الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَدُل عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالإِْرَادَةِ لَا يَكْفِي، فَفِي حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ: وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ بِهَا قَلَبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا (1) . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ، فَقَال بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ: الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ، ثُمَّ قَال: وَيُحْتَمَل أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْفَضْل.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ، فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاءِ قَصْدِ الَّذِي هَمَّ بِفِعْل الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتِ النِّيَّةُ عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنَ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ إِلَاّ إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الإِْعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً، وَالرَّغْبَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَل فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلاً، فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الأَْخِيرِ أَنْ لَا تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةٌ أَصْلاً، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الاِحْتِمَال (2) .
(1) حَدِيث خَرِيم بْن فَاتَك: " مِنْ هُمْ بِحَسَنَة. . . . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (4 / 346 - ط الميمنية) .
(2)
فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ (11 / 324، 325) ، وانظر صَحِيح ابْن حِبَّانَ (2 / 107 - الإِْحْسَان - ط الرِّسَالَة) .
ب - حُكْمُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ:
7 -
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، إِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَهَا لأَِجْل اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (1) .
وَهَل يُثَابُ التَّارِكُ عَنِ السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ أَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَقَال بَعْضُهُمْ: يُثَابُ عَلَيْهِ لِمُجَرَّدِ تَرْكِ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ السَّيِّئَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ لِخَوْفٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لِعَجْزٍ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهِ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ، كَمَنْ يَمْشِي مَثَلاً إِلَى امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجِدُ الْبَابَ مُغْلَقًا وَيَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فَتْحُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزِّنَا فَلَمْ يَنْتَشِرْ، أَوْ طَرَقَهُ مَا يَخَافُ مِنْ أَذَاهُ عَاجِلاً، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عز وجل فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ
(1) فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 11 / 325 وَمَا بَعْدَهَا، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61، 62 وَالْحَدِيث سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف (6) .
حَسَنَةً كَامِلَةً. . . الْحَدِيثَ " (1) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: " حَسَنَةً كَامِلَةً " الْمُرَادُ بِالْكَمَال عِظَمُ الْقَدْرِ، لَا التَّضْعِيفُ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَظَاهِرُ الإِْطْلَاقِ كِتَابَةُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلأَِنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ كَفٌّ عَنِ الشَّرِّ وَالْكَفُّ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ (2)، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى كُل مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ. . . ثُمَّ ذَكَرَ خِصَالاً، ثُمَّ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَل، قَال: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ تَرَكَ مَا هَمَّ بِهِ مِنْ سَيِّئَةٍ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضَائِهِ، فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ السَّيِّئَةَ مُكْرَهًا عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا فَلَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
- قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَال: ارْقُبُوهُ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ
(1) حَدِيث: " مِنْ هُمْ بِسَيِّئَة. . . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 6.
(2)
فَتْح الْبَارِي 11 / 323، 329، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61.
(3)
حَدِيث: " عَلَى كُل مُسْلِم صَدَقَة. . . " أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 10 / 447 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (2 / 699 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رضي الله عنه.
بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرْكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ (1) .
- قَوْل اللَّهِ عز وجل فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: مَحَل كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ عَلَى التَّرْكِ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ قَدْ قَدَرَ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ تَرَكَهُ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لَا يُسَمَّى تَارِكًا إِلَاّ مَعَ الْقُدْرَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَاّنِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْهَمَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي لَا يُكْتَبُ هُوَ الْمُجَرَّدُ الْوَارِدُ عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَمُرُّ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلَا عَقْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَإِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ مَثَلاً مِنْ غَيْرِ مُصَاحَبَةِ عَزْمٍ وَلَا تَصْمِيمٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ فِي
(1) حَدِيث: (قَالَتِ الْمَلَائِكَة: رَبُّ ذَاكَ عَبْدك. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 118 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2)
حَدِيث: " إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَة فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ. . . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 13 / 465 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(3)
فَتْح الْبَارِي 11 / 326 - 329، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61.