الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(59) باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
[143]
عَن أَبِي بَكرِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ، عَن أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَنَّتَانِ مِن فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِن ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَينَ القَومِ وَبَينَ أَن يَنظُرُوا إِلَى رَبِّهِم إِلا رِدَاءُ الكِبرِيَاءِ عَلَى وَجهِهِ،
ــ
(59)
ومن باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
(قوله: ما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكِبرياء على وجهه) الرداء هُنا: استعارة كَنى بها عن كبريائه وعظمته، كما قال في الحديث الآخر: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري (1) وليست العظمة والكبرياء من جنس الثياب المحسوسة، وإنّما هي توسُّعات، ووجه المناسبة أنّ الرداء والإزار لَمّا كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به لا يشاركه فيهما غيره، عبّر عن عظمة الله وكبريائه بهما؛ لأنّهما ممّا لا يجوز مشاركة الله فيهما. ألا ترى آخرَ الحديث: فمن نازَعَني واحدًا منهما قَصَمتُه ثمّ قذفتُه في النار.
ومعنى حديث أبي موسى أنّ مقتضى جَبَرُوت الله تعالى وكبريائه وعزّته واستغنائه ألا يراه أحدٌ ولا يعبأ بأحد ولا يلتفت إليه، لكن لطفه وكرمه بعباده المؤمنين ورحمته لهم، وعوده عليهم، يقتضي أن يمنّ عليهم بأن يُريهم وجهه؛ إبلاغًا في الإنعام وإكمالاً للامتنان، فإذا كشف عنهم الموانع وأراهم وجهه الكريم، فقد فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء، فكأنه قد رفع عنهم حجابًا يمنعهم.
(1) سبق تخريجه ص (286).
فِي جَنَّةِ عَدنٍ.
رواه أحمد (411)، والبخاري (4878) و (7444)، ومسلم (180)، والترمذي (2530)، وابن ماجه (186).
[144]
وَعَن صُهَيبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دَخَلَ أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيئًا أَزِيدُكُم؟ فَيَقُولُونَ: أَلَم تُبَيِّض وُجُوهَنَا؟ أَلَم تُدخِلنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعطُوا شَيئًا أَحَبَّ إِلَيهِم مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِم.
ــ
ووجه الله تعالى هل هو عبارة عن وجوده المقدّس، أو عن صفة شريفة عظيمة معقولة؟ في ذلك، لأئمتنا قولان، وكذلك القول في اليد والعين والجنب المضافة إلى الله تعالى.
و(قوله: في جنة عدن) متعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم، فكأنه قال: كائنين في جنة عدن، ولا يكون من الله تعالى؛ لاستحالة المكان والزمان عليه.
و(قول من يسأله الله من أهل الجنة بقوله: هل تريدون شيئًا أزيدكم؟ ألم تبيضَّ وجوهُنا وتدخلنا الجنّة وتنجِنا من النار؟ ) لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبة والشوق، وإنما يليق ذلك بمن مات بين الخوف والرجاء، فلما حصل على الأمن من المخوف والظفر بالمرجو الذي كان تَشَوُّقه إليه، قنِع به، ولها عن غيره. وأما من مات محبًّا لله مشتاقًا لرؤيته، فلا يكون همّه، إلا طلب النظر لوجهه الكريم لا غير. ويدلّ على صحة ما قلته أن المرء يحشر على ما يموت عليه كما علم من الشريعة، بل أقول: إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا ينبّه بالسؤال، بل يعطيه أمنيته ذو الفضل والإفضال، ومذهب أهل السنة بأجمعهم: أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم، كما نطق بذلك الكتاب، وأجمع
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ.
رواه أحمد (4/ 332 و 333)، ومسلم (181)، والترمذي (2555)، وابن ماجه (187).
