الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاِدِّخَارُ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ:
31 -
لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الاِدِّخَارِ مِنْ لَحْمِ مَا يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ مِنَ الْهَدَايَا (1) . لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْل لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَال: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا (2) .
الْقَدْرُ الْمُدَّخَرُ:
32 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَل بِهِ كَمَا يَفْعَل بِالأُْضْحِيَةِ. فَيَأْكُل وَيَدَّخِرُ بِالثُّلُثِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ وَيُطْعِمُ الأَْغْنِيَاءَ بِالثُّلُثِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا أُبِيحَ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنْهُ فَلَهُ أَكْلُهُ جَمِيعُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ. قَال فِي الطِّرَازِ: وَهُوَ أَحْسَنُ، إِلَاّ أَنَّهُ لَا يَدَعُ الأَْكْل وَالصَّدَقَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ (3) } .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُل وَيَدَّخِرَ النِّصْفَ، وَيَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ عَلَى
(1) الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76، والحاوي الْكَبِير 5 / 499 - 500، وكشاف الْقِنَاع 3 / 19.
(2)
حَدِيث: " جَابِر بْن عَبْد اللَّه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْل لُحُومِ الضَّحَايَا. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1562 - ط الْحَلَبِيّ) .
(3)
سُورَةُ الْحَجِّ / 36.
الْمَسَاكِينِ، وَقَالُوا: وَالأَْفْضَل وَالأَْحْسَنُ. أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ إِلَاّ لُقَيْمَاتٍ يَأْكُلُهَا تَبَرُّكًا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ كَالأُْضْحِيَةِ وَلَهُ التَّزَوُّدُ وَالأَْكْل كَثِيرًا (1) .
عَطَبُ الْهَدْيِ
33 -
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ نَحَرَهُ صَاحِبُهُ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ؛ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لإِِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَهَذَا مِلْكُهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ وَلَمْ يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا، بَل يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَذَلِكَ أَفْضَل مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلسِّبَاعِ. هَكَذَا نُقِل عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدَبٍ الْخُزَاعِيِّ صَاحِبِ بُدْنِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْبُدْنِ؟ قَال: انْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَل بَيْنَ
(1) الْبَحْر الرَّائِق 4 / 76، والحاوي الْكَبِير 5 / 499 - 500، وكشاف الْقِنَاع 3 / 19، ومواهب الْجَلِيل 3 / 190.
النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَيَأْكُلُوهَا (1) وَمَقْصُودُهُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يَجْعَل عَلَيْهَا عَلَامَةً، يُعْلَمُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهَا هَدْيٌ، فَيَتَنَاوَل مِنْهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الأَْغْنِيَاءِ وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْهَا لأَِنَّهُ كَانَ غَنِيًّا مَعَ رُفْقَتِهِ، ثُمَّ الْمُتَطَوِّعُ بِالْهَدَايَا إِنَّمَا يَتَنَاوَل بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَالإِْذْنُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ قَال اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا (2) } ، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا لَا يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُل مِنْهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا، بَل يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا فَاتَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ تَعَيَّنَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ، وَذَلِكَ بِالصَّرْفِ إِلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الأَْغْنِيَاءِ، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ غَنِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ. وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا أَيْضًا كَمَا يَفْعَل ذَلِكَ إِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْهَدْيُ هَدْيَانِ: وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ، وَيَأْكُل مِنَ الْهَدْيِ كُلِّهِ
(1) حَدِيثُ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْخُزَاعِيِّ صَاحِبِ بَدْنِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ 3 / 244 - ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال حَدِيث حَسَن صَحِيح.
(2)
سُورَةُ الْحَجِّ / 36
(3)
الْمَبْسُوط 4 / 145.
وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إِلَاّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةَ الأَْذَى، وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ، وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ. وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ فَإِنَّهُ يَأْكُل مِنْهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ لأَِنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ، وَلَا بَدَل عَلَيْهِ فِي الْوَاجِبِ إِنْ عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ إِلَاّ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ، وَمَنْ أَكَل مِنْ هَدْيٍ لَا يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُبَدَّل الْهَدْيُ كُلُّهُ، وَالآْخَرُ: أَنَّهُ لَا يُبَدَّل إِلَاّ مِقْدَارُ مَا أَكَل مِنْهُ وَالأَْوَّل أَشْهَرُ عَنْ مَالِكٍ، وَالآْخَرُ اخْتِيَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ أَكَل مِنْ نَذْرِ الْمَسَاكِينِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَاّ مِقْدَارُ مَا أَكَل، وَإِنْ أَكَل مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ مِنْ فِدْيَةِ الأَْذَى جَزَاهُ كُلُّهُ وَأَتَى بِفِدْيَتِهِ كَامِلَةً.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ التَّطَوُّعَ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ، ثُمَّ يَضَعُ قِلَادَتَهُ فِي دَمِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ، وَلَا يَأْكُل مِنْهُ صَاحِبُهُ وَلَا يُطْعِمُ وَلَا يَتَصَدَّقُ، فَإِنْ أَكَل أَوْ أَطْعَمَ أَوْ تَصَدَّقَ فَالأَْشْهَرُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ أَكَل مِنْهُ شَيْئًا ضَمِنَهُ كُلَّهُ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِلَى أَنْ يُنْحَرَ، وَإِنْ كَانَ
(1) الْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ 1 / 349 - 350.
