعة إلى نفي ذلك. والكلام على هذه المسألة كالكلام على مسألة الرؤية سواء.
و(قول عائشة: فقد أعظم الفِرية على الله تعالى) الفرية هي الافتراء، وهو اختلاق الكذب وما يقبُح التحدّث به.
و(قوله تعالى: بِالأُفُقِ المُبِينِ) الأفق: الجانبُ والناحية، وجمعه آفاقٌ، ويقال: أفق بضم الفاء وسكونها. والمبين: البيّن الواضح. والضمير في وَلَقَد رَآهُ عائد إلى رسولٍ، وهو جبريل. وكذلك في قوله: وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى وقد روت ذلك عائشة مرفوعًا مفسّرا على ما يأتي،
(1) ساقط من (ل).
بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ. فَقَالَت: أولَم تَسمَع أَنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ: لَا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأَبصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ. أولَم تَسمَع أَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ
ــ
فلا يلتفت إلى ما يقال في الآية غير هذا. وأما استدلال عائشة بقوله تعالى: لَا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ ففيه بُعد؛ إذ قد يقال بموجبه، إذ يفرق بين الإدراك والإبصار، فيكون معنى لا تدركه لا تحيط به، مع أنها تبصره، قاله سعيد بن المسيب. وقد بقيَ الإدراك مع وجود الرؤية في قول الله تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ قَالَ كَلَّا؛ أي: لا يدركونكم. وأيضًا فإن الإبصار عموم وهو قابل للتخصيص، فيخصص بالكافرين، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُم عَن رَبِّهِم يَومَئِذٍ لَمَحجُوبُونَ ويُكرَّم المؤمنون أو من شاء الله منهم بالرؤية، كما قال تعالى:{وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرَةٌ} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية، فلا حجة فيها.
واللطيف الكثير اللطف، وهو في حق الله تعالى رفقُه بعباده وإيصاله لهم ما يصلحهم بحيث لا يشعرون، كما قال: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ وأصله من اللطف في العمل وهو الرفق فيه، وضده العنف، والاسم منه اللطَف بتحريك الطاء، يقال: جاءتنا لطَفَةٌ من فلان؛ أي: هدية. والخبير العليم بخبرة الأمور؛ أي: ببواطنها وما يختبر منها، يقال: صدَّق الخَبر الخُبر بضم الخاء، ومنه قول أبي الدرداء. وجدت الناس اخبرُ تَقلِه (1).
وأما استدلالها بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحيًا}
(1) هذا مثل يُضرب في ذم الناس وسوء معاشرتهم. وأُخرج الكلام فيه على لفظ الأمر، ومعناه: الخبر. يريد: أنك إذا خبرتهم قليتهم، أي: أبغضتهم. انظر: (مجمع الأمثال 2/ 363).
حِجَابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولًا إلى قَولِهِ: عَلِيٌّ حَكِيمٌ؟ قَالَت: وَمَن زَعَمَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيئًا مِن كِتَابِ اللهِ فَقَد أَعظَمَ عَلَى اللهِ الفِريَةَ، وَاللهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ. قَالَت: وَمَن زَعَمَ أَنَّهُ يُخبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَد أَعظَمَ عَلَى اللهِ الفِريَةَ. وَاللهُ يَقُولُ: قُل لَا يَعلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلَّا اللَّهُ.
ــ
فلا حجة فيه على نفي الرؤية؛ إذ يقال بموجبها، فإن مقتضاها نفي كلامِ الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، وإنما يصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم مشافهةً على ضعفٍ في ذلك لا يخفى على متأمّل، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدا رأى ربه وكلّمه دون واسطة، فقال: هي ثلاثة أقسام. من وراء حجاب، كتكليم موسى، وبإرسال الملائكة، كحال جميع الأنبياء. ولم يبق من تقسيم المكالمة إلا كونها مع المشاهدة، وهذا أيضا فيه نظر.
