الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12) بَابُ مَن يَذُوقُ طَعمَ الإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ
[27]
عَنِ العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً.
رواه أحمد (1/ 208)، ومسلم (34)، والترمذي (2758).
ــ
(12)
وَمِن بَابِ مَن يَذُوقُ طَعمَ الإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ
(قوله: ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ) أي: وَجَدَ حَلَاوَتَهُ، كما قال في حديث أنس: ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ، وهي عبارةٌ عمَّا يجده المؤمنُ المحقِّقُ في إيمانه، المطمئنُّ قلبه به؛ من انشراحِ صدره، وتنويرِهِ بمعرفةِ الله تعالى، ومعرفةِ رسوله، ومعرفةِ مِنَّةِ الله تعالى عليه: في أن أنعَمَ عليه بالإسلام، ونظَمَهُ في سلك أمَّةِ محمَّدٍ خيرِ الأنام، وحبَّب إليه الإيمانَ والمؤمنين، وبَغَّض إليه الكُفرَ والكافرين، وأنجَاهُ من قبيح أفعالهم، ورَكَاكةِ أحوالهم.
وعند مطالعةِ هذه المِنَن، والوقوفِ على تفاصيل تلك النِّعَم، تطيرُ القلوبُ فرحًا وسرورَا، وتمتلئُ إشراقًا ونورَا، فيا لها مِن حلاوةٍ ما ألذَّها، وحالةٍ ما أشرفَها! ! فنسأله - الله - تعالى أن يَمُنَّ بدوامها وكمالِهَا، كما مَنَّ بابتدائها وحُصُولِهَا؛ فإنَّ المؤمن عند تذكُّرِ تلك النِّعَمِ والمِنَن لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة؛ غير أنَّ المؤمنين في تمكُّنها ودوامها متفاوتون، وما منهم إلا وله منها شِربٌ مَعلُوم، وذلك بِحَسَبِ ما قُسِمَ لهم من هذه المجاهدة الرياضيّة، والمِنَحِ الربَّانيَّة، وللكلام في تفاصيلِ ما أجملناه مَقَامٌ آخرُ.
و(قوله: مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا. . .) الحديثَ؛ الرضا بهذه الأمورِ الثلاثة على قسمَين:
رِضًا عامٌّ: وهو ألا يَتَّخِذَ غيرَ الله ربًّا، ولا غيرَ دين الإسلام دينًا، ولا غيرَ محمَّد صلى الله عليه وسلم رسولاً؛ وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يَصِحُّ التديُّنُ بدين الإسلام إلا بذلك الرضا.
[28]
وعَن أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ:
ــ
والرضا الخاصُّ: هو الذي تكلَّم فيه أربابُ القلوب، وهو ينقسم على قسمَين: رضًا بهذه الأمور، ورضًا عن مُجرِيها تعالى؛ كما قال أبو عبد الله بنُ خَفِيف (1): الرضا قسمان: رضًا به، ورضًا عنه؛ فالرضا به مدبِّرًا، والرضا عنه فيما قضى، وقال أيضًا: هو سكونُ القلب إلى أحكامِ الرَّبّ، وموافقتُهُ على ما رَضِيَ واختار، وقال الجُنَيد: الرضا رفعُ الاختيار، وقال المُحَاسِبِيُّ: هو سكونُ القلب تحتَ مجاري الأحكام، وقال أبو عليٍّ الرُّوذبَارِيُّ: ليس الرضا ألَاّ يُحِسَّ بالبلاء، إنما الرضا ألَاّ يَعتَرِضَ على الحكم.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: وما ذكره هؤلاءِ المشايخُ هو مبدأُ الرضا عندهم، وقد ينتهي الرضا إلى ما قاله النُّورِيُّ (2): هو سرورُ القلبِ بِمُرِّ القضاء، وَسُئِلَت رابعةُ عن الرضا؟ فقالت: إذا سرَّتهُ المصيبةُ كما سرَّتهُ النعمةُ.
