الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ (1) .
الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ:
10 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ، فَالْهِجْرَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِئَلَاّ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ، وَلِيَتَخَلَّصَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَلأَِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيل إِلَيْهِمْ أَوْ يَكِيدُوا لَهُ، وَلِيُكَثِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعِينَهُمْ بِهِجْرَتِهِ إِلَيْهِمْ (2) . أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فَلإِِمْكَانِهِ إِقَامَةَ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ (3) . قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ
(1) الْمُبْدِع لاِبْن مُفْلِح 3 / 314، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 8 / 456 ط الرِّيَاض
(2)
رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 / 282، والمهذب 2 / 228، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، وكشاف الْقِنَاع 3 / 38، والمبدع 3 / 314، والمحرر 2 / 170، والهداية لأَِبِي الْخَطَّاب 1 / 112، ومجموع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 240، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 77 وَمَا بَعْدَهَا، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204
(3)
الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 8 / 457 ط الرِّيَاض، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 269
فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا؛ لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ؛ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ، رضي الله عنه؛ إِذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ (1) . وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ لَا يَأْمَنُ عَلَى دِينِهِ فِي دَارِهِمْ (2) .
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِمْ بِالاِسْتِحْبَابِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ:
الأُْولَى: أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ رَجَا ظُهُورَ الإِْسْلَامِ بِمُقَامِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَانَ مُقَامُهُ فِيهَا أَفْضَل.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَالاِعْتِزَال، وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ فِي دَارِ الْكُفْرِ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَهُ فِيهَا دَارُ إِسْلَامٍ، فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ الْحَرْبِ، وَيَحْرُمُ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَال الْكُفَّارِ أَوْ دُعَائِهِمْ إِلَى الإِْسْلَامِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِلَاّ فَلَا (3) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ عَاجِزًا عَنْ إِظْهَارِ دِينِهِ
(1) الأُْمّ 4 / 84، وأحكام الْقُرْآن لِلشَّافِعِيِّ 2 / 17، 18
(2)
فَتْح الْبَارِي 6 / 39 ط السَّلَفِيَّة
(3)
تُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 269، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 78، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 282، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204
فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الإِْقَامَةُ فِيهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِْسْلَامِ إِنِ اسْتَطَاعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَعْذُورٌ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (2) } ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ (3) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَال: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا (4) أَيْ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ
(1) الْمُهَذَّب 2 / 227، وكشاف الْقِنَاع 3 / 38، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، والمبدع 3 / 313 وَمَا بَعْدَهَا، والمحرر 2 / 170، ومختصر الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّة لاِبْن تَيْمِيَّةَ ص 505، والهداية لأَِبِي الْخَطَّاب 1 / 112، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 282، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 78، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 269
(2)
سُورَة النِّسَاء / 97
(3)
الْمُغْنِي 8 / 457 ط الرِّيَاض
(4)
حَدِيث: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِم يُقِيمُ بَيْن أَظْهَرَ الْمُشْرِكِينَ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 104 ط حِمْص) ، والترمذي (4 / 155 ط الْحَلَبِيّ)
وَيَرَوْنَ نَارَهُ إِذَا أُوقِدَتْ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَاّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ عز وجل: {إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (1) } .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حَالَةً أُخْرَى لِهِجْرَةٍ لَا تُوصَفُ بِوُجُوبٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ، كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ أَوْ ضَعْفٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشَبَهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْخَطَّابِيِّ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْهِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، بَل هِيَ مَنْدُوبَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ مِنْ أَرْضٍ يُهْجَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ، وَيَشِيعُ
(1) سُورَة النِّسَاء / 98، 99
(2)
الْمُغْنِي 8 / 457، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204
بِهِ الْمُنْكَرُ أَوْ مِنْ أَرْضٍ أَصَابَ فِيهِ الذَّنْبَ وَارْتَكَبَ الأَْمْرَ الْفَظِيعَ (1) .
قَال الْمُلَاّ الْقَارِيُّ: إِنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الأَْعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ، إِلَاّ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ أَوْ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دِيَارِ الْكُفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوِ الْجَهْل أَوْ مِنَ الْفِتَنِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ (2) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: اسْتَثْنَى فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ نَسْخِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ مَا إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِْسْلَامِ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الذَّهَابَ فِي الأَْرْضِ قِسْمَيْنِ: هَرَبًا وَطَلَبًا.
فَالأَْوَّل يَنْقَسِمُ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: الْهِجْرَةُ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلَامِ، وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ
(1) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182، والبحر الرَّائِق 1 / 368، والمبسوط لِلسَّرَخْسِيِّ 10 / 6، وشرح السِّيَر الْكَبِير 1 / 94 ط مَطْبَعَة الإِْعْلَانَات الشَّرْقِيَّة، ومعالم السُّنَن لِلْخَطَّابِيِّ 3 / 352، والفروع لاِبْن مُفْلِح 6 / 182
(2)
مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182
(3)
الْبَحْر الرَّائِق 1 / 368
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَصَى، وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ.
الثَّانِي: الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُول: لَا يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِأَرْضٍ يُسَبُّ فِيهَا السَّلَفُ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُغَيِّرَهُ فَزُل عَنْهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (1) } .
الثَّالِثُ: الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْحَرَامُ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلَال فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ.
