الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(62) باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين
[149]
عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ؛ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رسولَ الله! هَل نَرَى رَبَّنَا يَومَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَم قَالَ: هَل تُضَارُّونَ فِي رُؤيَةِ الشَّمسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحوًا لَيسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَل تُضَارُّونَ فِي رُؤيَةِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ صَحوًا لَيسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لا. يَا رسولَ الله! قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤيَةِ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤيَةِ أَحَدِهِمَا. إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِع كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَت تَعبُدُ. فَلا يَبقَى أَحَدٌ كَانَ يَعبُدُ غَيرَ اللهِ مِنَ الأَصنَامِ وَالأَنصَابِ، إِلا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. حَتَّى إِذَا لَم يَبقَ إِلا مَن كَانَ يَعبُدُ اللهَ مِن بَرٍّ وَفَاجِرٍ،
ــ
الشأن الممتنع على من يرومه، ومنه نخلة جبّارة إذا فاقت الأيدي طولا، يقال منه. جبّار بيِّن الجبرية والجبروت، ولم يأت فعّال من أفعلت إلا جبَّار من أجبرت، ودرّاك وسآر. والجبروت أيضًا للمبالغة بزيادة التاء، مثل مَلَكُوت ورَحَمُوت ورَهَبوت من الملك والرحمة والرهبة.
وجاء جبريائي هنا لمطابقة كبريائي، كما قالوا. هو يأتينا بالغدايا والعشايا. وقيل في معنى الجبّار؛ أي: المصلح، من قولهم: جبرت العظم، وذلك أنه تعالى يجبر القلوب المنكسرة من أجله، ويرحم عباده، ويسدّ خلاتهم.
(62)
ومن باب شفاعة الملائكة
(قوله: أذَّن مؤذِّنٌ) أي: نادَى منادٍ برفيع صوته؛ كي يعلم أهل الموقف. والأنصاب: جمع نَصب بفتح النون، وهو ما ينصِبَ من حجارة أو غيرها ليُعبد
وَغُبَّرِ أهل الكِتَابِ. فُيدعَى اليَهُودُ فَيُقَالُ لَهُم: مَا كُنتُم تَعبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعبُدُ عُزَيرَ ابنَ اللهِ. فَيُقَالُ: كَذَبتُم، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ. فَمَاذَا تَبغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشنَا، يَا رَبَّنَا! فَاسقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيهِم: أَلا تَرِدُونَ؟ فَيُحشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، يَحطِمُ بَعضُهَا بَعضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ يُدعَى النَّصَارَى. فَيُقَالُ لَهُم: مَا كُنتُم تَعبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعبُدُ المَسِيحَ ابنَ اللهِ. فَيُقَالُ لَهُم: كَذَبتُم، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُم: مَاذَا تَبغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشنَا، يَا رَبَّنَا! فَاسقِنَا. قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيهِم: أَلا ترِدُونَ؟ فَيُحشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، يَحطِمُ بَعضُهَا بَعضًا،
ــ
من دون الله تعالى، والأصنام: جمع صَنَم، وهو ما كان مصورًا اتُّخِذَ ليعبد. ويقال عليه: وَثَنٌ وأوثان.
و(قوله: وغُبَّرِ أهل الكتاب) يعني: بقاياهم، وهو من غَبَر الشيء إذا بقي، ويقال أيضًا بمعنى: بعد وذهب، وهو من الأضداد، وقد جاء الأمران في كتاب الله تعالى. وعزير رجل من بني إسرائيل قيل: إنه لما حرّق بختنصّر التوراة وقتل القائمين بها والحافظين لها، قذفها الله تعالى في قلبه فقرأها عليهم، فقالت جهلة اليهود عنه: إنه ابن الله. وتبغون تطلبون. قال:
أنشدوا الباغي يحب الوجدان (1)
والسراب ما تراه نصف النهار وكأنه ماءٌ. ويحطم بعضها بعضًا أي: يركب بعضها على بعض ويكثر بعضها على بعض، كما يفعل البحر إذا هاج.