[145]
وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَل نَرَى رَبَّنَا يَومَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَل تُضَارُّونَ فِي رؤية القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ؟ قَالُوا: لا، يَا رسولَ الله! قَالَ: هَل تُضَارُّونَ فِي الشَّمسِ لَيسَ
ــ
عليه سلف الأمة (1)، ورواه بضعة عشر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة منهم المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقلية، كاشتراط البنية المخصوصة والمقابلة، واتصال الأشعة، وزوال الموانع من القرب المفرط والبعد المفرط والحجب الحائلة في خبط لهم وتحكم. وأهل الحق لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلاً سوى وجود المرئيّ، وأنّ الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئي لكن يقترن بالرؤية بحكم جريان العادة أحوال يجوز في العقل شرعا تبدلها، والله أعلم، وتفصيل ذلك وتحقيقه في علم الكلام.
و(قوله: هل تضارّون) يُروى بضم التاء وفتحها وتشديد الراء وبتخفيفها، وضم التاء والتشديد أكثر، وكلها له معنى صحيح، ووجه الأكثر أنه مضارع مبني لما لم يسمَّ فاعله. أصله تضاررون، أسكنت الراء الأولى وأدغِمت في الثانية. وأصل ماضيه ضورر، ويجوز أن يكون مبنيًّا للفاعل بمعنى: تُضارِرون، بكسر الراء، إلاّ أنّها سكنت الراء وأدغمت. وكلّه من الضرّ المشدّد. وأمّا التخفيف، فهو من ضاره، يضيره، ويضوره ضيرًا مخفّفةً، فإذا بُني لما لم يُسمَّ فاعله، قلت فيه:
(1) في (ع): الأصحاب.
دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: فَإِنَّكُم تَرَونَهُ كَذَلِكَ؛ يَجمَعُ اللهُ النَّاسَ
ــ
يُضَار مخفَّفة، وأمّا رواية فتح التاء، فهي مبنيّة للفاعل بمعنى تتضارون، وحُذِفت إحدى التاءين؛ استثقالا لاجتماعهما، ومعنى هذا اللفظ: أن أهل الجنة إذا امتنّ الله عليهم برؤيته سبحانه تجلّى لهم ظاهرًا، بحيث لا يحجب بعضهم بعضًا ولا يضره ولا يزاحمه ولا يجادله، كما يفعل عند رؤية الأهلّة، بل كالحال عند رؤية الشمس والقمر ليلة تمامه.
وقد حُكي: ضاررته مضارة؛ إذا خالفته، وقد رُوي: تضامّون بالميم. والقول فيه روايةً ومعنًى كالقول في تضارون، غير أن تضامّون بالتشديد من المضامّة، وهي الازدحام؛ أي: لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلّة. وأما بالتخفيف، فمن الضيم، وهو الذل؛ أي: لا يذلّ بعضكم بعضا بالمزاحمة والمنافسة والمنازعة.
و(قوله: فإنكم ترونه كذلك) هذا تشبيه للرؤية ولحالة الرائي، لا المرئي. ومعناه: أنكم تستوون في رؤية الله تعالى من غير مضارّة ولا مزاحمة، كما تستوون في رؤية الشمس والبدر عِيانًا، وقد تأوّلت المعتزلة الرؤية في هذه الأحاديث بالعلم، فقالوا: إن معنى رؤيته تعالى أنه يُعلم في الآخرة ضرورة. وهذا خطأ لفظًا ومعنى.
وأما اللفظ: فهو أنّ الرؤية بمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وهي قد تعدّت هنا إلى مفعول واحد، فهي للإبصار، ولا يصحّ أن يقال: إن الرؤية بمعنى المعرفة؛ لأن العرب لم تستعمل رأيت بمعنى عرفت، لكن بمعنى علمت أو أبصرت، واستعملت علمت بمعنى عرفت، لا رأيت بمعنى عرفت.
وأما المعنى، فمن وجهين:
أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام شبّه رؤية الله تعالى بالشمس، وذلك التشبيه لا يصح إلا بالمعاينة.
يَومَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَن كَانَ يَعبُدُ شَيئًا فَليَتَّبِعهُ، فَيَتَّبِعُ مَن كَانَ يَعبُدُ الشَّمسَ الشَّمسَ، وَيَتَّبِعُ مَن كَانَ يَعبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَن كَانَ يَعبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأتِيهِمُ اللهُ تبارك وتعالى فِي صُورَةٍ غَيرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُم، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ
ــ
وثانيهما: أن الكفّار يعلمونه تعالى في الآخرة بالضرورة، فترتفع خُصوصية المؤمنين بالكرامة وبلذة النظر، وذلك التأويل منهم تحريف حملهم عليه ارتكاب الأصول الفاسدة.
والطواغيت جمع طاغوت، وهو الكاهن والشيطان وكل رأسٍ في الضلال، والمراد به في الحديث الأصنام. ويكون واحدًا، كقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وقد يكون جمعًا، كقوله تعالى: أَولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم. وطاغوت وإن جاء على وزن لاهوت، فهو مقلوب؛ لأنه من طغى، ولاهوت غير مقلوب؛ لأنه من لاهٍ، بمنزلة الرغبوت والرهبوت والرحموت، قاله في الصحاح.
و(قوله: وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، ظنّ المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين في الآخرة ينفعهم وينجيهم كما نفعهم في الدنيا، جهلا منهم بأن الله تعالى عالم بهم، ومطلع على ضمائرهم. وهذا كما قد أقسمت طائفة من المشركين أنهم ما كانوا مشركين، توهمًا منهم أنّ ذلك يُنجيهم. ويحتمل أن يكون حشرهم مع المسلمين لِما كانوا يُظهرونه من الإسلام، فحفظ عليهم ذلك، حتّى يميِّز الله الخبيث من الطيّب. ويحتمل أنّه لمّا قيل: تتّبعَ كلُّ أمّةٍ ما كانت تعبدُ، فاتّبع الناس معبوداتِهم، ولم يكونوا عبدوا شيئًا، فبقوا هنالك حتّى مُيِّزوا ممّن كان يعبد الله.
و(قوله: فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون) هذا المقام مقام هائل يمتحن الله تعالى فيه عبادَه؛ ليُميِّز المُحِقّ من المُبطِل، وذلك أنّه لمّا بقي المنافقون والمُراءون متلبّسين بالمؤمنين والمخلصين، زاعمين أنّهم منهم، وأنّهم
مِنكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفنَاهُ، فَيَأتِيهِمُ اللهُ فِي
ــ
عملوا مثل أعمالهم وعرفوا اللهَ مثل معرفتهم، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع: أنا ربُّكم، فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك، والتعوُّذ منه؛ لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله تعالى، وأنّه منزَّه عن صفات هذه الصورة؛ إذ سماتها سمات المُحدَثات، ولذلك قال في حديث أبي سعيد: فيقولون نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرّتين أو ثلاثًا، حتّى إنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب. وهذا البعض الذي همّ بالانقلاب لم يكن لهم رسوخ العلماء ولا ثبوت العارفين، ولعلّ هذه الطائفة هي التي اعتقدت الحق، وجزمت عليه من غير بصيرة، ولذلك كان اعتقادهم قابلاً للانقلاب. ثم يقال بعد هذا للمؤمنين: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقٍ؛ أي: يوضح الحقّ ويتجلّى لهم الأمر، فيرونه حقيقة معاينة.
وكشف الساقِ: مَثَلٌ تستعمله العرب في الأمر إذا حقّ ووضح واستقر، تقول العرب: كشفت الحرب عن ساقها، إذا زالت مخارقها (1) وحقّت حقائقها، وقال (2):
وكنتُ إذا جاري دَعا لِمَضُوفةٍ
…
أُشَمِّرُ حتى يَنصُفَ الساقَ مِئزَري
وعند هذا يسجد الجميع، فمن كان مخلصًا في الدنيا، صحّ له سجوده على تمامه وكماله، ومن كان منافقًا أو مرائيًا، عاد ظهره طبقةً واحدةً، كلما رام السجود، خرّ على قفاه. وعند هذا الامتحان يقع امتياز المحقّ من المبطل، فعلى هذا تكون الصورة التي لا يعرفونها مخلوقة.
