الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَال: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ؛ لأَِنَّ فِي الإِْبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَإِلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ (1) } فَيُؤَثِّرُ فِي الإِْبْرَاءِ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَكَذَا الْهَزْل يُؤَثِّرُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ (2) .
و إِبْرَاءُ الْكَفِيل هَزْلاً:
41 -
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيل هَازِلاً لَا يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيل عَلَى عَيْنٍ، وَهَلَكَتِ الْعَيْنُ، أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَتَعُودُ الْكَفَالَةُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْمَل فِيهِ الْهَزْل فَيَمْنَعُهُ مِنَ الثُّبُوتِ، كَالْخِيَارِ (3) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْهَزْل فِي الإِْخْبَارَاتِ:
42 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْهَزْل يُبْطِل الإِْخْبَارَاتِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
(1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 280.
(2)
كَشْف الأَْسْرَار للبزدوي 4 / 598.
(3)
كَشْف الأَْسْرَارِ للبزدوي 4 / 599 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْخْبَارَاتِ يُبْطِلُهَا الْهَزْل، سَوَاءٌ كَانَتْ إِخْبَارًا عَمَّا يَحْتَمِل الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ إِخْبَارًا شَرْعًا وَلُغَةً كَمَا إِذَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِأَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا، أَوْ بِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ بِكَذَا، أَوْ كَانَتْ إِخْبَارًا لُغَةً فَقَطْ، كَمَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ كَذَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْخْبَارَ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ الْحُكْمُ الَّذِي صَارَ الْخَبَرُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِعْلَامًا بِثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالْهَزْل يُنَافِي ذَلِكَ وَيَدُل عَلَى عَدَمِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْطُل الإِْقْرَارُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا، كَذَلِكَ يَبْطُل الإِْقْرَارُ بِهِمَا هَازِلاً؛ لأَِنَّ الْهَزْل دَلِيل الْكَذِبِ كَالإِْكْرَاهِ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهَزْل بِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لأََنَّ الإِْجَازَةَ إِنَّمَا تَلْحَقُ شَيْئًا مُنْعَقِدًا يَحْتَمِل الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ، وَبِالإِْجَازَةِ لَا يَصِيرُ الْكَذِبُ صِدْقًا، وَهَذَا بِخِلَافِ إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَحْتَمِل الْفَسْخَ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ فِيهِ لِلْهَزْل عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَال: أَقْرَرْتُ بِكَذَا وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَيْثُ قَالَهُ نَسَقًا
(1) شَرْح التَّلْوِيح عَلَى التَّوْضِيحِ 2 / 191، وفواتح الرَّحَمُوت 1 / 163، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 2 / 4، وفتح الْقَدِير 3 / 345، وتكملة حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 81، والفتاوى الْخَيْرِيَّة 2 / 94.
(أَيْ بِدُونِ فَصْلٍ فِي الْكَلَامِ)، وَلَمْ تُكَذِّبْهُ الْبَيِّنَةُ. وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا قَال: أَقْرَرْتُ بِكَذَا قَبْل أَنْ أُخْلَقَ حَيْثُ قَالَهُ نَسَقًا؛ لأَِنَّ هَذَا خَارِجٌ مَخْرَجَ الاِسْتِهْزَاءِ؛ فَلَوْ قَال: أَقْرَرْتُ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْرِ أَكُنْتُ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ بَالِغٌ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْبُلُوغِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَال: لَا أَدْرِي أَكُنْتُ عَاقِلاً أَمْ لَا فَيَلْزَمُهُ، لأَِنَّ الأَْصْل الْعَقْل حَتَّى يَثْبُتَ انْتِفَاؤُهُ (1) .
وَجَاءَ فِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ اعْتِذَارًا: سُمِعَ أَشْهَبُ: مَنِ اشْتَرَى مَالاً فَسَأَل الإِْقَالَةَ، فَقَال: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى أَبِي، ثُمَّ مَاتَ الأَْبُ، فَلَا شَيْءَ لِلاِبْنِ بِهَذَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ ظَاهِرَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَازَمَهُ، وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ الآْنَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهُ.
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: وَإِنْ سُئِل كِرَاءَ مَنْزِلِهِ، فَقَال: هُوَ لاِبْنَتِي ثُمَّ مَاتَ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِهَذَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فِي حِجْرِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُعْتَذَرُ بِمِثْل هَذَا مَنْ يُرِيدُ مَنْعَهُ.
وَسُمِعَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ: لَوْ سَأَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً، فَقَال: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَال لِثَانٍ وَثَالِثٍ ذَلِكَ الْقَوْل عِنْدَمَا سَأَلَاهُ، فَقَامَتِ
(1) الشَّرْح الصَّغِير 3 / 532، والدسوقي 3 / 404.
امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ، فَقَال: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِهَذَا.
وَقَدْ يَقُول الرَّجُل لِلسُّلْطَانِ فِي الأَْمَةِ: وَلَدَتْ مِنِّي، وَفِي الْعَبْدِ هُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِئَلَاّ يَأْخُذَهُمَا السُّلْطَانُ فَلَا يَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ فِيهِ. أَيْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الإِْقْرَارِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْهَزْل لَا يُبْطِل الإِْقْرَارَ:
فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى الْخَطِيبِ: أَنَّ الأُْمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الإِْقْرَارِ وَلَوْ هَازِلاً أَوْ لَاعِبًا أَوْ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ (2) .
وَجَاءَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ: لَا يَصِحُّ الإِْقْرَارُ إِلَاّ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ وَلَوْ كَانَ الْمُقِرُّ هَازِلاً (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ مِنَ الإِْقْرَارِ وَمَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ - سَوَاءٌ
(1) التَّاج وَالإِْكْلِيل هَامِش مَوَاهِبَ الْجَلِيل 5 / 246، 227، وتبصرة الْحُكَّام 2 / 56، والشرح الصَّغِير 3 / 532، والدسوقي 3 / 404.
(2)
حَاشِيَة البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 3 / 119 ط دَار الْمَعْرِفَة بَيْرُوت.
(3)
نَيْل الْمَآرِب شَرْح دَلِيل الطَّالِبِ لاِبْن أَبِي تَغْلِبَ 2 / 496، وانظر مَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل لإِِبْرَاهِيمَ ابْن ضَوَيَانَ 2 / 506.