و(قوله: فيشار إليهم ألا ترِدون) لما ظنّوا أنه ماء أُسمعوا بحسب ما ظنّوا،
(1)"الباغي": الذي يطلب الشيءَ الضال. والوجدان: الاهتداء إلى الضالة ووجودها.
أي: أعْلِنُوا عن الشيء الضائع، فإنَّ الطالبَ له مُتلهِّفٌ إلى لقياه.
فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. حَتَّى إِذَا لَم يَبقَ إِلا مَن كَانَ يَعبُدُ اللهَ مِن بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُم رَبُّ العَالَمِينَ فِي أَدنَى صُورَةٍ مِنِ الَّتِي رَأَوهُ فِيهَا. قَالَ: فَمَا تَنتَظِرُونَ؟ تَتبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَت تَعبُدُ. قَالُوا: يَا رَبَّنَا! فَارَقنَا النَّاسَ فِي الدُّنيَا أَفقَرَ مَا كُنَّا إِلَيهِم وَلَم نُصَاحِبهُم، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُم. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنكَ.
ــ
فإن الورود إنما يقال لمن قصد إلى الماء ليشرب. ويحشرون يساقون مجموعين.
و(قوله: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر) يعبد الله يوحده ويتذلل له. والبر ذو البر، وهو فِعل الطاعات والخير، والفجور عكسه.
و(قوله: أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها) إتيان الله تعالى هنا هو عبارة عن إقباله عليهم وتكليمه إياهم، وأدنى بمعنى: أقرب، والصورة بمعنى: الصفة، ورأوه بمعنى (1): أبصروا غضبه.
ومعنى ذلك أنّهم لما طال عليهم قيامُهم في ذلك المقام العظيم الكرب (2) الشديد الخوف الذي يقول فيه كل واحد من الرسل الكرام: إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، هالهم ذلك، وكأنهم يئسوا من انجلاء ذلك. فلمّا كشف الله عنهم ذلك، وأقبل عليهم بفضله ورحمته وكلّمهم، رأوا من صفات لطفه ومن كرمه ما هو أقرب مما رأوه أولاً من غضبه وأخذه، وإلا فهذا أول مقام كلّمهم الله فيه مشافهةً، وأرى من أراد منهم وجهَه الكريمَ، إن قلنا: إنَّ المؤمنين رأوه في هذا المقام، وقد اختلف فيه، ولم يكن تقدّم لهم قبل ذلك سماع ولا رؤية، فتعيّن ما قلناه، والله أعلم.
و(قوله: قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم) الصحيح
(1) ساقط من (ع).
(2)
في (ع): الكريم.
لا نُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا - مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا - حَتَّى إِنَّ بَعضَهُم لَيَكَادُ أَن يَنقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَل بَينَكُم وَبَينَهُ آيَةٌ فَتَعرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم. فَيُكشَفُ عَن سَاقٍ، فَلا يَبقَى مَن كَانَ يَسجُدُ لِلَّهِ مِن تِلقَاءِ نَفسِهِ إِلا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلا يَبقَى مَن كَانَ يَسجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلا جَعَلَ اللهُ ظَهرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَن يَسجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرفَعُونَ رُءُوسَهُم، وَقَد تَحَوَّلَ فِي صُورَته الَّتِي رَأَوهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَيقَول: أَنَا رَبُّكُم. فَيَقُولُونَ: أَنتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضرَبُ الجِسرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ. وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ! سَلِّم. سَلِّم. قِيلَ: يَا رسولَ الله! وَمَا الجِسرُ؟ قَالَ: دَحضٌ مَزِلَّةٌ. فِيها خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجدٍ فِيهَا شُوَيكَةٌ، يُقَالُ لَهَا السَّعدَانُ. فَيَمُرُّ المُؤمِنُونَ كَطَرفِ العَينِ وَكَالبَرقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيرِ وَكَأَجَاوِيدِ الخَيلِ وَالرِّكَابِ. فَنَاجٍ
ــ
من الرواية: فَارَقنا ساكنة القاف، والناسَ منصوب على مفعول فارقنا، وهو جواب الموحدّين لمّا قيل: لِتَتَّبِع كلُّ أمَّة ما كانت تعبد، ومعناه. إنا فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبهم على شيء منها؛ اكتفاءً بعبادتك ومُعاداةً فيك، ونحن على حال حاجة شديدة إليهم وإلى صحبتهم؛ إذ قد كانوا أهلا وعشيرة ومخالطين ومُعاملين، ومع ذلك ففارقناهم فيك وخالفناهم؛ إذ خالفوا أمرك، فليس لنا معبود ولا متبوع سواك.