والفاء التي دخلت عليها بمعنى الباء، ويكون معنى الكلام: إن الله تعالى يجيئهم بصورة، كما قيل في قوله تعالى: هَل يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ أي: بظلل. ويكون معنى الإتيان
(1) في (م): مخاوفها. وزالت مخارقها: أي: ذهبت دهشة الحرب والفزع منها.
(2)
في (ع): وأنشد. والقائل: هو أبو جندب الهذلي.
صُورَتِهِ الَّتِي يَعرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُم، فَيَقُولُونَ: أَنتَ رَبُّنَا، فَيَتَّبِعُونَهُ،
ــ
هنا: يحضر لهم تلك الصورة. وأما الصورة الثانية التي يعرفون عندما يتجلّى لهم الحقّ، فهي صفته تعالى التي لا يشاركه فيها شيء من الموجودات، ولا يشبهه بشبهها شيء من المصوّرات. وهذا الوصف هو الذي كانوا قد عرفوه في الدنيا، وهو المعبّر عنه بـ: لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، ولذلك قالوا: إذا جاء ربّنا عرفناه. وفي حديث آخر يقال: وكيف تعرفونه؟ قالوا: إنه لا شبيه له ولا نظير. ولا يستبعد إطلاق الصورة بمعنى الصفة، فمن المتداول أن يقال: صورة هذا الأمر كذا؛ أي: صفته.
والإتيان والمجيء المضاف إلى الله تعالى ثانيًا هو عبارة عن تجليه لهم، فكأنه كان بعيدًا فقرُبَ، أو غائبًا فحضر. وكل ذلك خطابات مستعارة جارية على المتعارف من توسعات العرب، فإنهم يسمّون الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو قاربه، أو كان منه بسبب.
و(قوله في حديث أبي سعيد (1): ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة) يعني: أن المؤمنين إذا رفعوا رؤوسهم، رأوا الحقّ مرة ثانية؛ إذ كانوا قد رأوه حالة قولهم: أنت ربنا، قبل السجود.
والتحوّل المنسوب إلى الله تعالى هنا عبارة عن إزالة تلك الصورة الأولى المتعوّذ منها، وعن إظهاره تعالى وجوده المقدّس للمؤمنين، فيكون قوله: وقد تحوّل حالاً متقدمة قبل سجودهم، بمعنى: وقد كان تحوّل؛ أي: حوّل تلك الصورة وأزالها، وتجلّى هو بنفسه، فيكون المراد بهذا الكلام. أن الحقّ سبحانه لمّا تجلّى لعباده المؤمنين أوّل مرة رأوه فيها لم يزل كذلك، لكنهم انصرفوا عن رؤيته عند سجودهم، ثم لَمّا فرغوا منه عادوا إلى رؤيته مرة ثانية.
و(قوله في حديث أبي هريرة الأول: فيتبعونه) أي: يتبعون أمره، كما
(1) حديث أبي سعيد يأتي في باب: شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين رقم (62).
وَيُضرَبُ الصِّرَاطُ بَينَ ظَهرَي جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَن يُجِيزُ، وَلا
ــ
يقال: اتبعت فلانًا على رأيه، واتبعت أمره؛ أي: انقَدتُ إليه وامتَثَلتُه، فيكون من باب الاستعارة. ويجوز أن يكون من باب حذف المضاف؛ أي: يتبعون ملائكته ورسله الذين يسوقونهم إلى الجنة، فكأنهم يتقدّمون بين أيديهم دلالة وخدمة وتأنيسًا، والله تعالى أعلم.
