الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(39) بَابٌ الإسلَامُ إِذَا حَسُنَ، هَدَمَ مَا قَبلَهُ مِنَ الآثَامِ، وَأَحرَزَ مَا قَبلَهُ مِنَ البِرِّ
[94]
عَن عَبدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رسولَ الله، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: أَمَّا مَن أَحسَنَ مِنكُم فِي الإِسلَامِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَن أَسَاءَ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسلَامِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَن أَسَاءَ فِي الإِسلَامِ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ.
رواه أحمد (1/ 379 و 462)، والبخاري (6921)، ومسلم (120).
ــ
(39)
وَمِن بَابٍ الإِسلَامُ إِذَا حَسُنَ، هَدَمَ مَا قَبلَهُ مِنَ الآثَامِ، وَأَحرَزَ مَا قَبلَهُ مِنَ البِرِّ
(قوله: أَمَّا مَن أَحسَنَ مِنكُم فِي الإِسلَامِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَن أَسَاءَ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسلَامِ) يعني بالإحسانِ هنا: تصحيحَ الدخولِ في دِينِ الإسلامِ، والإخلاصَ فيه، والدوامَ على ذلك مِن غير تبديلٍ ولا ارتداد.
والإساءةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ في مقابلةِ هذا الإحسانِ: هي الكفرُ والنفاق، ولا يَصِحُّ أن يراد بالإساءةِ هنا ارتكابُ سَيِّئةٍ ومعصية؛ لأنه يلزمُ عليه ألَاّ يَهدِمَ الإسلامُ ما قبله مِنَ الآثامِ إلا لمن عُصِمَ من جميعِ السيئاتِ إلى الموت، وهو باطلٌ قطعًا؛ فتعيَّن ما قلناه.
والمؤاخذةُ هنا: هي العقابُ على ما فعله مِنَ السيِّئات في الجاهليَّة وفي حالِ الإسلام، وهو المعبَّرُ عنه في الروايةِ الأخرى بقوله: أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ. وإنما كان كذلك؛ لأنَّ إسلامَهُ لمَّا لم يكن صحيحًا ولا خالصًا لله تعالى، لم يَهدِم شيئًا مما سبَقَ، ثم انضافَ إلى ذلك إثمُ نفاقِهِ وسيئاتِهِ التي عَمِلَهَا في حالِ الإسلام، فاستحَقَّ العقوبةَ عليها. ومِن هنا: استَحَقَّ المنافقون أن يكونوا في الدَّركِ الأسفلِ من النار؛ كما قال الله تعالى. ويستفادُ منه أنَّ الكُفَّارَ مخاطَبُونَ بالفروع.
[95]
وَعَنِ ابنِ شُمَاسَةَ المَهرِيِّ، قَالَ: حَضَرنَا عمرو بنَ العَاصِ وهو فِي سِيَاقَةِ المَوتِ، فَبَكَى طَوِيلاً، وَحَوَّلَ وَجهَهُ إِلَى الجِدَارِ، فَجَعَلَ ابنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ ! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ ! قَالَ: فَأَقبَلَ بِوَجهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفضَلَ مَا نُعِدُّ: شَهَادَةُ أَن لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي كُنتُ عَلَى أَطبَاقٍ ثَلَاثَةٍ: لَقَد رَأَيتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ مِن أَن أَكُونَ قَدِ استَمكَنتُ مِنهُ فَقَتَلتُهُ، فَلَو مُتُّ عَلَى تِلكَ الحَالِ لَكُنتُ مِن أهل النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِسلَامَ فِي قَلبِي، أَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلتُ: ابسُط يَمِينَكَ فَلِأُبَايِعكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضتُ يَدِي، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمرُو؟ ! ، قَالَ: قُلتُ: أَرَدتُّ أَن أَشتَرِطَ، قَالَ: تَشتَرِطُ بمَاذَا؟ ! ، قُلتُ: أَن يُغفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمتَ أَنَّ
ــ
وابنُ شُمَاسَةَ رُوِّيناه بفتح الشين وضمِّها، واسمُهُ: عبد الرحمن بن شُمَاسة، أبوه مِن بني مَهرة، قَبِيلٌ.
و(قولُ عمرو بن العاص: إِنَّ أَفضَلَ مَا نُعِدُّ: شَهَادَةُ: أَن لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) أي: أفضلُ ما نتخذه عُدَّةً لِلِقَاءِ الله تعالى: الإيمانُ بالله تعالى، وتوحيدُهُ، وتصديقُ رسوله صلى الله عليه وسلم، والنطقُ بذلك. وقد تقدَّم أنَّ الإيمانَ أفضلُ الأعمالِ كلِّها، ويتأكَّدُ أمرُ النطق بالشهادتَينِ عند الموت؛ ليكونَ ذلك خَاتِمَةَ أمره، وآخِرَ كلامه.