وقد غلا بعضهم وهو أبو سُلَيمَانَ الداراني، فقال: أرجو أن أكونَ عَرَفتُ طَرَفًا من الرضا، لو أنَّه أدخلني النارَ، لَكُنتُ به راضيًا. وقال رُوَيم: الرضا هو: لو جعَلَ جهنَّمَ عن يمينه، ما سَأَلَ أن يحَوَّلَ عن شماله.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: وهذا غلو، وفيه إشكالٌ، والكلامُ فيه يُخرِجُ عن مقصودِ كتابنا. وعلى الجملة: فالرضا بابُ اللهِ الأعظمُ، وفيه جماعُ الخيرِ كلِّه؛ كما قال عمر لأبي موسى فيما كتب إليه: أما بعدُ! فإنَّ الخَيرَ كلَّه في الرضا؛ فإنِ استطَعَتَ أن ترضَى، وإلَاّ فاصبر.
و(قوله: ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ) إنما خصَّ هذه
(1) هو محمد بن خفيف الشيرازي: من مشايخ الصوفية. توفي سنة (371 هـ).
(2)
هو أحمد بن محمد النُّوري: من مشايخ الصوفية. توفي سنة (295 هـ).
مَن كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا،
ــ
الثلاثَ بهذا المعنى؛ لأنَّها لا توجدُ إلا ممَّن تنوَّرَ قلبُه بأنوار الإيمان واليقين، وانكشَفَت له محاسنُ تلك الأمور التي أوجَبَت له تلك المَحَبَّةَ التي هي حالُ العارفين.
و(قوله: مَن كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا) دليلٌ على جواز إضافةِ المحبَّةِ لله تعالى، وإطلاقِهَا عليه، ولا خلافَ في إطلاقِ ذلك عليه صحيح مُحِبًّا ومحبوبًا؛ كما قال تعالى: فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ وهو في السُّنَّة كثير.
ولا يختلف النُّظَّار من أهل السُّنَّة وغيرِهِم: أنَّها مُؤَوَّلةٌ في حق الله تعالى؛ لأنَّ المحبة المتعارَفَةَ في حقِّنا إنَّما هي مَيلٌ لما فيه غَرَضٌ يَستَكمِلُ به الإنسانُ ما نقصَهُ، وسكونٌ لما تَلتَذُّ به النفس، وتكمُلُ بحصوله، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
وقد اختلف أئمَّتنا في تأويلها في حَقِّ الله تعالى: فمنهم مَن صرفها إلى إرادتِهِ تعالى إنعامًا مخصوصًا على مَن أخبَرَ أنَّه يحبُّه من عباده؛ وعلى هذا تَرجِعُ إلى صفة ذاته. ومنهم: مَن صرفها إلى نفس الإنعام والإكرام؛ وعلى هذا فتكون من صفات الفعل. وعلى هذا المنهاج: يتمشَّى القولُ في الرحمة والنَّعمَة والرضا، والغضبِ والسَّخَط وما كان في معناها، ولِبَسطِ ذلك موضعٌ آخر.
