الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) بَاب
الإِسنَادِ مِنَ الدِّينِ
- قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ: إِنَّ هذَا العِلمَ دِينٌ؛ فَانظُرُوا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم.
ــ
وبه سُمِّيَ كتابُ الله قرآنًا؛ لِمَا جمَعَ من المعاني الشريفة، ثم قد يقال مصدرًا بمعنى القراءة؛ كما قال الشاعر في عثمان:
. . . . . . . . . . . .
…
يُقَطِّعُ اللَّيلَ تَسبِيحًا وَقُرآنَا (1)
أي: قراءةً. ومعنى هذا الحديث الإخبارُ بأنَّ الشياطين المسجونَة ستخرُجُ، فتُمَوِّهُ على الجهلة بشيء نقرؤهُ عليهم، وتلبِّس به؛ حتى يحسبوا أنه قرآن، كما فعله مسيلمة، أو تسرُدُ عليهم أحاديث تسندها للنبي صلى الله عليه وسلم كاذبةً، وسميت قرآنًا؛ لما جمعوا فيها من الباطل. وعلى هذا الوجه يستفاد من الحديث التحذيرُ من قَبُول حديث من لا يُعرَفُ.
(5)
ومِن بَاب الإِسنَادِ مِنَ الدِّينِ
أي: مِن أصوله؛ لأنَّهُ لمَّا كان مرجعُ الدينِ إلى الكتابِ والسُّنَّة، والسنَّةُ لا تؤخذ عن كُلِّ أحد: تعيَّنَ النظرُ في حال النَّقَلَةِ، واتِّصَالِ روايتهم، ولولا ذلك، لاختلط الصادقُ بالكاذب، والحقُّ بالباطل، ولمَّا وجَبَ الفرقُ بينهما، وجَبَ النظرُ في الأسانيد. وهذا الذي قاله ابنُ المبارك، قد قاله أنسُ بنُ مالك، وأبو هريرة، ونافعٌ مولى ابن عمر، وغيرهم، وهو أمرٌ واضحُ الوجوب لا يُختَلَفُ فيه. وقال عقبةُ بن نافع
(1) هذا عجز بيت لحسّان، وصدره:
ضَحّوا بأشمطَ عنوانُ السُّجودِ له.
- وَقَالَ: لَم يَكُونُوا يَسأَلُونَ عَنِ الإِسنَادِ، فَلمَّا وَقَعَتِ الفِتنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُم: فَيُنظَرُ إِلى أَهلِ السُّنَّةِ فَيُؤخَذُ حَدِيثُهُم، وَيُنُظَرُ إِلَى أَهلِ البِدَعِ فَلَا يُؤخَذُ حَدِيثُهُم.
ــ
لبنيه: يا بَنِيَّ، لا تقبلوا الحديثَ إلا مِن ثقة. وقال ابن معين: كان فيما أوصى به صُهَيبٌ بنيه أن قال: يا بَنِيَّ، لا تَقبَلُوا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مِن ثقة. وقال ابن عَون: لا تأخذوا العلمَ إلا ممن يُشهَدُ له بالطلب. وقال سليمانُ بن موسى: لا يؤخذُ العلمُ مِن صَحَفِيٍّ (1)، وقال أيضًا: قلتُ لطاوسٍ: إنَّ فلانًا حدَّثني بكذا وكذا، فقال: إن كان مثبتا (2)، فَخُذ عنه.
و(قوله: لَم يَكُونُوا يَسأَلُونَ عَنِ الإِسنَادِ)؛ يعني بذلك: مَن أدرَكَ من الصحابة وكبراء التابعين. أما الصحابة فلا فرق بين إسنادهم وإرسالهم؛ إذ الكلُّ عدولٌ على مذهب أهل الحَقِّ، كما أوضحناه في الأصول، وكذلك: كُلُّ من خالَفَ في قبول مراسيل غير الصحابة وافَقَ على قبولِ مراسيل الصحابة. وأما كُبَرَاءُ التابعين ومتقدِّموهم فالظاهر من حالهم أنهم يحدِّثون عن الصحابة إذا أرسلوا، فتُقبَلُ مراسيلهم، ولا ينبغي أن يُختَلَفَ فيها؛ لأنَّ المسكوتَ عنه صحابيٌّ، وهم عدول، وهؤلاء التابعون هم: كعروةَ بن الزُّبَيرِ، وسعيد بن المسيِّب، ونافعٍ مولى ابن عمر، ومحمد بن سِيرِينَ، وغيرهم مِمَّن هو في طبقتهم.
وأمَّا من تأخَّر عنهم ممن حدَّثَ عن متأخِّرِي الصحابة وعن التابعين؛ فذلك محلُّ الخلاف، والصواب: قَبُولُ المراسيل إذا كان المُرسِلُ مشهورَ المذهب في الجرح والتعديل، وكان لا يحدِّثُ إلا عن العدول؛ كما أوضحناه في الأصول.
و(قوله: فَلمَّا وَقَعَتِ الفِتنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُم) هذه الفتنة يعني بها
(1)"الصَّحَفي": من يُخطئ في قراءة الصحيفة، ومن يعتمد في رواياته على الصُّحف دون الرجال.