وكان هذا القول يصدر من المحق والمتشبه، فحينئذ تظهر لهم صورةٌ تقول: أنا ربكم امتحانًا واختبارًا، فيثبت المؤمنون العارفون ويتعوّذون، ويرتاب المنافقون والشاكون. ثم يؤمر الكل بالسجود على ما تقدم، وقد تقدم القول على مشكلات هذا الحديث في حديث أبي هريرة المتقدم (1).
و(قوله: كأجاويد الخيل والركاب) هي سراعها، وهو جمع جياد، فهو
(1) حديث أبي هريرة سبق برقم (146).
مُسَلَّمٌ، وَمَخدُوشٌ مُرسَلٌ، وَمَكدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. حَتَّى إِذَا خَلَصَ المُؤمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا مِنكُم مِن أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ، فِي استِقصاءِ الحَقِّ، مِنَ المُؤمِنِينَ لِلَّهِ يَومَ القِيَامَةِ لإِخوَانِهِمِ الَّذِينَ فِي النَّارِ. يَقُولُونَ: رَبَّنَا! كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُم: أَخرِجُوا مَن عَرَفتُم، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُم عَلَى النَّارِ، فَيُخرِجُونَ خَلقًا كَثِيرًا. قَد أَخَذَتِ
ــ
جمع الجمع. والركاب الإبل، ومخدوش مرسل، يعني تأخذ منه الخطاطيف حتى تقطع لحمه ثم يُخلّى، وبعد ذلك ينجو.
و(قوله: ومكدوسٌ في نار جهنم) روايتنا فيه (1) بالسين المهملة، وروي عن العذري بالشين المثلثة (2). ووقع في بعض نسخ كتاب مسلم: مكردس بدل مكدوس، وهي الثابتة في حديث أنس المتقدم (3)، وقد ذكر تفسيرها فيه. والكدس بالمهملة: إسراع المُثقل في السير، يقال: تكدّس الفرس؛ إذا مشى كأنه مثقل. والكُدسُ بضم الكاف واحد أكداس الطعام. ويحتمل أن يؤخذ المكدوس من كلّ واحد منهما. وأما الشين المعجمة، فالكَدش الخدش، عن الأصمعي، وهو أيضًا السوق الشديد، وكلاهما يصحّ حملُ هذه الرواية عليه.
و(قوله: فتحرم صورهم على النار) يعني صور المخرجين. وهذا كما قال فيما تقدم: حرّم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود (4)، وآثار السجود تكون في أعضائه السبعة ولا يقال، فقد قال عقيب هذا: فيخرجون خلقًا كثيرًا قد
(1) ساقط من (ع).
(2)
في (ل): المعجمة.
(3)
حديث أنس سبق برقم (148)، وليس فيه (مكردس) بل هي في حديث أبي هريرة رقم (147).
(4)
سبق تخريجه برقم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
النَّارُ إِلَى نِصفِ سَاقَيهِ وَإِلَى رُكبَتَيهِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا! مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّن أَمَرتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ جَلَّ وَعَزَّ: ارجِعُوا. فَمَن وَجَدتُم فِي قَلبِهِ مِثقَالَ دِينَارٍ مِن خَيرٍ فَأَخرِجُوهُ. فَيُخرِجُونَ خَلقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا! لَم نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّن أَمَرتَنَا. ثُمَّ يَقُولُ: ارجِعُوا. فَمَن وَجَدتُم فِي قَلبِهِ مِثقَالَ نِصفِ دِينَارٍ مِن خَيرٍ فَأَخرِجُوهُ. فَيُخرِجُونَ خَلقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا! لَم نَذَر فِيهَا مِمَّن أَمَرتَنَا أَحَدًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارجِعُوا. فَمَن وَجَدتُم فِي قَلبِهِ مِثقَالَ ذَرَّةٍ مِن خَيرٍ فَأَخرِجُوهُ. فَيُخرِجُونَ خَلقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا! لَم نَذَر فِيهَا خَيرًا.