فأما محبَّةِ العبد لله تعالى فقد تأوَّلها بعضُ المتكلِّمين؛ لأنَّهم فسَّروا المحبَّة بالإرادةُ، والإرادة إنما تتعلَّق بالحادث لا بالقديم، ومنهم مَن قال: لأنَّ محبتَنا إنَّما تتعلَّق بمستَلَذٍّ محسوسٍ، واللهُ تعالى منزَّهٌ (1) عن ذلك. وهؤلاءِ تأوَّلوا محبةَ العبدِ لله تعالى بطاعتِهِ له، وتعظيمِهِ إياه، وموافقتِهِ له على ما يريد منه. وأما أربابُ
(1) في (ع): أعلى ومنزّه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القلوب، فمنهم مَن لم يتأوَّل محبَّةَ العبدِ لله تعالى، حتى قال: المحبةُ لله تعالى هي الميلُ الدائم بالقلبِ الهائم، وقال أبو القاسم القُشَيرِيُّ: أما محبةُ العبدِ لله تعالى، فحالةٌ يجدها العبدُ من قلبه تَلطُفُ عن العبارة، وقد تحملُهُ تلك الحالةُ على التعظيمِ لله تعالى، وإيثارِ رضاه، وقلَّةِ الصبر عنه، والاحتياج إليه، وعَدَمِ الفرَارِ عنه، ووجودِ الاستئناسِ بدوامِ ذكره.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: فهؤلاءِ قد صرَّحوا بأنَّ محبَّة العبد (1) لله تعالى: هي مَيلٌ من العبد وتَوَقَان، وحالٌ يَجِدُها المُحِبُّ مِن نفسه مِن نوعِ ما يجده في محبوباتِهِ المعتادةِ له، وهو صحيحٌ.
والذي يوضِّحه: أنَّ الله تعالى قد جَبَلَنا على الميل إلى الحُسنِ والجمال والكمال، فبقدر ما ينكشفُ للعاقل من حُسنِ الشيء وجمالِهِ، مالَ إليه وتعلَّقَ قلبُهُ به حتى يُفضِيَ الأمرُ إلى أن يستولي ذلك المعنَى عليه؛ فلا يَقدِرُ على الصبر عنه، وربَّما لا يشتغلُ بشيءٍ دونه.
ثم الحُسنُ والكمالُ نوعان: محسوسٌ، ومعنويٌّ: فالمحسوسُ: كالصور الجميلة المشتهاة نيلِ اللذَّةِ الجِسمَانية، وهذا في حقِّ الله تعالى محالٌ قطعًا. وأما المعنويُّ: فكمَنِ اتَّصَفَ بالعلومِ الشريفة، والأفعالِ الكريمة، والأخلاقِ الحميدة، فهذا النوعُ تميلُ إليه النفوسُ الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلاً عظيمًا؛ فترتاحُ لذكرِه، وتتنعم بخُبرِهِ وخَبَرِهِ، وتهتزّ لسماعِ أقوالِه، وتتشوَّف (2) لمشاهدة أحواله، وتلتذُّ بذلك لذةً رُوحَانيةً لا جِسمَانِيَّةً، كما تجده عند ذِكرِ الأنبياءِ والعُلَمَاء والفُضلَاءِ والكُرَمَاء من الميلِ واللذَّة والرِّقَّة والأنس، وإن كنَّا لا نَعرِفُ صورهم المحسوسة، وربَّما قد نَسمَعُ أنَّ بعضَهم مِن غير الأنبياء قبيحُ الصورة الظاهرة أو أعمَى أو أجذَم،
(1) ساقط من (ع).
(2)
في (ط): تتشوق.
وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَاّ للهِ تعالى،
ــ
ومع ذلك: فذلك الميلُ والأُنسُ والتشوُّقُ موجودٌ لنا (1)؛ ومَن شَكَّ في وِجدانِ ذلك، أو أنكَرَهُ، كان عن جِبِلَّةِ الإنسانيَّةِ خارجَا، وفي غِمَارِ المعتوهين والجَا.
وإذا تقرَّر ذلك: فإذا كان هذا الموصوفُ بذلك الكمال قد أحسنَ إلينا، وفاضَت نعمُهُ علينا، ووصَلَنَا ببِرِّه، وعطفِهِ ولُطفِه، تضاعَفَ ذلك الميلُ، وتجدَّد ذلك الأُنس، حتَّى لا نصبرَ عنه، بل يستغرقنا ذلك الحال، إلى أن نُذهَلَ عن جميعِ الأشغال، بل ويطرأُ على المُشتَهرِ بذلك نوعُ اختلال.