(2)
في (م) وإكمال إكمال المعلم (1/ 24): مليئًا.
- وَقَالَ عَبدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ: الإِسنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَولَا الإِسنَادُ لَقَالَ مَن شَاءَ مَا شَاءَ.
- وَقَالَ: بَينَنَا وَبَينَ القَومِ القَوَائِمُ، يَعني: الإِسنَادَ.
- وَعَن مُجَاهِدٍ، قَالَ: جَاءَ بُشَيرٌ العَدَوِيُّ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَجَعَلَ ابنُ عَبَّاسٍ لَا يَأذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلَا يَنظُرُ إِلَيهِ، فَقَالَ: يَا ابنَ عَبَّاسٍ! مَا لِي لَا أَرَاكَ
ــ
- والله أعلم -: فتنةَ قتلِ عثمان، وفتنةَ خروجِ الخوارجِ على عليٍّ ومعاوية؛ فإنَّهم كفَّروهما حتى استحلُّوا الدماءَ والأموال.
وقد اختُلِفَ في تكفير هؤلاء، ولا يشَكَّ في أنَّ من كفَّرهم لم يَقبَل حديثهم، ومن لم يكفِّرهُم اختلفوا في قَبُولِ حديثهم؛ كما بَيَّنَّاهُ فيما تقدَّم. فيعني بذلك - والله أعلم -: أنَّ قَتَلَةَ عثمان والخوارجَ لَمَّا كانوا فُسَّاقًا قطعًا، واختلطَت أخبارهم بأخبار مَن لم يكن منهم، وجَبَ أن يُبحَثَ عن أخبارهم فَتُرَدُّ، وعن أخبار غيرهم ممَّن ليس منهم فتُقبَلُ، ثم يجري الحُكمُ من غيرهم من أهل البدعِ كذلك.
ولا يَظُنُّ أحدٌ له فَهمٌ أنَّهُ يعني بالفتنة فتنةَ عليٍّ وعائشةَ ومعاويةَ؛ إذ لا يصحُّ أن يقال في أحدٍ منهم: مبتدعٌ، ولا فاسقٌ، بل كلٌّ منهم مجتهدٌ عَمِلَ على حسب ظنِّه، وهُم في ذلك على ما أجمَعَ عليه المسلمون في المجتهدين من القاعدة المعلومة، وهي أنَّ كلَّ مجتهدٍ مأجورٌ غيرُ مأثوم؛ على ما مهَّدناه في الأصول.
و(قوله: جَاءَ بُشَيرٌ العَدَوِيُّ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ) بُشَيرٌ: بضم الباء، وفتح الشين، وياء التصغير بعدها، وهو عدويٌّ بصريٌّ يكنى أبا أَيُّوب، حدَّث عن أبي ذر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وحدَّث عنه: عبد الله بن بُديل، وطَلقُ بن حَبِيب، والعلاءُ بن زياد.
و(قوله: فجعَلَ لا يَأذَنُ لحديثِهِ) أي: لا يُصغِي إليه بِأُذُنه، ولا يستمعه؛ ومنه قوله تعالى:{وَأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّت} [الانشقاق: 2].
تَسمَعُ لِحَدِيثِي؟ ! أُحَدِّثُكَ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَسمَعُ؟ ! فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ابتَدَرَتهُ أَبصَارُنَا، وَأَصغَينَا إِلَيهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعبَ وَالذَّلُولَ، لَم نَأخُذ مِنَ النَّاسِ إِلَاّ مَا نَعرِفُ.
- وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا نُحَدَّثُ عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذ لَم يَكُن يُكذَبُ عَلَيهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعبَ وَالذَّلُولَ تَرَكنَا الحَدِيثَ عَنهُ.
* الآثار الواردة في هذا الباب انظرها في صحيح مسلم (1/ 13 - 15 المقدمة).
* * *
ــ
و(قوله: كُنَّا إِذَا سَمِعنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ابتَدَرَتهُ أَبصَارُنَا، وَأَصغَينَا إِلَيهِ بِآذَانِنَا) أي: قَبِلنَا منه، وأَخَذنَا عنه.
هذا الذي قاله ابن عبَّاس يشهَدُ بصحة ما تأوَّلنا عليه قولَ ابنِ سيرين؛ فإنَّ ابن عبَّاس كان في أوَّل مرة يحدِّثُ عن الصحابة، ويأخذ عنهم؛ لأنَّ سماعَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قليلاً؛ لصغر سنه، فكان حاله مع الصحابة كما قال، فلمَّا تلاحَقَ التابعون وحدَّثوا، وظهر له ما يوجبُ الرِّيبَةَ، لم يأخذ عنهم؛ كما فعل مع بُشَير العدوي.
و(قوله: فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعبَ وَالذَّلُولَ، لَم نَأخُذ مِنَ النَّاسِ إِلَاّ مَا نَعرِفُ) هذا مَثَلٌ، وأصلُهُ في الإبل، ومعناه: أن الناس تسامَحُوا في الحديثِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجترؤوا عليه؛ فتحدَّثوا بالمرضيِّ عنه، الذي مثَّله بالذَّلُولِ من الإبل، وبالمنكرِ منه الممثَّلِ بالصعبِ من الإبل.