الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(23) بَابٌ نِسبَةُ الاِختِرَاعِ لِغَيرِ اللهِ حَقِيقَةً كُفرٌ
[57]
عَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبحِ بِالحُدَيبِيَةِ فِي إِثرِ سَمَاءٍ كَانَت مِنَ اللَّيلِ، فَلَمَّا انصَرَفَ، أَقبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَل تَدرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُم؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ.
ــ
(23)
وَمِن بَابِ: نِسبَةُ الاِختِرَاعِ إِلَى غَيرِ اللهِ حَقِيقَةً كُفرٌ
(قوله: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبحِ بِالحُدَيبِيَةِ فِي إِثرِ سَمَاءٍ كَانَت مِنَ اللَّيلِ) أكثرُ الرواة يشدِّدون ياء الحُدَيبِيَّةِ، وهي لغةُ أهلُ اليمن، وأهل العراق يخفِّفونها. والجِعِرَّانة يقولها أهلُ المدينة بكسر العين وتشديد الراء، وأهلُ العراق يُسكِنون العين ويُخفِّفون الراء، وابنُ المسيِّب وأهلُ المدينة يكسرون الياءَ مشدَّدة، وأهلُ العراق يفتحونها، وكذلك قرأتُهُ، وقيَّدته على مَن لَقِيته وقَيَّدتُّ عليه.
والحديبية: موضعٌ فيه ماءٌ بينه وبين مَكَّة أميال، وَصَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه وهو مُحرِمٌ بعمرة قبل فتح مكَّة، فصدَّه المشركون عن البيت، فصالحهم وشرَطَ لهم وعليهم، ولم يدخُل مكَّةَ في تلك السنة، ورجَعَ إلى المدينة، فلمَّا كان العامُ المقبلُ، دخلها، وسيأتي تفصيلُ ذلك كلِّه، إن شاء الله تعالى.
وإثرَ الشَّيءِ بكسرِ الهمزة وإسكانِ الثاء المثلَّثة: بَعدَهُ وعَقِبَهُ، ويقال فيه: أَثَر، بفتح الهمزة والثاء. والسَّمَاءُ هنا المطرُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه من السماء ينزل، وحقيقةُ السماء: كلُّ ما علاك فأظلَّك.
و(قوله: فَلَمَّا انصَرَفَ، أَقبَلَ عَلَى النَّاسِ) أي: انصرَفَ مِن صلاته، وفرَغَ منها؛ فظاهره: أنَّه لم يكن يثبت في مكان صلاتِهِ بعد سلامه؛ بل كان ينتقلُ عنه ويتغيَّرُ عن حالته، وهذا الذي يستحبَّهُ مالك للإمامِ في المسجد؛ كما سيأتي.
قَالَ: قَالَ: أَصبَحَ مِن عِبَادِي مُؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرنَا بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوكَبِ، وَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤمِنٌ بِالكَوكَبِ.
رواه أحمد (4/ 117)، والبخاري (846)، ومسلم (71)، وأبو داود (3906)، والنسائي (3/ 165).
ــ
و(قوله: أَصبَحَ مِن عِبَادِي مُؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) ظاهره: أنَّه الكُفرُ الحقيقيُّ؛ لأنَّه قابَلَ به المؤمنَ الحقيقيَّ، فيُحمَلُ على مَنِ اعتقَدَ أنَّ المطر مِن فعل الكواكبِ وخَلقِها، لا مِن فِعلِ الله تعالى؛ كما يعتقده بعضُ جهَّال المنجِّمين والطبائعيِّين والعَرَب.
فأمَّا من اعتقَدَ أنَّ الله تعالى هو الذي خلَقَ المَطَرَ واخترعَهُ ثُمَّ تكلَّم بذلك القولِ، فليس بكافر؛ ولكنَّه مخطئٌ من وجهَين:
أحدهما: أنّه خالَفَ الشرع؛ فإنَّه قد حذَّر من ذلك الإطلاق.
وثانيهما: أنَّه قد تشبَّه بأهلِ الكفر في قولهم، وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّا قد أَمَرَنَا بمخالفتهم؛ فقال: خَالِفُوا المُشرِكين (1)، وخَالِفُوا اليَهُودَ (2). ونُهِينَا عن التشبُّهِ بهم؛ وذلك يقتضي الأَمرَ بمخالفتهم في الأفعالِ والأقوالِ على ما يأتي إن شاء الله تعالى، ولأنّ الله تعالى قد مَنَعَنا من التشبُّهِ بهم في النطق، بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا لمَّا كان اليهودُ يقولون تلك الكلمةَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقصدون ترعينَهُ (3)، مَنَعَنَا اللهُ مِن إطلاقها، وقولِهَا للنبي صلى الله عليه وسلم وإن قَصَدنا بها الخيرَ؛ سَدًّا للذريعة، ومنعًا من التشبُّهِ بهم. فلو قال غير هذا اللفظ
(1) رواه البخاري (5892)، ومسلم (259) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود (652) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(3)
في هامش (م): يقصدون به عيبه.
