الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَتَضَمَّنُ التَّعْزِيَةُ كَلَامًا يُوَجَّهُ إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً وَيُقْصَدُ بِهِ تَصْبِيرُهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، تَتَضَمَّنُ النِّيَاحَةُ كَلَامًا يُجَدِّدُ الأَْحْزَانَ وَيُوحِي بِالتَّبَرُّمِ مِنَ الأَْقْدَارِ، لِذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، حَتَّى كَانَ حُكْمُ التَّعْزِيَةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَحُكْمُ النِّيَاحَةِ التَّحْرِيمُ (1) .
د -
النَّعْيُ:
5 -
النَّعْيُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الإِْخْبَارُ بِالْمَوْتِ (2) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّعْيِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ النَّعْيَ مُخْتَلِفٌ عَنِ النِّيَاحَةِ لأَِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ نِيَاحَةً، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ النَّعْيُ بِكَلَامٍ فِيهِ نِيَاحَةٌ أَوْ بِأُسْلُوبِهَا، فَيَكُونُ نَعْيًا وَنِيَاحَةً فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا الشَّرْعِيُّ وَاحِدًا، وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 -
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَيَقْصِدُونَ بِهَا الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ لأَِنَّهُمْ عَدُّوهَا مِنَ الْمَعَاصِي
(1) المهذب 1 / 138، 139، والقوانين الفقهية ص 95.
(2)
المصباح، والنظم المستعذب 1 / 132، وقواعد الفقه للبركتي.
الَّتِي لَا تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) } ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} هُوَ النَّوْحُ (3) . فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 34، وبدائع الصنائع 1 / 310، و 4 / 189، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، وتقريرات الشيخ عليش 1 / 421، وشرح الخرشي 1 / 133، والمنهاج ومغني المحتاج 2 / 43، والمجموع 5 / 281، والإنصاف 3 / 568، ومطالب أولي النهى 1 / 925.
(2)
سورة الممتحنة / 12.
(3)
أحكام القرآن للجصاص 3 / 589، وتفسير القرطبي 12 / 72، وتفسير الماوردي 4 / 229.
(4)
حديث أم عطية: " أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 176 ط السلفية) ومسلم (2 / 645 ط الحلبي) .
النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ (1) ، وَالْمَقْصُودُ كُفْرُ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَ الاِسْتِحْلَال، وَإِلَاّ فَهُوَ رِدَّةٌ، وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ بِلَا شَكٍّ.
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَمَزَامِيرُ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشُ وُجُوهٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ (2) .
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَال: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَتَقُول: وَاجَبَلَاهُ، وَاكَذَا وَاكَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَال ابْنُ رَوَاحَةَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَاّ وَقَدْ قِيل لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ (3) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَال: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْل مَوْتِهَا تُقَامُ
(1) حديث: " اثنتان في الناس هما بهم كفر. . . " أخرجه مسلم (1 / 82 ط الحلبي) .
(2)
حديث: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 138 ط دار صادر) والترمذي (3 / 328 ط الحلبي) واللفظ لابن سعد وقال الترمذي: حسن.
(3)
حديث النعمان بن بشير: " أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فجعلت أخته تبكي: واجبلاه. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3 / 529 ط بيروت) .
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ (1) .
وَمِنْهَا مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ قَتْل ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شِقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. . . . وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ. فَذَهَبَ الرَّجُل، ثُمَّ أَتَى، فَقَال: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَال: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي (أَوْ: غَلَبْنَنَا) الشَّكُّ مِنْ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - فَزَعَمْتُ (2) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ "، فَقُلْتُ (3) : أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، مَا تَرَكْتَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ (4) . قَال الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُنَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَسُدَّ أَفْوَاهَهُنَّ
(1) حديث: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها. . . " أخرجه مسلم (2 / 644 ط عيسى الحلبي) في حديث أبي مالك الأشعري.
(2)
الزعم قد يطلق على القول المحقق وهو المراد هنا (فتح الباري 3 / 130) .
(3)
القائل هو عائشة رضي الله عنها
(4)
حديث: " فاحث في أفواههن التراب. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 176 ط السلفية) ومسلم (2 / 644 - 645 ط عيسى الحلبي) .
بِذَلِكَ، وَخَصَّ الأَْفْوَاهَ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا مَحَل النَّوْحِ. . . ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي بُكَائِهِنَّ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ بِدَلِيل أَنَّهُ كَرَّرَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِنَّ إِنْ لَمْ يَسْكُتْنَ (1) .
قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الأَْحَادِيثُ جَاءَتْ فِي تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ مُطْلَقًا، وَبَيَانِ عَظِيمِ قُبْحِهَا، وَالاِهْتِمَامِ بِإِنْكَارِهَا؛ لأَِنَّهَا مُهَيِّجَةٌ لِلْحُزْنِ وَرَافِعَةٌ لِلصَّبْرِ، وَفِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ وَالإِْذْعَانِ لأَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ، فَقَال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (2) } . وَهَذَا يَتَنَاوَل كُل مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّيَاحَةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ أَوْ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ (3) . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى النَّائِحَةِ أَشَدَّ الإِْنْكَارِ، فَقَدْ رُوِيَ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سَمِعَ نُوَاحَةً بِالْمَدِينَةِ لَيْلاً،
(1) فتح الباري 3 / 130، 131.
(2)
سورة البقرة / 153.
(3)
شرح النووي على مسلم 6 / 238، ودليل الفالحين 8 / 147، 149، والكبائر للذهبي ص 184، 185، ونيل الأوطار 4 / 160، 161، وكشاف القناع 2 / 163، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص 106، 107، ومطالب أولي النهى 1 / 925.
فَأَتَى عَلَيْهَا فَدَخَل فَفَرَّقَ النِّسَاءَ، فَأَدْرَكَ النَّائِحَةَ، فَجَعَل يَضْرِبُهَا بِالدِّرَّةِ فَوَقَعَ خِمَارُهَا، فَقَالُوا: شَعْرُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: أَجَل فَلَا حُرْمَةَ لَهَا (1) ".
7 -
ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ النِّيَاحَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَتْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ يَحْسُنُ ذِكْرُهَا:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النِّيَاحَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْبُكَاءُ، بِمَعْنَى إِرْسَال الدُّمُوعِ إِذَا صَاحَبَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ أَوِ الْقَوْل الْقَبِيحُ، كَقَوْل النَّائِحَةِ: يَا قَتَّال الأَْعْدَاءِ، وَيَا نَهَّابَ الأَْمْوَال، وَمَا يَقُولُهُ النِّسَاءُ مِنَ التَّعْدِيدِ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، بَل جَائِزًا، إِلَاّ إِذَا اجْتَمَعَتِ النِّسَاءُ لِغَرَضِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِرَفْعِ صَوْتٍ وَلَا قَوْلٍ قَبِيحٍ (2) .
ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ
(1) أثر عمر: " سمع نواحة في المدينة. . . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3 / 557 - 558 ط المجلس الأعلى) .
(2)
حاشية الدسوقي 1 / 421، 422، وشرح الخرشي 2 / 133.
عَلَى الْمَرِيضِ قَبْل مَوْتِهِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ، فَهُوَ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ (1) . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَال: غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا الْوُجُوبُ؟ قَال: إِذَا مَاتَ (2)، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ إِبَاحَةُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ عِنْدَ حُضُورِ وَفَاتِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، وَتَسْكِيتُ جَابِرٍ لَهُنَّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ النَّهْيَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَوْتَى، فَاسْتَعْمَل ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى قَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ،
(1) الاستذكار 8 / 312، والخرشي وحاشية العدوي 1 / 133، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 347.
(2)
حديث: " جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به فلم يجبه. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 233 ط عيسى الحلبي) والحاكم (1 / 352 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
يُرِيدُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ بَاكِيَةٌ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ (1) .
وَلَمْ تُفَصِّل طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل، وَإِنَّمَا عَمَّمُوا حُكْمَ التَّحْرِيمِ عَلَى كُل بُكَاءٍ اقْتَرَنَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَمْ بَعْدَهُ، وَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ بِأَنَّ صِيَاحَ النِّسَاءِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ مُقْتَرِنًا بِأَيٍّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرْجَاعًا مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ قَبِيحٍ وَلَا نِيَاحَةٍ (2) .
وَذَهَبَ سَنَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِمُحَرَّمٍ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إِلَاّ إِذَا اتُّخِذَتْ صَنْعَةً فَتَكُونُ حَرَامًا.
وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ النُّوَاحَ يَكُونُ حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا تَضَمَّنَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَدَرِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مِمَّا يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْل الْمَيِّتِ.
وَلَيْسَ مِنْ قَبِيحِ النِّيَاحَةِ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ وَأَمْرُ أَهْلِهِ بِالصَّبْرِ وَالاِحْتِسَابِ، وَالْحَثُّ عَلَى
(1) الاستذكار 8 / 312.
(2)
المنتقى 2 / 25، وحاشية الدسوقي 1 / 422، ومواهب الجليل 3 / 56، 57.