وَكَانَ أبو سَعِيدٍ يَقُولُ: إِن لَم تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الحَدِيثِ فَاقرَءُوا إِن شِئتُم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفهَا وَيُؤتِ مِن لَدُنهُ أَجرًا عَظِيمًا. فيَقُولُ اللهُ تَعَالىَ: شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وَشَفَعَ
ــ
أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه. وهذا ينصّ على أنّ النار قد أخذت بعض أعضاء السجود، لأنَّا نقول: تأخذ فتغيّر ولا تأكل فتُذهب. ولا يبعد أن يقال: إنّ تحريم الصور على النار إنما يكون في حق هذه الطائفة المشفوع لهم أولاً؛ لعلو رتبتهم على من يخرج بعدهم، فتكون النار لم تقرب صُورهم ولا وجوههم بالتغيير ولا الأكل، والله تعالى أعلم.
و(قوله: مثقال ذَرّة) كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء، وهي الصغيرة من النمل، ولم يختلف أنه كذلك في هذا الحديث. وقد صحّفه شعبة في حديث أنس، فقال: ذُرَة، بضم الذال وتخفيف الراء. على ما قيّده أبو علي الصدفي والسمرقندي، وفيما قيّده العُذري والخشني. دُرّة، بالدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدُّر، وهو تصحيف التصحيف. وقول أبي سعيد: إن لم تصدّقوني فاقرؤوا، ليس على معنى أنهم اتهموه، وإنما كان منه على معنى التأكيد والعضد.
النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ المُؤمِنُونَ، وَلَم يَبقَ إِلا أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَيَقبِضُ قَبضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخرِجُ مِنهَا قَومًا لَم يَعمَلُوا خَيرًا قَطُّ، قَد عَادُوا حُمَمًا. فَيُلقِيهِم فِي نَهَرٍ فِي أَفوَاهِ الجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الحَيَاةِ، فَيَخرُجُونَ كَمَا تَخرُجُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيلِ، أَلا تَرَونَهَا تَكُونُ إِلَى الحَجَرِ أو إِلَى الشَّجَرِ، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمسِ أُصَيفِرُ وَأُخَيضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبيَضَ؟ فَقَالُوا: يَا رسولَ الله! كَأَنَّكَ كُنتَ تَرعَى بِالبَادِيَةِ. قَالَ: فَيَخرُجُونَ كَاللُّؤلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِمُ، يَعرِفُهُم أَهلُ الجَنَّةِ، هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ اللهِ، الَّذِينَ أَدخَلَهُمُ اللهُ الجَنَّةَ بِغَيرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلا خَيرٍ قَدَّمُوهُ. ثُمَّ يَقُولُ: ادخُلُوا الجَنَّةَ فَمَا رَأَيتُمُوهُ فهو لَكُم. فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعطَيتَنَا مَا لَم تُعطِ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ.
ــ
و(قوله: فيقبض قبضة) يعني: يجمع جماعة فيخرجهم دفعة واحدة بغير شفاعة أحد ولا ترتيب خروج، بل كما يُلقي القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة.
و(قوله: قد عادوا حُمَمًا) أي: صاروا، وليس على أصل العود الذي هو الرجوع إلى الحال الأولى، بل هذا مثل قوله تعالى: أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا؛ أي: لتصيرن إليها، فإن الأنبياء لم يكونوا قط على الكفر، وكما قال الشاعر:
تلك المكارم لا قَعبان من لبنٍ
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (1)
والحمم: الفحم، واحدها: حممة.
و(قوله: في رقابهم الخواتم) أي: الطوابع والعلامات التي بها يُعرفون.
(1) البيت للشاعر أمية بن أبي الصَّلت. (الشعر والشعراء ص 462).