و(قوله تعالى: {فَيُوحِيَ بِإِذنِهِ مَا يَشَاءُ} ؛ أي: بأمره، كما قال:{مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذنِهِ} وفي يوحي ضمير يعود على الرسول، وفي يَشَاءُ ضمير يعود على الله تعالى، ومعناه. فيُلقي الرسول إلى الموحَى إليه ما يشاؤه الله تعالى. والعَلِيّ ذو العلو، وهو الرفعة المعنويَّة في حقّه تعالى لا المكانيّة. والحكيم المُحكِم الأمور، أو الكثير الحكمة. ومعنى مساق الآية. أنّه تعالى مُنزَّه عن أن يتَنزل كلامَهُ أسماعُ كلّ السامعين، بل يُحكِمُ الله كيفية إيصاله إلى النبيّين والمرسلين.
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ، قالت: وَلَو كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيئًا مِمَّا أَنزَلَ اللهُ عَلَيهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ: وَإِذ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ أَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخفِي فِي نَفسِكَ مَا اللَّهُ مُبدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخشَاهُ.
رواه البخاري (4855)، ومسلم (177)، والترمذي (3070).
ــ
وقولها: ولو كان محمّد كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية: وَإِذ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ أَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ، قد اجترأ بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ونسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به ويستحيل عليه؛ إذ قد عصمه الله منه، ونزّهه عن مثله، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هَوِيَ زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المُجّان لفظ عشق. ثم جاء زيد يريد تطليقها، فقال له: أمسك عليك زوجك واتَّقِ الله، وهو مع ذلك يحبُّ أن يطلقها ليتزوجها. وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته عليه الصلاة والسلام عن مثل هذا، أو مستخفّ بحرمته. والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح، ولا يليق بذوي المروءات، فأحرى بخير البريات، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين: أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجةً له، فلما شكاها زيدٌ له وأراد أن يطلقها، قال له: أمسك عليك زوجَك واتَّقِ الله، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيدٍ لها وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم لها. ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم.
والذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إرجاف المنافقين، وأنه نَهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِن حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ولو كان ما ذكر أولئك، لكان فيه أعظم الحرج ولقوله: لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى المُؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزوَاجِ أَدعِيَائِهِم إِذَا قَضَوا مِنهُنَّ وَطَرًا وبالله التوفيق.
[139]
وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ؛ وَأَبِي هُرَيرَةَ؛ فِي تَفسير: وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى: أنَّهُ جِبرِيلُ.
رواه مسلم (173) عن ابن مسعود، و (175) عن أبي هريرة.
[140]
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى، وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَينِ.
رواه مسلم (176)، والترمذي (3275) و (3276) و (3277).
[141]
وَعَن أَبِي ذَرٍّ؛ قَالَ: سَأَلتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: هَل رَأَيتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيتُ نُورًا.
رواه مسلم (178)، والترمذي (3278).
ــ
و(قوله عليه الصلاة والسلام: نور أَنَّى أراه) هكذا رويناه وقيدناه برفع نور وتنوينه، وفتح أَنَّى التي بمعنى كيف الاستفهامية، ورواية من زعم أنه رواه: نورٌ إني ليست بصحيحة النقل ولا موافقة للعقل، ولعلها تصحيف. وقد أزال هذا الوهم الرواية الأخرى، حيث قال: رأيت نورًا، ورفع نور على فعل مضمر تقديره: غلبني نورٌ، أو حجبني نورٌ.
وأَنَّى أراه استفهام على جهة الاستبعاد؛ لغلبة النور على بصره كما هي عادة الأنوار الساطعة كنور الشمس، فإنه يُعشي البصر، ويحيره (1) إذا حدّق نحوه، ولا يعارض هذا: رأيتُ نورًا، فإنه عند وقوع بصره على النور رآه، ثم غلب عليه بعد، فضعُف عنه بصره. ولا يصح أن يُعتقد أن الله نور كما اعتقده هشام الجواليقي وطائفة المجسّمة ممن قال: هو نور لا كالأنوار؛ لأن النور لون قائم بالهواء، وذلك على الله تعالى محال عقلاً ونقلا.
(1)"حار بصره": عَشِي ولم يستطع متابعة النظر.