و(قوله: إِنِّي كُنتُ عَلَى أَطبَاقٍ ثَلَاثَةٍ) أي: أحوالٍ ومنازلَ، ومنه قوله تعالى: لَتَركَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ أي: حالاً بعد حال.
و(قوله: ابسُط يَمِينَكَ فَلِأُبَايِعكَ) بكسر اللام وإسكان العين على الأمر، أي: أَمرِ المتكلِّمِ لنفسه، والفاءُ جوابٌ لما تضمَّنه الأمرُ الذي هو ابسُط من الشرط. ويصحُّ أن تكون اللامُ لامَ كي، وبنصبَ أُبَايِعَكَ، وتكونَ اللامُ سببية، والله أعلم.
الإِسلَامَ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ؟ ! وَأَنَّ الهِجرَةَ تَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهَا؟ ! وَأَنَّ الحَجَّ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ؟ ! ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَينِي مِنهُ، وَمَا كُنتُ أُطِيقُ أَن أَملَأَ عَينَيَّ مِنهُ؛ إِجلَالاً لَهُ، وَلَو سُئِلتُ أَن أَصِفَهُ، مَا أَطَقتُ؛ لِأَنِّي لَم أَكُن أَملَأُ عَينَيَّ مِنهُ، وَلَو مُتُّ عَلَى تِلكَ الحَالِ،
ــ
و(قوله: إِنَّ الإِسلَامَ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ، وَإِنَّ الهِجرَةَ تَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهَا، وَإِنَّ الحَجَّ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ) الهَدمُ هنا: استعارةٌ وتوسُّع، يعني به: الإذهابَ والإزالة؛ لأنَّ الجدار إذا انهدم، فقد زالَ وضعُهُ، وذهَبَ وجودُهُ، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى بالجَبِّ، فقال: يَجُبُّ، أي: يَقطَعُ، ومنه المجبوبُ، وهو المقطوعُ ذَكَرُهُ.
ومعنى العبارتَينِ واحد، ومقصودُهُمَا: أنَّ هذه الأعمالَ الثلاثةَ تُسقِطُ الذنوبَ التي تقدَّمَتهَا كلَّها، صغيرَهَا وكبيرها؛ فإنَّ ألفاظَهَا عامَّةٌ خرجَت على سؤالٍ خاصٍّ؛ فإنَّ عَمرًا إنما سأل أن يغفَرَ له ذنوبُهُ السابقةُ بالإسلام، فأُجِيبَ على ذلك؛ فالذنوبُ داخلةٌ في تلك الألفاظِ العامَّةِ قطعًا، وهي بحكم عمومها صالحةٌ لتناوُلِ الحقوقِ الشرعيَّة، والحقوقِ الآدميَّة؛ وقد ثبَتَ ذلك في حَقِّ الكافر الحربيِّ إذا أسلَمَ؛ فإنَّه لا يُطَالَبُ بشيء مِن تلك الحقوق، ولو قَتَلَ وأَخَذَ الأموالَ، لم يُقتَصَّ منه بالإجماع، ولو خرجَتِ الأموالُ مِن تحت يده، لم يطالَب بشيء منها.
ولو أسلَمَ الحربيُّ وبيده مالُ مسلمٍ؛ عَبِيدٌ، أو عُرُوضٌ، أو عَينٌ؛ فمذهبُ مالك: أنَّه لا يجبُ عليه رَدُّ شيء من ذلك؛ تمسُّكًا بعمومِ هذا الحديث، وبأنَّ للكفَّارِ شبه مِلكٍ فيما حازُوهُ من أموال المسلمين وغيرهم؛ لأنَّ الله تعالى قد نسَبَ لهم أموالاً وأولادًا؛ فقال تعالى: فَلَا تُعجِبكَ أَموَالُهُم وَلَا أَولَادُهُم.
وذهَبَ الشافعيُّ: إلى أنَّ ذلك لا يَحِلُّ لهم، وأنَّه يجبُ عليهم ردُّها إلى مَن كان يملكها مِنَ المسلمين، وأنَّهم كالغُصَّاب؛ وهذا يُبعِده: أنَّهم لو استَهلَكُوا ذلك في حالةِ كُفرهم ثُمَّ أسلموا، لم يَضمَنوا بالإجماعِ؛ على ما حكاه أبو محمَّدٍ عبدُ الوهَّاب (1).