تنبيه: اعلم أن الناس قد أكثروا في تأويلات هذه الأحاديث، فمِن مبعدٍ ومن محوّم، وما ذكرناه أحسنها وأقربها لمنهاج كلام العرب، ولأن يكون هو المراد. ومع ذلك فلا نقطع بأنه هو المراد. والتحقيق أن يقال: الله ورسوله أعلم. والتسليم الذي كان عليه السلف أسلم، لكن مع القطع بأن هذه الظواهر الواردة في الكتاب والسنة الموهمة للتجسيم والتشبيه يستحيل حملها على ظواهرها؛ لما يعارضها من ظواهر أخر، كما قرره أئمتنا في كتبهم، ولما دلّ العقل الصريح عليه، وقد أشرنا إلى نبذٍ من ذلك.
و(قوله: ثم يضرب الصراط بين ظهري جهنم) الصراط في اللغة: هو الطريق، وفيه لغات: الصاد والسين والزاي، وهو هنا: الطريق من أرض المحشر إلى الجنة، وهو منصوب على متن جهنم أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف، وهو المسمى بالجسر في الحديث الآخر (1).
وجهنّم اسم من أسماء النار التي يُعذَّب بها في الآخرة. قال الجوهري: هو ملحقٌ بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث، وهو فارسي معرَّب. وركية جِهِنَّامٌ؛ أي: بعيدة القعر.
و(قوله: فأكون أنا وأمتي أوّل من يُجيز) بضمّ أوّله رباعيًا من أجاز
(1) رواه مسلم (315) عن ثوبان رضي الله عنه.
يَتَكَلَّمُ يَومَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ، وَدَعوَى الرُّسُلِ يَومَئِذٍ: اللهُمَّ! سَلِّم، سَلِّم. وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثلُ شَوكِ السَّعدَانِ، هَل رَأَيتُمُ السَّعدَانَ؟ قَالُوا: نَعَم يَا رسولَ الله! قَالَ: فَإِنَّهَا مِثلُ شَوكِ السَّعدَانِ، غَيرَ أَنَّهُ لا يَعلَمُ مَا قَدرُ عِظَمِهَا إِلا اللهُ، تَخطَفُ النَّاسَ بِأَعمَالِهِم، فَمِنهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنهُمُ
ــ
أي: يمضي عليه ويقطعه، يقال: أجزت الوادي وجُزتُه لغتان فصيحتان. وحُكي عن الأصمعي أنه قال: أجزته قطعته، وجُزته مشيت فيه.
ويحتمل أن يقال: إن الهمزة في أجاز هنا للتعدية من قولهم: أجيزي صوفة؛ أي: أجزنا، وذلك أن صوفة كان رجلاً معظمًا في قريش يُقتدى به في مناسك الحج، فلا يجوز أحدٌ في شيء من مواقفه حتى يجوز، فكان الناس يستعجلونه فيقولون: أجِز صوفةُ؛ أي: ابتدِئ بالجواز حتّى نجوز بعدك، فكان يمنعهم بوقوفه ويجيزهم بجوازه، ثمّ بقي ذلك في ولده فقيل للقبيلة: أجيزي صوفة. فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وأمّته على الصراط، فلا يجوز أحد حتّى يجوز هو وأمّته، فكأنّه يجيز الناسَ. ودعوى الرسل دعاؤها، جاء بالمصدر مؤنّثًا.
و(قوله: يومئذٍ) إشارة إلى حين الجواز على الصراط، وإلا ففي وقت آخر تجادل كلّ نفس عن نفسها. والسَّعدان نبت كثير الشوك، شوكه كالخطاطيف والمحاجن.
و(قوله: لا يعلم ما قدر عظمها إلاّ الله) قيّدناه عن بعض شيوخنا برفع الراء على أن تكون ما استفهامًا خبرًا مقدَّمًا، وقدر مبتدأ، أو بنصبها على أن تكون ما زائدة، وقدر مفعول يعلم.