نَذْرًا زَال مِلْكُهُ عَنْهُ وَصَارَ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: أُهْدِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَجِيبًا، فَأُعْطِيَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُهْدِيتُ نَجِيبًا وَأُعْطِيتُ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا؟ قَال: " لَا، انْحَرْهَا إِيَّاهَا (1) .
وَإِنْ عَطِبَ وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَبِيصَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُول: إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ أَهَل مِنْ رُفْقَتِكَ (2) وَلأَِنَّهُ هَدْيٌ مَعْكُوفٌ عَنِ الْحَرَمِ فَوَجَبَ نَحْرُهُ مَكَانَهُ كَهَدْيِ الْمُحْصَرِ.
وَهَل يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى فُقَرَاءِ الرُّفْقَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَبِيصَةَ، وَلأَِنَّ فُقَرَاءَ الرُّفْقَةِ يُتَّهَمُونَ فِي سَبَبِ
(1) حَدِيث ابْن عُمَر: " أَهْدَى عُمَر بْن الْخَطَّابِ نَجِيبًا. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (18) .
(2)
حَدِيث أَبِي قَبِيصَةَ: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْهَدْي ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 963 - ط الْحَلَبِيّ) .
عَطَبِهَا فَلَمْ يَطْعَمُوا مِنْهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُمْ مِنْ أَهْل الصَّدَقَةِ فَجَازَ أَنْ يَطْعَمُوا كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ.
فَإِنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي تَرْكِهِ فَضَمِنَهُ كَالْمُودَعِ إِذَا رَأَى مَنْ يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى سَرَقَهَا؛ وَإِنْ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَال الْمَسَاكِينِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَيَضْمَنُهُ بِأَكْثَرِ الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ هَدْيٍ مِثْلِهِ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الإِْرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَقَدْ فَوَّتَ الْجَمِيعَ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُمَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئَيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مِثْل ثَمَنِ مِثْلِهِ اشْتَرَى مِثْلَهُ وَأَهْدَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَل لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِثْلَهُ وَيَهْدِيَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيَيْنِ اشْتَرَاهُمَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اشْتَرَى هَدْيًا.
وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ هَدْيٌ فَعَيَّنَهُ بِالنَّذْرِ فِي هَدْيٍ تَعَيَّنَ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ مُعَيَّنًا جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهِ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْبَيْعِ؛ وَيَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَلَا إِبْدَالَهُ، فَإِنْ هَلَكَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْوَاجِبُ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ عَطِبَ فَنَحَرَهُ عَادَ الْوَاجِبُ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ.
وَهَل يَعُودُ مَا نَحَرَهُ إِلَى مِلْكِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا نَحَرَهُ لِيَكُونَ
عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَعُودُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ.
ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ مِثْل الَّذِي عَادَ إِلَى مِلْكِهِ نَحَرَ مِثْلَهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُهْدِي مِثْل مَا نَحَرَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَصَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ زَائِدًا فَلَزِمَهُ نَحْرُ مِثْلِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُهْدِي مِثْل الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا عَيَّنَهُ وَقَدْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَسَقَطَ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ مَنْ سَاقَ هَدْيًا يَنْوِي بِهِ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِالْقَوْل فَهَذَا لَا يَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ إِلَاّ بِذَبْحِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَأَكْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ غَيْرِهِ بِهِ وَلَهُ نَمَاؤُهُ.
وَإِنْ عَطِبَ تَلِفَ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ تَعَيَّبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا، فَإِنَّ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إِلَاّ بِإِيصَالِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
أَمَّا إِذَا عُيِّنَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْقَوْل،
(1) الْمُهَذَّب 1 / 243 - 244.
كَأَنْ يَقُول: هَذَا الْوَاجِبُ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ لَتَعَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَعَيَّنَهُ فَكَذَلِكَ إِلَاّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَعَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ، وَإِنْ ذَبَحَهُ فَسُرِقَ أَوْ عَطِبَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَال أَحْمَدُ: إِذَا نَحَرَ فَلَمْ يَطْعَمْهُ حَتَّى سُرِقَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا نَحَرَ فَقَدْ فَرَغَ، وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ (1) .
أَمَّا مَنْ تَطَوَّعَ بِهَدْيٍ غَيْرِ وَاجِبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْل مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَهُ هَدْيًا، وَلَا يُوجِبُ بِلِسَانِهِ وَلَا بِإِشْعَارِهِ وَتَقْلِيدِهِ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إِمْضَاؤُهُ، وَلَهُ أَوْلَادُهُ وَنَمَاؤُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ مَا لَمْ يَذْبَحْهُ؛ لأَِنَّهُ نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ.
الثَّانِي: أَنْ يُوجِبَ بِلِسَانِهِ فَيَقُول: هَذَا هَدْيٌ، أَوْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُشْعِرَهُ، يَنْوِي بِذَلِكَ إِهْدَاءَهُ، فَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ، وَيَصِيرُ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مَحَلِّهِ.
فَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ سُرِقَ، أَوْ ضَل
(1) الْمُغْنِي 3 / 534 ط الرِّيَاض، و 5 / 434 ط هُجِرَ.