الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) مقدمة التحقيق
الحمدُ لله الذي بَعَثَ في الأميِّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته، ويُزكيهم، ويُعلِّمهم الكتابَ والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين.
والصَّلاةُ والسَّلام الأتمَّان الأكملان على سيدنا محمد؛ الذي بَعَثَه اللَّهُ تعالى خاتَمًا للنبيِّين، وعلى آله وصحبه والتابعين والعلماء العاملين؛ الذين رفعوا منارة الهدى والدِّين، وحملوا راية السُّنة النبوية بصدقٍ ويقين، ونفوا عنها تحريفَ الغالين، وتأويل الجاهلين.
أمَّا بعد:
فإن اللَّهَ تعالى أرسل رُسُلَه الكرام ليدعوا الناسَ إلى عبادته سُبحانه، وألَّا يُشركوا به شيئًا، فكانوا دُعاةً إلى الحق، آمرين بالأخلاق الصالحة، ناهينَ عن الفساد والمنكر، داعين إلى إصلاح المعاملات بين البشر.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم اللبنةَ الأخيرة في بناء صَرْح النبوات، فقام بالدَّعوة إلى الله، مؤكدًا أن صحَّةَ العقيدة، والتجمُّل بالأخلاق، وسلامة المنهج في التعامل، هي الأسسُ القويمةُ في بناء الفرد الصَّالح والمجتمع السَّليم.
وكانت السُّنَّة النبوية رافدًا رئيسًا في الدعوة الإسلامية، ومرآةً صادقةً تعكسُ الواقع العملي لنداء القرآن، ومنهج السماء.
* * *
والحديثُ النبويُّ هو الأصلُ الثَّاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، فكثير من الآيات الكريمة جاءتْ مجملةً أو عامة، فأتى الحديثُ الشريفُ مُبَيِّنًا أو مُخَصِّصًا لها. وقد تَعْرِضُ حوادثُ وأمورٌ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا لم ينزل القرآنُ، يأتي الحديثُ له القولُ الفَصْل في هذه القضية وتلك الحادثة.
ثم إنَّ الحديثَ النبويَّ يعكسُ بكلِّ واقعيَّة وصدق سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يُوضِّح مجريات السيرة، ويرسمُ أبعادَها، ويُجلِّي مكارمَ خُلُق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ونُصْحَه، وإرشادَه؛ وصولًا إلى مجتمع يقومُ على أصول الحقِّ والخير.
لهذا وغيره عُني المسلمون بحديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وولعوا بذلك، واعتقدوا أن الاشتغال بعلم الحديث مِن أجلِّ الخدمات التي يُقدِّمونها، وأعظمِ القُرَب التي يفعلونها، حتى قال قائلهم:
لم أسمُ في طَلَبِ الحديثِ لسمعةٍ
…
أو لاجتماعِ قديمِه وحديثِه
لكنْ إذا فاتَ المحبَّ لقاءُ مَن
…
يَهوى تعلَّل باستماع حديثِه
وجاء العلماءُ العاملون يرعون السُّنَّة حق رعايتها، فحفظوها في الصدور، ودوَّنوها في ثنايا السطور، ورحلوا في طلب الأحاديث، وكانت لهم أيادٍ بيضاءُ في خدمة السُّنَّة، ومعرفة الرجال، والبحث عن العلل.
وقد تحمَّل العلماءُ الصِّعابَ، وتجشَموا عناءَ طلب العلم، فكانوا يرحلون المسافات الطويلة، ويقطعون المفاوزَ الشاسعة، كي يُحصِّلوا حديثًا من هنا، ويسمعوا حديثًا من هناك، وهم مغتبطون في قرارة أنفسهم، ولسانُ حالِ أحدهم يقول:
يلومُ عليَّ أنْ رُحْتُ للعلم طالبًا
…
أجمعُ مِن عند الرُّواةِ فُنُونَه
فيا لائمي دَعْنِي أُغالي بقيمتِي
…
فقيمةُ كلِّ النَّاسِ ما يُحْسِنُونَه
وكان من نتيجة تلك الرحلات المتلاحقة، والدَّأب المتواصل، أن حفظ التاريخُ لنا آثارًا جليلةً في علم الحديث النبوي، وصارت المصنَّفاتُ الحديثية دُرَّةً
متألِّقةً في جبين الزمن، حتى إنَّ هذه الكتبَ التي دُوّنت في الحديث لتعدُّ من أكبر مفاخر هذه الأمّة على الإطلاق.
* * *
وإذا يمَّمنا وجوهَنا شطرَ القرن الثاني من الهجرة، يُطالعنا اسمُ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز؛ إذ عرضتْ له فكرةُ تدوين الحديث النبويِّ، فأوعز إلى ابن شهاب الزهري يأمرُه بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَمْعه. كما كتب إلى قاضي المدينة أبي بكر بن حزم الأنصاري قائلًا:"انظرْ ما كانَ من حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فاكْتُبْهُ".
* * *
ويُعَدُّ موطَأُ الإمام مالك رحمه الله من أهمِّ كتب الحديث المدوَّنة، ومن أقدمها في القرن الهجري الثاني.
وقد نَضِجَ عِلمُ الحديثِ في القرن الهجري الثالث؛ إذ يُعتبر العصرَ الذَّهبي لتدوين الحديث، وجَمْعه. وقام بذلك علماءُ جهابذةٌ، مما جعل أسسَ الحديث تترسَّخُ، إذ تمَّ تشييدُ صَرْحه على المسانيد أو الأبواب.