و(قوله: فمنهم الموبق بعمله) بالباء بواحدة من أسفل كذا للعذري، ومعناه: المُهلَك بعمله السيئ، وللطبري: الموثق بعمله بالثاء المثلثة من الوثاق، وللسمرقندي: المؤمن بقي بعمله وكلها صحيح، والأول أوضحها.
المُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ القَضَاءِ بَينَ العِبَادِ، وَأَرَادَ أَن يُخرِجَ بِرَحمَتِهِ مَن أَرَادَ مِن أهل النَّارِ، أَمَرَ المَلائِكَةَ أَن يُخرِجُوا مِنَ النَّارِ مَن كَانَ لا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا مِمَّن أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَن يَرحَمَهُ، مِمَّن يَقُولُ: لا إِلهَ إِلا اللهُ، فَيَعرِفُونَهُم فِي النَّارِ، يَعرِفُونَهُم بِأَثَرِ السُّجُودِ؛ تَأكُلُ النَّارُ مِنِ ابنِ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَن تَأكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ. فَيُخرَجُونَ مِنَ النَّارِ وقَدِ امتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيهِم مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنبُتُونَ مِنهُ كَمَا تَنبُتُ الحِبَّةُ
ــ
وروى العذري وغيره: ومنهم المخردل (1) مكان المجازى، ومعناه الذي تقطع الكلاليب لحمه، يقال: خردلت اللحم خراديل؛ أي: قطعته قطعًا، وهو بالدال المهملة. وحكى يعقوب أنه يقال بالذال المعجمة، وهو أيضًا بالخاء بواحدة من فوق، وقد قاله بعضهم بالجيم. والجردلة: الإشراف على الهلاك والسقوط فيه.
و(قوله: حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد) أي: تمم عليهم حسابهم وكمّله وفصل بينهم، لا أن الله يشغله شأن عن شأن، يعني: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وشفع كل من له شفاعة. ألا ترى قوله: وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار. واقتصاره على لا إله إلا الله، ولم يذكر معها الشهادة بالرسالة؛ إما لأنهما لما تلازمتا في النطق، اكتفى بذكر إحداهما عن الأخرى، وإما لأنه لَمّا كانت الرسل كثيرين، ويجب على كل أحد أن يعرف برسالة رسوله، كان ذكر جميعهم يستدعي تطويلاً، فسكت عن ذكرهم؛ علمًا بهم واختصارًا لذكرهم، والله أعلم.
و(قوله: قد امتَحَشوا) صوابه بفتح التاء والحاء، ومعناه: احترقوا، يقال: امتحش الخبز؛ أي: احترق، ويقال: محشته النارُ وأمحشته، والمعروف:
(1) هذه اللفظة من حديث أبي سعيد الخدري. والحديث في مسلم برقم (183) ويأتي في التلخيص برقم (148) باب رقم (62).
فِي حَمِيلِ السَّيلِ، ثُمَّ يَفرُغُ اللهُ مِنَ القَضَاءِ بَينَ العِبَادِ، وَيَبقَى رَجُلٌ مُقبِلٌ بِوَجهِهِ عَلَى النَّارِ، وهو آخِرُ أهل الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَي رَبِّ! اصرِف وَجهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَد قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدعُو اللهَ
ــ
أمحشه. قال صاحب العين: وقد رواه بعضهم: امتُحِشوا مبنيًا لما لم يسم فاعله؛ أي: أُحرِقوا، والصواب الأول. والحُمم (1) الفحم، واحده حممة. والحِبة - بكسر الحاء -: نور العشب، والحَبة بفتحها: من الحنطة وغيرها مما يزرع.