الرَّابِعُ: الْفِرَارُ مِنَ الأَْذِيَّةِ فِي الْبَدَنِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرْخَصَ فِيهِ، فَإِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ. وَأَوَّل مَنْ فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، فَإِنَّهُ لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي (2) } . وَقَال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (3) } ، وَقَال مُخْبِرًا
(1) سُورَة الإِْنْعَام / 68
(2)
سُورَة الْعَنْكَبُوتِ / 26
(3)
سُورَة الصَّافَّات / 99
عَنْ مُوسَى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ (1) } .
الْخَامِسُ: خَوْفُ الْمَرَضِ فِي الْبِلَادِ الْوَخِمَةِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَى الأَْرْضِ النَّزِهَةِ. وَقَدْ أَذِنَ صلى الله عليه وسلم لِلرُّعَاةِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمَسْرَحِ فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا (2) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم (3) وَهُوَ مَكْرُوهٌ.
السَّادِسُ: الْفِرَارُ خَوْفَ الأَْذِيَّةِ فِي الْمَال، فَإِنَّ حُرْمَةَ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَالأَْهْل مِثْلُهُ وَأَوْكَدُ.
وَقَالُوا: وَلَا يُسْقِطُ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الْوَاجِبَةَ إِلَاّ تَصَوُّرُ الْعَجْزِ عَنْهَا بِكُل وَجْهٍ وَحَالٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (4) } .
(1) سُورَة الْقَصَصِ / 21
(2)
حَدِيث: " أَذِنَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لِلرُّعَاةِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَة. . . "
(3)
حَدِيث: " الْمَنْع مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعُونِ ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 6 / 513 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (4 / 1738 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أُسَامَة بْن زَيْد رضي الله عنه
(4)
سُورَة النِّسَاء / 98 - 99
قَالُوا: فَهَذَا الاِسْتِضْعَافُ الْمَعْفُوُّ عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهِ غَيْرُ الاِسْتِضْعَافِ الْمُعْتَذَرِ بِهِ فِي أَوَّل الآْيَةِ وَصَدْرِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (1) } ، وَهُوَ قَوْل الظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ:{كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ} فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَل قَوْلَهُمْ فِي الاِعْتِذَارِ بِهِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَعَفَا عَنِ الاِسْتِضْعَافِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مَعَهُ حِيلَةٌ وَلَا يُهْتَدَى بِهِ سَبِيلٌ بِقَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. فَالْمُسْتَضْعَفُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْهِجْرَةِ هُوَ الْعَاجِزُ مِنْ كُل وَجْهٍ. فَإِذَا عَجَزَ الْمُبْتَلَى بِهَذِهِ الإِْقَامَةِ عَنِ الْفِرَارِ بِدِينِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ سَبِيلاً إِلَيْهَا، وَلَا ظَهَرَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ، أَوْ كَانَ بِمَثَابَةِ الْمُقْعَدِ أَوِ الْمَأْسُورِ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا جِدًّا، أَوْ ضَعِيفًا جِدًّا، فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى التَّلَفُّظِ بِالْكُفْرِ، وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ قَائِمَةٌ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ وَتَمَكَّنَ لَهَاجَرَ، وَعَزْمٌ صَادِقٌ مُسْتَصْحَبٌ أَنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِمَكِنَةٍ وَقْتًا
(1) سُورَة النِّسَاء / 97
مَا فِيهَا هَاجَرَ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَبِأَيِّ حِيلَةٍ تَمَكَّنَ مِنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إِنْ أَقَامَ (1) .
وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا.
فَأَمَّا طَلَبُ الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ إِلَى تِسْعِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: سَفَرُ الْعِبْرَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (2) } وَهُوَ كَثِيرٌ. وَيُقَال: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّمَا طَافَ الأَْرْضَ لِيَرَى عَجَائِبَهَا. وَقِيل: لِيُنَفِّذَ الْحَقَّ فِيهَا.
الثَّانِي: سَفَرُ الْحَجِّ. وَالأَْوَّل وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ.
الثَّالِثُ: سَفَرُ الْجِهَادِ وَلَهُ أَحْكَامُهُ.
الرَّابِعُ: سَفَرُ الْمَعَاشِ، فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُل مَعَاشُهُ مَعَ الإِْقَامَةِ فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، مِنْ صَيْدٍ أَوِ احْتِطَابٍ أَوِ احْتِشَاشٍ، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ.
(1) الْمِعْيَارَ الْمُعَرَّب للونشريسي (ط دَار الْغَرْبِ الإِْسْلَامِيّ) 2 / 121 وَمَا بَعْدَهَا، وانظر فَتْح الْعَلِيّ الْمَالِك لعليش 1 / 375
(2)
سُورَة الرُّومِ / 9
الْخَامِسُ: سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِفَضْل اللَّهِ سبحانه وتعالى، قَال اللَّهُ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (1) } يَعْنِي التِّجَارَةَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ.
السَّادِسُ: فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
السَّابِعُ: قَصْدُ الْبِقَاعِ، قَال صلى الله عليه وسلم: لَا تُشَدُّ الرِّحَال إِلَاّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ (2) .
الثَّامِنُ: الثُّغُورُ لِلرِّبَاطِ بِهَا وَتَكْثِيرِ سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا.
التَّاسِعُ: زِيَارَةُ الإِْخْوَانِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَال: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَال: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَال: هَل لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَال: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عز وجل. قَال: فَإِنِّي رَسُول
(1) سُورَة الْبَقَرَة / 198
(2)
حَدِيث: " لَا تُشَدُّ الرِّحَال إِلَاّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 3 / 63 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (2 / 1014 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