[142]
وَعَن أَبِي مُوسَى؛ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِخَمسِ
ــ
فأما العقل فلو كان عرضًا أو جسمًا، لجاز عليه ما يجوز عليهما، ويلزم تغيّره وحدثُه. وأما النقل فقوله تعالى: لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ ولو كان جسمًا أو عرضًا لكان كل شيء منهما مماثلاً له.
وقول هذا (1) القائل: جسم لا كالأجسام، أو نور لا كالأنوار متناقض، فإن قوله: جسم أو نور، حاكم عليه بحقيقة ذلك، وقوله: لا كالأجسام يعني لما أثبته من الجسمية والنورية، وذلك متناقض، فإن أراد أنه يساوي الأجسام من حيث الجسمية ومفارق لها من حيث وصفٌ آخر ينفرد به، لزمت تلك المحالات من حيث الجسمية، ولم يتخلص منها بذكر ذلك الوصف الخاص؛ إذ الأعمّ من الأوصاف تلزمه أحكام من حيث هو لا تلزم الأخصّ كالحيوانية والنطقية، وتتميم هذا في علم الكلام.
و(قول ابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام رآه بفؤاده مرتين) الفؤاد: القلب. ولا يريد بالرؤية هنا: العلم، فإنه عليه الصلاة والسلام (2) كان عالِمًا بالله على الدوام، وإنما أراد أن الرؤية التي تخلق في العين خلقت للنبي صلى الله عليه وسلم في القلب. وهذا على ما يقوله أئمتنا: إن الرؤية لا يُشترط لها محل مخصوص عقلا، بل يجوز أن يخلق في أي محل كان، وإنما العادة جارية بخلقها في العين. وقول ابن عباس هذا خلاف ما حكيناه عنه من أنه رآه بعينه.
ولا يبعد الجمع بينهما في مذهبه، فيقول: إنه رآه بقلبه وعينه. فأما اسم الله تعالى: النور، فمعناه أنه هادٍ من ظلمات الجهالات، كما أن النور المحسوس هادٍ في محسوس الظلمات. وقيل: معناه أنه منوّر السماوات والأرض وخالق الأنوار فيهما.
(1) من (ل).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (م).
كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، وَلا يَنبَغِي لَهُ أَن يَنَامَ، يَخفِضُ القِسطَ
ــ
و(قوله: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) النوم عليه محال؛ لأن النوم موت، كما قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن نوم أهل الجنة، فقال: النوم أخو الموت (1)، والجنة لا موت فيها، وأيضًا فإن النوم راحة من تعب التصرف، وذلك من تعب الأجسام.
و(قوله: يخفض القسط ويرفعه) قال ابن قتيبة: القِسط: الميزان، وسمي بذلك؛ لأن القسط هو العدل، وذلك إنما يحصل ويُعرف بالميزان في حقوقنا، وأراد به هاهنا ما يوزن به أعمال العباد المرتفعة إليه، وأرزاقهم الواصلة إليهم، كما قال الله تعالى: وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعلُومٍ.
والقسطاس - بضم القاف وكسرها -: هو أقوام الموازين، وقيل: أراد بالقسط هنا الوزن الذي هو قسط كل مخلوق، يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسّعه. وقيل: إن القسط هو العدل نفسُهُ، ويراد به الشرائع والأحكام، كما قال الله تعالى: لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ؛ أي: النصفة في الأحكام والعدل المأمور به في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ فتارة يرفعه بمعنى: يعليه ويظهره بوجود الأنبياء وأصحابهم وأتباعهم العاملين به، وتارة يخفضه بمعنى أنّه يذهبه ويخفيه بدروس الشرائع، ورجوع أكثر الناس عن المشي على منهاجها. ويحتمل أن يكون رفعها: قبضها، كما قال عليه الصلاة والسلام في الأمانة: إنها ترفع من القلوب (2)، وكما قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة (3)، بل كما قال:
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 415) رواه الطبراني في الأوسط والبزار (3517) -ورجال البزار رجال الصحيح- من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6497)، ومسلم (143)، والترمذي (2180)، وابن ماجه (4053) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (19431) موقوفًا من حديث ابن مسعود رضي الله=
وَيَرفَعُهُ، يُرفَعُ إِلَيهِ عَمَلُ اللَّيلِ قَبلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبلَ عَمَلِ اللَّيلِ، حِجَابُهُ النُّورُ. . . . . . . . .