وماء الحياة هو الذي من يشربه أو يطهر به لم يمت أبدًا. وحميل السيل ما يحمله من طين وغثاء، فإذا اتفق أن يكون فيه حبة، فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتا، فشبّه عليه الصلاة والسلام سُرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة، وهذا معنى ما قاله الإمام أبو عبد الله (1). وبقي عليه من التشبيه المقصود بالحديث نوع آخر دلّ عليه ما في حديث أبي سعيد، حيث قال: ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظلّ يكون أبيض، وهو تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة منهم يسبق إليه البياض المستحسن. وما يكون منهم إلى جهة النار، يتأخر ذلك النصوع عنه، فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحُسن والنور ونضارة النعمة عليهم. ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن ما يباشر الماء، تشتدّ سرعةُ نصوعه، وأنّ ما فوق ذلك يتأخر عنه البياض، لكنه يسري إليه سريعًا، والله أعلم.
و(قوله: ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ثانيًا) يعني: يكمل خروجَ الموحدين من النار.
و(قوله: قَشَبني ريحها) أي: غيّر جلدي وصورتي وسوّدني وأحرقني، قاله الحربي. وقال الخطابي: قشبه الدخانُ، إذا (2) ملأ خياشيمه وأخذ بكَظمه.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (م).
(2)
في (ل): أي.
مَا شَاءَ أَن يَدعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: هَل عَسَيتَ إِن فَعَلتُ ذَلِكَ بِكَ أَن تَسأَلَ غَيرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا أَسأَلُكَ غَيرَهُ، وَيُعطِي رَبَّهُ مِن عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ الله، فَيَصرِفُ اللهُ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقبَلَ عَلَى الجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَن يَسكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَي رَبِّ! قَدِّمنِي إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيسَ قَد أَعطَيتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لا تَسأَلُنِي غَيرَ الَّذِي أَعطَيتُكَ؟ وَيلَكَ يَا ابنَ آدَمَ! مَا أَغدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَي رَبِّ! يَدعُو اللهَ تعالى حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَل عَسَيتَ إِن أَعطَيتُكَ ذَلِكَ أَن تَسأَلَ غَيرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ! فَيُعطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ الله مِن عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، انفَهَقَت لَهُ الجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الخَيرِ وَالسُّرُورِ، فَيَسكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَن يَسكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَي رَبِّ! أَدخِلنِي الجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيسَ قَد أَعطَيتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَلا تَسأَلَ
ــ
وقال الجوهري: قشبني يقشبني؛ أي: أذابني، كأنه قال: سمّني ريحه. قال: والقشيب السمُّ، والجمع أقشاب عن أبي عمرو. وذكاء النار شدة حرِّها بفتح الذال مقصور، وهو المشهور. وقد حكى أبو حنيفة اللغوي فيه المد، وخطأه علي بن حمزة، وقد روي هنا بالوجهين مقصورًا وممدودا.
و(قوله: انفهقت له الجنة) أي: اتسعت وانفتحت، والمتفيهِق: المتوسع في كلامه المتكلِّف فيه.
و(قوله: فيرى ما فيها من الخير كذا مشهور الرواية فيه (1)، وقد روي الحَبر بالحاء المهملة مفتوحة والباء بواحدة، وهي إفراط التنعم، ومنه: فَهُم فِي رَوضَةٍ يُحبَرُونَ؛ أي: يُنعمون ويسرّون. والحِبر بكسر الحاء الذي يكتب به والعالم والجمال، ومنه: ذهب حِبره وسِبره؛ أي: جماله وبهاؤه. ويقال في العالم بفتح الحاء.
(1) من (ل) و (م).
غَيرَ مَا أُعطِيتَ؟ وَيلَكَ يَا ابنَ آدَمَ! مَا أَغدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَي رَبِّ! لا أَكُونُ أَشقَى خَلقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدعُو اللهَ حَتَّى يَضحَكَ اللهُ مِنهُ، فَإِذَا ضَحِكَ اللهُ مِنهُ، قَالَ لَهُ: ادخُلِ الجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللهُ لَهُ: تَمَنَّه، فَيَسأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى، حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ مِن كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انقَطَعَت بِهِ الأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثلُهُ مَعَهُ.