وإذا كان ذلك في حَقِّ مَن كمالُهُ وجمالُهُ مُقيَّدًا مَشُوبًا بالنقص مُعَرَّضًا للزوال، كان مَن كمالُهُ وجمالُهُ واجبًا مطلقًا (2) لا يشوبُهُ نقصٌ ولا يعتريه زوال، وكان إنعامُهُ وإحسانُهُ أكثرَ بحيثُ لا ينحصرُ ولا يُعَدّ، أولَى بذلك الميل وأحقَّ بذلك الحبّ، وليس ذلك إلَاّ لله وحده، ثُمَّ لمن خصَّه الله تعالى بما شاء مِن ذلك الكمال، وأكملُ نوع الإنسان محمَّدٌ عليه أفضل الصلاةِ والسلام.
فَمَن تَحَقَّق ما ذكرناه، واتّصَفَ بما وصفناه، كان اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سواهما، ومن كان كذلك تأهَّلَ للقائهما، بالاتِّصَافِ بما يُرضِيهما، واجتنابِ ما يُسخِطُهُمَا؛ ويستلزمُ ذلك كلُّه الإقبالَ بالكُلِّيَّة عليهما، والإعراضَ عمَّا سواهما إلاّ بإذنهما وأمرهما، ولتفصيلِ ذلك موضعٌ آخر.
و(قوله: وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَاّ للهِ) يعني: بالمرء هنا: المُسلِمَ المؤمنَ؛ لأنَّه هو الذي يمكنُ أن يُخلَصَ لله تعالى في محبَّتِه، وأن يُتَقَرَّبَ لله تعالى باحترامِهِ وحُرمَتِه؛ فإنه هو الموصوفُ بالأخوَّة الإيمانيَّة، والمحبَّة الدينيَّة؛ كما قال تعالى: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ، وكما قال تعالى: فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا.
(1) في (ع): لدينا.
(2)
ساقط من (م).
وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ فِي الكُفرِ بَعدَ أَن أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُقذَفَ فِي النَّارِ.
رواه أحمد (3/ 103 و 174 و 230)، والبخاري (16)، ومسلم (43)، والترمذي (2626)، والنسائي (8/ 96)، وابن ماجه (4033).
* * *
ــ
وقد أفاد هذا الحديثُ: أنَّ محبَّةَ المؤمنِ الموصِّلَةَ لحلاوة (1) الإيمان لا بدَّ أن تكونَ خالصةً لله تعالى، غيرَ مشوبةٍ بالأَغراض الدنيويَّة، ولا الحظوظِ البشريَّة؛ فإنَّ مَن أحبَّه لذلك، انقطعَت محبَّته إن حصَلَ له ذلك الغرَضُ أو يئِسَ مِن حصوله.
ومحبَّةُ المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة (2) على الدوام، وُجِدَتِ الأغراضُ أو عُدِمَت، ولمَّا كانتِ المحبَّةُ للأغراضِ هي الغالبة، قَلَّ وِجدانُ تلك الحلاوة، بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد امَّحَى فيها أكثَرُ رسومِ الإيمان. وعلى الجملة: فمحبَّةُ المؤمنين من العبادات، التي لا بُدَّ فيها من الإخلاصِ في حُسنِ النيَّات.
و(قوله: وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ فِي الكُفرِ كَمَا يَكرَهُ أَن يُقذَفَ فِي النَّارِ) معنى يُقذَفَ: يُرمَى، والقذفُ: الرمي. وهذه الكراهةُ مُوحيَةٌ؛ لما انكشَفَ للمؤمن من محاسن الإسلام، ولِمَا دخَلَ قلبَهُ من نور الإيمان، ولِمَا خلّصه الله مِن رذائلِ الجهالاتِ وقُبحِ الكفران، والحمدُ لله.
* * *
(1) في (ع): الموصولة بحلاوة.
(2)
في (م): فعلية.