ــ
عليكم بالعلم قبل أن يرفع (1)، وخفضها إيجادها في الأرض ووضعها، والله أعلم.
و(قوله: يرفع إليه عمل النهار قبل الليل) يعني أن الملائكة الموكلين بنا تحصي علينا عمل اليوم، فترفعه في آخره لقرب الليل، وكذلك في الليل ترفعه بقرب النهار، ولذلك جاء في الرواية الأخرى: يرفع إليه عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل، فجعل الباء مكان قبل. وهذا الحديث كقوله: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار (2). والهاء في إليه عائدة إلى الله تعالى لكن على طريقة حذف المضاف، والمراد به المحل الذي تنتهي الملائكة إليه بأعمال العباد، ولعلّه سدرة المنتهى كما تقدم في حديث الإسراء. وهذا كما تقول: رفع المال إلى الملك؛ أي إلى خزائنه. وعلى هذا يحمل قوله تعالى: إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ.
و(قوله: تَعرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ) أي: مقاماتهم في حضرته، وإنما احتجنا إلى إبداء هذا التأويل؛ لئلا يتخيل الجاهل أنه مختصّ بجهة فوق فيلزمه التجسيم، ويكفيك مما يدل على نفي الجهة في حقه تعالى: وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وما في معناه.
و(قوله: حجابه النور أو النار) الحجاب: هو المانع والساتر، ومنه سمي المانع من الأمير حاجبًا، وهو مضاف إلى الله تعالى إضافة ملكٍ
= عنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 330): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل، وهو ثقة.
(1)
رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 28)، وابن عدي في الكامل (5/ 1813) وفيه عثمان بن أبي العاتكة: ضعيف.
(2)
سبق تخريجه ص (308).
وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ، لَو كَشَفَه لأَحرَقَت سُبُحَاتُ وَجهِهِ مَا انتَهَى إِلَيهِ بَصَرُهُ مِن خَلقِهِ.
رواه أحمد (4/ 395 و 405)، ومسلم (179)، وابن ماجه (196).
* * *
ــ
واختراع (1)، أو إضافة تشريف، والمحجوب به العباد. وهو النور الذي بهر بصر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: نورٌ أَنَّى أراه، وهو المعني بقوله في سدرة المنتهى: فغشيها ألوان لا أدري ما هي. وأما البارئ تعالى، فيستحيل عليه أن يحيط به حجاب؛ إذ يلزم منه أن يكون مقدرًا محصورًا، فيحتاج إلى مُقدّر ومخصّص، ويلزم منه حدوثه. وفي التحقيق أن الحجاب في حقوقنا الموانع التي تقوم بنا عند وجود هذه الحوائل؛ كالجسم الكثيف والشديد النور.
و(قوله: لو كشفها) الضمير عائد على النار أو الأنوار، والحجاب؛ بمعنى: الحجب، والسبحات جمع سُبحة، وأصلها جمال الوجه وبهاؤه، ثم يُعبّر عنها عن العظمة والجلال، وفي العين والصِحاح: سبُحات وجه ربّنا جلاله. والهاء في بصره عائدة على الله تعالى على أحسن الأقوال، وهو الذي عاد عليه ضمير وجهه، وكذلك ضمير خلقه.
ومعنى الكلام: أن الله تعالى لو كشف عن خلقه ما منعهم به من رؤيته في الدنيا لما أطاقوا رؤيته، ولهلكوا من عند آخرهم، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا. ويفيد أن تركيب هذا الخلق وضعفهم في هذه الدار لا يحتمل رؤية الله فيها، فإذا أنشأهم الله للبقاء وقوّاهم، حملوا ذلك.
وقد أكثر الناس في تأويل هذا الحديث وأبعدوا، لا سيما من قال: إن الهاء في وجهه تعود على المخلوق، فإنه يحيل مساق الكلام ويُخلّ بالمعنى. والأشبه ما ذكرناه، أو التوقف كما قال السلف: اقرؤوها كما جاءت)، يعنون المشكلات، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
(1) في (ل) و (ط): احترام.