[58]
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَصبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنهُم كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحمَةُ اللهِ،
ــ
الممنوع يريدُ به الإخبارَ عمَّا أَجرَى الله به سُنَّتَهُ جاز؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا نشَأَت بَحرِيَّةٌ ثُمَّ تشاءَمَت، فَتِلكَ عَينٌ غَدِيقَةٌ (1).
و(قوله: فَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرنَا بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوكَبِ) أي: مصدِّقٌ بأنَّ المطر خَلقِي لا خلقُ الكوكب، أَرحَمُ به عبادي، وأتفضَّل عليهم به، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ.
والنَّوء لغةً: النهوضُ بثِقَلٍ، يقال: ناء بكذا: إذا نهَضَ به متثاقلاً؛ ومنه: لَتَنُوءُ بِالعُصبَةِ أي: لَتُثقِلُهُم عند النهوضِ بها (2). وكانت العَرَبُ إذا طلع نجمٌ من المشرِقِ، وسقَطَ آخر من المغرب، فحدَثَ عند ذلك مطرٌ أو ريح: فمنهم مَن يَنسُبُهُ إلى الطالِعِ، ومنهم مَن ينسبه إلى الغارب (3) الساقِطِ نِسبَةَ إيجادٍ واختراعٍ، ويُطلِقون ذلك القولَ المذكور في الحديث، فنهى الشرعُ عن إطلاقِ ذلك؛ لئلا يَعتَقِدَ أحدٌ اعتقادَهُم، ولا يتشبَّهَ بهم في نُطقهم، والله أعلم.
و(قوله: أَصبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنهُم كَافِرٌ) أصلُ الشكر: الظهورُ؛ ومنه قولهم: دابَّةٌ شَكُورٌ: إذا ظهر عليها من السِّمَن فوق ما تأكلُهُ من العلف. والشاكرُ: هو الذي يُثنِي بالنعمةِ ويُظهِرها ويعترفُ بها للمُنعِم، وجَحدُهَا: كفرانُهَا؛ فمَن
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 217): رواه الطبراني في الأوسط، وقال: تفرّد به الواقدي، قلت: وفي الواقدي كلام، وقد وثّقه غير واحد، وبقية رجاله لا بأس بهم، وقد وثقوا.
"غُدَيقة": أي: كثيرة الماء.
(2)
ساقط من (ع).
(3)
في (ط): الغايب، والمثبت من (م) و (ل). وهذا اللفظ ساقط من (ع).
وَقَالَ بَعضُهُم: لَقَد صَدَقَ نَوءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَنَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ: فَلَا أُقسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ حَتَّى بَلَغَ: وَتَجعَلُونَ رِزقَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ.
رواه مسلم (73).
* * *
ــ
نسَبَ المطَرَ إلى الله تعالى، وعرَفَ مِنَّتَهُ فيه، فقد شكَرَ الله تعالى، ومَن نسبه إلى غيره، فقد جحَدَ نعمةَ الله تعالى في ذلك، وظلَمَ بنسبتها لغير المُنعِم بها؛ فإن كان ذلك عن اعتقاد، كان كافرًا ظالمًا حقيقةً، وإن كان عن غير معتقد، فقد تشبَّهَ بأهلِ الكفر والظلمِ الحقيقيِّ؛ كما قلناه آنفًا.
وقد قابل في هذا الحديث بين الشكر والكفر؛ فدلَّ ظاهره على أن المراد بالكفر هاهنا كفرانُ النعم، لا الكفرُ بالله تعالى.
ويحتملُ أن يكون المرادُ به الكفرَ الحقيقيَّ؛ ويؤيِّد ذلك استدلالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: وَتَجعَلُونَ رِزقَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ أي: تجعلون شُكرَ رزقِكُمُ التكذيبَ؛ على حذفِ المضاف؛ قاله المفسِّرون، وقرأ عليٌّ: وَتَجعَلُونَ شُكرَكُم فعبَّر عن الرزق بالشُّكرِ، والرزقُ: الشكرُ بلغَةِ أَزدِ شَنُوءة، يقال: ما أرزقَهُ! أي: ما أشكَرهُ! وما رزَقَ فلانٌ فلانًا، أي: ما شَكَره (1).
و(قوله: فَلَا أُقسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أصله: للقسم؛ قاله ابنُ عبَّاس. وقرأ عيسى: لَأُقسِمُ بحذفِ الألف؛ كأنه قال: لَأُقسِمَنَّ، فحذَفَ نونَ التوكيد، وكذلك قرأ الحسَنُ والفراء (2) في رواية البزي (3): لأقسم
(1) قوله: (وما رزق. . . ما شكره) ساقط من (ع).
(2)
في (ع) و (م) و (ط)، والمثبت من (ل) وتفسير القرطبي (19/ 62).