وظهرت الكتب الستة، وتلقَّت الأمةُ بالقبول والصحة كلًّا من صحيحي البخاري ومسلم، وقد خُدِما كثيرًا: شرحًا، وتهذيبًا، واختصارًا، واستخراجًا عليهما؛ مما يُنبئ بالمكانة العليا التي انتهيا إليها في مختلف مراكز الإشعاع العلمي في الدولة الإسلامية.
* * *
وظهر الإمام مسلم في العصر الذهبي للفكر الإسلامي، حيث ازدهرت الثقافةُ العربية الإسلامية، وترعرعت العلوم، وتوهَّجت المعرفة، ولمعت شخصياتُ كبارِ
جهابذة العلم في مختلف الأصقاع العربية والإسلامية. إنه عصرُ أئمةِ الحديث النبوي، والأدب العربي، والتاريخ المجيد.
* * *
وحاز "صحيح مسلم" المكانةَ اللائقةَ به بين مُصنَّفات الحديث، وتربَّع سُدَّةً عاليةً من التقدير والعناية، فكثرت حوله الشروح حتى بلغت أكثر من خمسين شرحًا، واختلفت طولًا وقصرًا. ومن تلك الشروح المشرقية:
1 -
المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم: لمحمد بن يحيى الأنصاري (646 هـ).
2 -
إكمال الإكمال: لعيسى بن مسعود الزواوي (744 هـ).
3 -
فضل المنعم في شرح صحيح مسلم: لشمس الدين بن عبد الله بن عطاء الله الرازي (829 هـ).
4 -
غُنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج: لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (902 هـ).
5 -
الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: للسيوطي (911 هـ).
6 -
شرح صحيح مسلم: لعبد الرؤوف المناوي (1031 هـ).
7 -
عناية المنعم لشرح صحيح مسلم: لعبد الله بن محمد يوسف أفندي زاده حلمي (1167 هـ).
8 -
وشي الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: لعلي بن سليمان البَجَمْعَوي (كان حيًّا سنة 1299 هـ).
هذه بعضُ شروح كتاب الإمام مسلم، وهي مع غيرها من شروح علماء أهل المغرب، تدلُّ على عظيم المكانة التي نالها هذا الكتاب، وتؤكِّد أهميته عند العلماء، وذلك لما يتمتع به من خصائص حسنة ومزايا متفرِّدة.
ونظرًا لأهمية صحيح مسلم، وما يتَّصف به من سهولة تناول الأحاديث،
والتحرز في الألفاظ، والتحري في السياق، وحُسْنِ الوَضْع، وجودة الترتيب .. ونحو ذلك، فإن بعضَ العلماء يُفَضِّلونه على صحيح البخاري من هذه الناحية، وهذه الوجهةُ من النظر هي التي سادت لدى علماء المغرب العربيّ.
* * *
وقد اختصر صحيحَ مسلم طائفةٌ من العلماء، ونذكر من هذه المختصرات:
1 -
مختصر أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت (524 هـ).
2 -
الجامع المُعْلِم بمقاصد جامع مسلم: لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (656 هـ). وهو مطبوع. وقد شرحه محمد صديق حسن خان بـ (السراج الوهاج في كشف مطالب مختصر صحيح مسلم بن الحجاج" وهو مطبوع في الهند قديمًا.
3 -
تلخيص صحيح مسلم: لأحمد بن عمر القرطبي (656 هـ).
وغير ذلك كثير.
* * *
هذا، وقد أضاف الإمامُ القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - إلى تلخيص صحيح مسلم عملًا علميًّا، إذ وَضَع عليه شرحًا لما أشكل في تلك الأحاديث من معنى غامض، أو لفظة غريبة، ونبَّه على نكَتٍ من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بحديثه. ويكفيه أهميةً ومكانةً أن اعتمده الإمامان: النووي والحافظ ابن حجر كمصدر مهمٍّ في شرحيهما على الصَّحيحين.
ولا شكَّ إن العلماءَ اهتموا فيما بعد بكتاب "المفهم" اهتمامًا واضحًا، فها نحن نجدُ بصماته عميقة فيما أُلِّفَ بعده، عند:
- الزواوي في كتابه"إكمال الإكمال" الذي جمع فيه بين المُعْلِم والإكمال والمفهم والمنهاج.
- الأُبِّي في كتابه: "إكمال إكمال المعلم" الذي ذكر فيه أنه ضمَّنه كتب شُرَّاحه الأربعة: المازري وعياض والقرطبي والنووي.
ثم يطالعنا التاريخُ بكتاب "مكمِّل إكمال الإكمال" للسنوسي، وغير ذلك من المصنَّفات التي اعتمدت كتاب "المفهم" واستفادت منه في حلِّ المشكلات وفي الشرح.
* * *
وكتابُنا الذي نصدره اليوم - بعون الله تعالى - يجمعُ بين تلخيص كتاب مسلم، وبين شرح ما أشكل منه، في كتابٍ واحدٍ، رغبةً في تقريب الزاد العلمي للإمام القرطبي لطلاب العلم، والمتخصِّصين، والمثقفين على تنوُّع مشاربهم، وتعدُّد ألوان معارفهم، ففي هذا الكتاب صنوف مختلفة من أنواع العلوم، يجمع بينها الاندغام والتآلف في الفكرة والهدف.
ولا غَرْوَ أن نجدَ الانسجام بين التلخيص والمفهم في الأبواب والأحاديث، فالمؤلِّف واحد، فلا خلافَ في العنوانات، وإن طالت أحيانًا وقصرت أحيانًا أخرى، كما نجد شخصية الإمام القرطبي واضحةً بين السطور، كيف لا؟ ! وهو العالمُ الثبت، والثقة العدل في روايته ودرايته.
* * *