الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَبْتُكَ سَاعَتِي. فَإِنَّ الْهِبَةَ تَكُونُ مُعَلَّقَةً عَلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ.
وَالْعَقْدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ يَجِبُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ التَّصَرُّفُ قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ لَاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِذَا كَانَ مَا عُلِّقَتِ الْهِبَةُ عَلَيْهِ وَقْتًا مُسْتَقْبَلاً، كَرَأْسِ الشَّهْرِ الآْتِي، أَوِ الأُْسْبُوعِ الْقَادِمِ، كَانَتِ الْهِبَةُ مُضَافَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَل.
وَلَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ، وَإِنَّ مُقْتَضَى التَّمْلِيكِ هُوَ الْجَزْمُ وَالتَّنْجِيزُ؛ لِذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ تَعْلِيقَ الْهِبَةِ أَوْ إِضَافَتَهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَال، وَالتَّعْلِيقُ وَالإِْضَافَةُ تُنَافِيهِ (1) .
أَمَّا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ - كَمَا ضَبَطَهُ الْقَرَافِيُّ - أَنَّ التَّمْلِيكَاتِ لَا تَقْبَل التَّعْلِيقَ لأَِنَّ طَرِيقَهَا الْجَزْمُ - إِلَاّ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ فِي التَّبَرُّعَاتِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ لَهُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ عَلَى
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 118، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح 6 / 264، وَالإِْنْصَاف 7 / 133، وَمَنْهَج الطُّلَاّبِ مَعَ البجيرمي 3 / 216، وَشَرْح مَنْهَجِ الطُّلَاّبِ عَلَى حَاشِيَة الْجَمَل 3 / 595، وَالْغَايَة الْقُصْوَى 2 / 651.
الْمَشْهُورِ أَوْ لَمْ يَدْخُل عَلَى قَوْل أَصْبَغَ - فَإِنَّهُ يَكُونُ لَازِمًا وَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْوَاعِدِ.
وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا اشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله: أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ إِلَاّ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ (1) .
اقْتِرَانُ الشُّرُوطِ بِصِيغَةِ الْهِبَةِ:
31 -
الشَّرْطُ الْمُقْتَرِنُ بِالْهِبَةِ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ.
فَالشَّرْطُ الصَّحِيحُ هُوَ مَا كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُقْتَضَاهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لأَِحْكَامِهَا، كَمَا لَوْ قَال الْوَاهِبُ: وَهَبْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ فَاقْبَل فَوْرًا وَاقْبِضْهُ. أَوْ يَشْتَرِطُ فِيهَا الْعِوَضَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ شَرْطُ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ (2) .
أَمَّا الشَّرْطُ غَيْرُ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ الشَّرْطُ الَّذِي يُخَالِفُ أَحْكَامَ الْهِبَةِ وَمُقْتَضَاهَا، كَمَا لَوْ قَال: وَهَبْتُكَ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَهَبَهُ وَلَا تَبِيعَهُ لأَِحَدٍ، أَوْ وَهَبْتُكَهُ بِشَرْطِ أَنْ تُعِيدَهُ لِي بَعْدَ شَهْرٍ.
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
(1) الْفُرُوق 1 / 228، وَفَتْح الْعَلِيّ الْمَالِك لعليش 1 / 254، وَالْخَرَشِيّ 6 / 126.
(2)
كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 300 وَمَا بَعْدَهَا.
قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ (1) .
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أَمَّ وَلَدٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلَانٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ - جَازَتِ الْهِبَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِمَّا لَمْ تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَال، وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُل وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ شُرُوطِ الرُّقْبَى، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تُبْطِلُهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ مَا مُفْسِدًا لَهُ؛ لأَِنَّ ذِكْرَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِلَاّ أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ - وَلَا نَهْيَ فِي الْهِبَةِ - فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الأَْصْل؛ وَلأَِنَّ دَلَائِل شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (2) } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ فِي أَكْل الْمَهْرِ، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: تَهَادُوا تَحَابُّوا (3) وَهَذَا نَدْبٌ إِلَى
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 117، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 398، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 371 - 372، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 256، وَالإِْنْصَافِ 7 / 133.
(2)
سُورَة النِّسَاء / 4.
(3)
حَدِيث: " تَهَادَوْا تُحَابُوا ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 5.
التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي الله عنها:" إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكَ كَذَا وَكَذَا "، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال:" مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهَا "، وَنَحْوِهِ مِنَ الدَّلَائِل الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قُرِنَ بِهَا شَرْطٌ فَاسِدٌ أَوْ لَمْ يُقْرَنْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إِذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ فِي الأُْمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا، وَالاِسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ، وَالْكُل لِلْمَوْهُوبِ لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ (2) وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ قَوْلَهُ: حَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فِيهَا مِنْ سَمَاعِ عِيسَى خَمْسَةَ أَقْوَالٍ:
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 117.
(2)
مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 50، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 398، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 1 37 - 372، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 256.