ــ
وقوله: فلا يزال يدعو الله حتى يضحكَ الله منه، فإذا ضحك الله منه قال له: ادخل الجنة، الضحك من خواص البشر، وهو تغيُّرٌ أوجَبَه سرورُ القلب بحصول كمال لم يكن حاصلاً قبل، فتثور من القلب حرارةٌ ينبسط لها الوجهُ، ويضيق عنها الفمُ، فينفتح، وهو التبسّم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قهقه. وذلك كله على الله تعالى محال (1)، لكن لما كان دلالة عندنا على الرضا ومظهرًا له غالبًا، عُبّر عن سببه به، وقد قالوا: تضحك الأرض من بكاء السماء؛ أي: يظهر خيرها. وفي بعض الحديث: فيبعث الله سحابًا يضحك أحسن الضحك (2) يعني: السحاب، ومنه قولهم:
. . . . . . . . . . .
…
ضحك المشيب برأسه فبكى (3)
وقال:
في طعنة تضحك عن نجيع
فالضحك في هذه المواضع بمعنى الظهور، فيكون معناه في هذا الحديث: أن الله تعالى رضي عن هذا العبد، وأظهر عليه رحمتَه وفضلَه ونعمته، ولهذا حمله قوم هنا على أنّه تجلّى لهذا العبد وظهر له.
و(قوله في الحديث الآخر: أتسخر مني؟ ) وفي رواية: أتستهزئ مني؟ (4)،
(1) مذهب السلف: إثبات الضحك لله تعالى من غير تأويل، ولا تكييف، ولا تثبيه، وهو الأسلم.
(2)
رواه أحمد (5/ 435).
(3)
البيت لِدعْبِل بن علي الخزاعي، وصدره:
لا تَعْجبي يا سَلْمُ من رَجُلٍ
(4)
رواه مسلم (187).
قَالَ عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدرِيُّ مَع أَبِي هُرَيرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيهِ مِن حَدِيثِهِ شَيئًا، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أبو هُرَيرَةَ: إنَّ اللهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثلُهُ مَعَهُ، قَالَ أبو سَعِيدٍ الخُدرِيِّ: وَعَشَرَةُ أَمثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيرَةَ! قَالَ أبو هُرَيرَةَ: مَا حَفِظتُ إِلا قَولَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشهَدُ أَنِّي حَفِظتُ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَولَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمثَالِهِ مَعَهُ. قَالَ أبو هُرَيرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أهل الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ.
رواه أحمد (2/ 368)، والبخاري (7437)، ومسلم (182)، والترمذي (2557).
* * *
ــ
قد أكثر الناس في تأويله، ومن أشبه ما قيل فيه: إن هذا الرجل استخفّه الفرح وأدهشه، فقال ذلك غير ضابط لما يقول، كما جاء في الحديث الآخر في الذي وجد راحلته وقد أشرف على الهلاك من العطش والجوع: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدّة الفرح (1).
وقيل: إنما قال هذا الرجل ذلك على جهة أنّه خاف أن يقابله على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات والتشبه بأحوال الساخرين والمستهزئين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ وهذا كما قال تعالى: اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم، وسَخِرَ اللَّهُ مِنهُم؛ أي: يجازيهم جزاء استهزائهم وسخريتهم على أحد التأويلات.
و(قوله في حديث ابن مسعود: فيقول الله: يا ابن آدم ما يصريني منك؟ )(2) قال الحربي: إنّما هو: يصريك منّي، قال: يقال: صريتُ الشيء، إذا قطعتُه. الجوهريّ: صرى الله عنه شره: رفعه، وصريته: منعته، وصر قوله صريا: قطعه.
(1) رواه أحمد (1/ 383) و (2/ 316)، والبخاري (6308)، ومسلم (2744)، والترمذي (2499) و (2500) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (310).