فأمَّا أسر المسلمين
(1) هو عبد الوهاب بن محمد الفامي: فقيه شافعي (ت 500 هـ).
لَرَجَوتُ أَن أَكُونَ مِن أهل الجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشيَاءَ مَا أَدرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلَا تَصحَبنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنتُمُونِي، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَولَ قَبرِي قَدرَ مَا تُنحَرُ جَزُورٌ وَيُقسَمُ لَحمُهَا، حَتَّى أَستَأنِسَ بِكُم، وَأَنظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
رواه مسلم (121).
ــ
الأحرارِ: فيجبُ عليهم رفعُ أيديهم عنهم؛ لأنَّ الحُرَّ لا يُملَكُ. وأما مَن أسلم مِن أهل الذمَّة: فلا يُسقِطُ الإسلامُ عنه حقًّا وجب عليه لأحدٍ مِن مالٍ أو دمٍ أو غيرهما؛ لأنَّ أحكام الإسلامِ جاريةٌ عليهم. واستيفاءُ الفروعِ في كتب الفقه. وأما الهجرةُ، والحَجُّ: فلا خلافَ في أنهما لا يُسقِطان إلا الذنوبَ والآثامَ السابقة، وهل يُسقِطان الكبائرَ والصغائر، أو الصغائرَ فقط؟ موضعُ نظرٍ سيأتي في كتاب الطهارة، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: فَإِذَا مُتُّ، فَلَا تَصحَبنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ) إنَّما وصَّى باجتنابِ هذَين الأمرَين؛ لأنَّهما مِن عَمَلِ الجاهليَّة، ولِنَهيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
و(قوله: فَإِذَا دَفَنتُمُونِي، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا) رُوِيَ هذا الحديث بالسِّين المهملة، والمعجمة، فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، وهو الصَّبُّ، وقيل: هو بالمهملة: الصَّبُّ في سهولة، وبالمعجمةِ: صَبٌّ في تفريق. وهذه سُنَّةٌ في التراب على الميِّت في القبر؛ قاله عِيَاضٌ، وقد كره مالكٌ في العُتبِيَّةِ (1) الترصيصَ على القَبرِ بالحجارة والطُّوب.
و(قوله: ثُمَّ أَقِيمُوا حَولَ قَبرِي قَدرَ مَا تُنحَرُ جَزُورٌ وَيُقسَمُ لَحمُهَا) الجَزُورُ بفتح الجيم: من الإبل، والجَزَرَةُ: من غيرها، وفي كتاب العين: الجَزَرَةُ من الضَّأنِ والمَعز خاصَّةً، وهي مأخوذةٌ من الجَزرِ، وهو القَطع.
(1)"العتبية": مسائل في مذهب الإمام مالك، منسوبة إلى مصنِّفها محمد بن أحمد العتبي القرطبي، توفي سنة (254 هـ).
[96]
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ أنَاسًا مِن أهل الشِّركِ قَتَلُوا فَأَكثَرُوا، وَزَنَوا فَأَكثَرُوا، ثم أَتَوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدعُو لَحَسَنٌ، وَلَو تُخبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: وَالَّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا، وَنَزَلَ: قُل يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لَا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ الآيَةَ.
رواه البخاري (4810)، ومسلم (122)، وأبو داود (4273)، والنسائي (7/ 86).
[97]
وَعَن حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَي رسولَ الله، أَرَأَيتَ أُمُورًا كُنتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ مِن صَدَقَةٍ، أو عَتَاقَةٍ، أو صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَسلَمتَ عَلَى مَا أَسلَفتَ مِن خَيرٍ.
ــ
و(قوله: وَلَو تُخبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلنَا كَفَّارَةً) يَحتملُ: أن تكونَ لو هنا للامتناع، ويكونُ جوابها محذوفًا، تقديره: لَأَسلَمنا، أو نحوه. ويَحتملُ: أن يكون تمنِّيًا بمعنى ليت. والأوَّل أظهر. وقوله تعالى: وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا يُضَاعَف لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ الآية، ذا: إشارةٌ إلى واحدٍ في أصلِ وضعها، غَيرَ أنَّ الواحدَ تارةً يكونُ واحدًا بالنصِّ عليه، وتارةً يكونُ بتأويل، وإن كانت أمور متعدِّدة في اللفظِ كما في هذه الآية؛ فإنَّه ذكَرَ قَبلَ ذا أمورًا، وأعاد الإشارةَ إليها مِن حيثُ إنَّها مَذكُورةٌ أو مَقُولة؛ فكأنَّه قال: ومَن يفعلِ المذكورَ أو المقولَ. وفي هذه الآية: حُجَّةٌ لمن قال: إنَّ الكفَّار مُخَاطَبُونَ بفروعِ الشريعة، وهو الصحيحُ مِن مذهبِ مالكٍ؛ على ما ذكرناه في الأصول.