(3)
هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم، أبو الحسن الفارسي: مقرئ مكة. توفي سنة (250 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 50).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بيوم القيامة (1) ويلزمُ ذلك النونُ الشديدةُ أو الخفيفةُ، وحَذفُهَا شاذٌّ.
ومواقع النجوم مساقطها، وقيل: مطالعها، وقيل: انكدارُهَا وانتثارها يوم القيامة. وقيل في تأويلِ الآية: إنها قَسَمٌ بقلبِ محمد صلى الله عليه وسلم، والنجومُ هي القرآن؛ لأنَّه أُنزِلَ نجومًا؛ وروي ذلك عن ابن عبَّاس، والقَسَمُ: الإيلاءُ والحَلِفُ. وهذا وأشباهه قَسَمٌ من الله تعالى على جهة التشريفِ للمقسَمِ به، والتأكيدِ للمُقسَمِ له، ولله تعالى أن يُقسِمَ بما شاء مِن أسمائه وصفاتِهِ ومخلوقاتِهِ تشريفًا وتنويهًا؛ كما قال: وَالشَّمسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيلِ إِذَا يَغشَى، وَالعَادِيَاتِ، وَالمُرسَلَاتِ، وَالنَّازِعَاتِ ونحو هذا.
وقد تكلَّف بعضُ العلماء، وقال: إنَّ المقسَمَ به في مثلِ هذه المواضع محذوفٌ للعلم به؛ فكأنه قال: وربِّ الشمسِ، وربِّ الليل. والذي حمله على ذلك: أنَّه لمَّا سَمِع أنَّ الشرع قد نهانا أن نَحلِفَ بغير الله تعالى، ظنَّ أنَّ الله تعالى يمتنعُ مِن ذلك، وهذا ظن قاصر وفهمٌ غيرُ حاضر؛ إذ لا يَلزَمُ شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ للهِ تعالى أن يحكمَ بما شاء، ويفعَلَ من ذلك (2) ما يشاء؛ إذ لا يتوجَّهُ عليه حُكم، ولا يترتَّبُ عليه حَقٌّ. وأيضًا: فإنَّ الشرع إنما منعنا من القسمِ بغيرِ الله تعالى؛ حمايةً عن التشبُّهِ بالجاهليةِ فيما كانوا يُقسِمون به من معبوداتهم ومُعَظَّمَاتِهم الباطلةِ؛ على ما يأتي الكلامُ عليه في الأَيمَان.
وقوله: {إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ} الكريم: الشريفُ الكثيرُ المنافعِ السَّهلهَا. والمكنونُ: المَصُونُ المحفوظ، ويعني بالكتاب: اللوحَ المحفوظَ؛ كقوله: بَل هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوحٍ مَحفُوظٍ.
والمُطَهَّرُونَ بحكم عُرفِ الشرع: هم المتطهِّرون من الحدَثِ؛ وعليه فتكونُ لَا نهيًا، ويَمَسّهُ مجزومٌ بالنهي، وضُمَّت سينه لأجل الضمير؛ كما قالوا: شُرهُ ومُرهُ. ويجوزُ أن يكون خبرًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عن المشروعيَّة، أي: لا يجوزُ مسُّهُ إلَاّ لمن تطهَّر من الحدث، ويكونُ هذا نحو قولِهِ تعالى: وَالوَالِدَاتُ يُرضِعنَ أَولَادَهُنَّ حَولَينِ كَامِلَينِ. وهذا تقريرُ وجهِ منِ استدلَّ بالآية على تحريمِ مَسِّ القرآنِ على غير طهارة، وهُمُ الجمهور، وأَمَّا مَن أجاز ذلك، وهم أهلُ الظاهر: فحملوا الآية على أنَّها خبرٌ عمَّا في الوجود، أي: لا يَمَسُّهُ ولا ينالُهُ ولا يباشرُهُ إلا الملائكةُ، وهم المطهَّرون بالحقيقةِ، وتكونُ هذه الآيةُ مثلَ قوله:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ؛ وإلى هذا صار مالكٌ في تفسير هذه الآية، مع أنَّ مذهبَهُ أنَّه لا يجوزُ لِمُحدِثٍ مسُّ المصحف؛ أخذًا بهذا الحكم مِنَ السُّنَّةِ الثابتة عنده، لا مِنَ الآية، والله تعالى أعلم. وقد قيل في الآية: لَا يَمَسُّهُ: لا يفهمُهُ ولا يجدُ حلاوتَهُ إلا المؤمنون المحقِّقون، والأول الظاهر.
و(قوله: أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُدهِنُونَ يعني بالحديث: القرآنَ؛ لأنه أحاديثُ عن الأممِ الماضيةُ والوقائعِ الآتية، والأحكامِ الجارية. ومُدهِنُونَ: مكذِّبون، وأصله من الدَّهن؛ يقال: أَدهَنَ، وداهَنَ؛ أي: ترَكَ ما هو عليه وتلبَّس بغيره.
* * *