و(قوله: أَسلَمتَ عَلَى مَا أَسلَفتَ مِن خَيرٍ) اختُلِفَ في تأويله؛ فقيل
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ أَعتَقَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَعتَقَ فِي الإِسلَامِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. . . فَذَكَرَ نَحوَهُ.
رواه أحمد (3/ 402 و 434)، والبخاري (2538)، ومسلم (123).
* * *
ــ
معناه: إنَّك اكتسبتَ طِباعًا جميلةً، وخُلُقًا حسنةً في الجاهلية، أَكسَبَتكَ خُلُقًا جميلةً في الإسلام. وقيل: اكتسَبتَ بذلك ثناءً جميلاً، فهو باقٍ عليك في الإسلام. وقيل: معناه: ببركةِ ما سبَقَ لك مِن خيرٍ، هداك الله للإسلام. وقال الحَربِيُّ: ما تقدَّم لك مِنَ الخير الذي عَمِلتَهُ هو لك؛ كما تقول: أَسلَمتُ على ألفِ درهم، أي: على أَن أُحرِزها لنفسه.
قال المؤلف رحمه الله: وهذا الذي قاله الحَربِيُّ هو أشبهها وأَولَاها، وهو الذي أَشَرنا إليه في الترجمة، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديثِ - أعني حديثَ عمرو بن العاصي - فوائد:
منها: تبشيرُ المحتضَرِ، وتذكيرُهُ بأعمالِهِ الصالحة؛ ليقوَى رجاؤه، ويَحسُنَ باللهِ ظَنُّهُ.
ومنها: أنَّ الميِّت تُرَدُّ عليه رُوحُهُ، ويَسمَعُ حِسَّ مَن هو على قبره، وكلامَهُم، وأنَّ الملائكةَ تسألُهُ في ذلك الوقت. وهذا كلُّه إنما قاله عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ مِثله لا يُدرَكُ إلا مِن جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فينبغي أن يُرشَدَ الميِّتُ في قبره حين وَضعِهِ فيه إلى جوابِ السؤال، ويُذكَّرَ بذلك، فيقال له: قُلِ: اللهُ ربِّي، والإسلامُ ديني، ومحمَّدٌ رسولي؛ فإنَّه عن ذلك يُسأَلُ كما جاءَت به الأحاديث
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على ما يأتي، إن شاء الله تعالى، وقد جرى العمَلُ عندنا بِقُرطُبَةَ كذلك، فيقال: قل: هو محمَّدٌ رسولُ الله تعالى؛ وذلك عند هَيلِ التراب عليه. ولا يُعارَضُ هذا بقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ولا بقوله: فَإِنَّكَ لَا تُسمِعُ المَوتَى؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نادى أهلَ القَلِيبِ وأسمعهم، وقال: مَا أَنتُم بِأَسمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنهُم، ولَكِنَّهُم لَا يَستَطِيعُونَ جَوَابًا (1)، وقد قال في الميِّت: إِنَّهُ يَسمَعُ قَرعَ نِعَالِهِم (2)، وإنَّ هذا يكونُ في حال دون حال، ووَقتٍ دون وقت، وسيأتي استيفاءُ هذا المعنَى في الجنائز، إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديثِ: ما كانتِ الصحابةُ عليه مِن شدَّة محبَّتهم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمِهِ وتوقيره.
وفيه: الخوفُ مِن تغيُّرِ الحال، والتقصيرِ في الأعمالِ في حالِ الموت، لكن ينبغي أن يكونَ الرجاءُ هو الأغلَبَ في تلك الحال، حتَّى يَحسُنَ ظنُّهُ بالله تعالى عز وجل: فيلقاه على ما أَمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ قال: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُم إِلَاّ وهو يُحسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عز وجل (3). كما تقدم (4).
(1) رواه أحمد (3/ 114)، والبخاري (3980 و 3981)، ومسلم (932) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870)، وأبو داود (3231)، والنسائي (4/ 97 و 98) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (2877)، وأبو داود (3113) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).