الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَهُمُ الْمُوَادَعَةُ سَنَةً كَامِلَةً وَجَبَ رَدُّ الْمَال كُلِّهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لأَِنَّهُمْ رُبَّمَا يَكُونُ خَوْفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ دُونَ بَعْضٍ، قَدْ يَأْمَنُونَ مَثَلاً الشِّتَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَدُوُّ دُونَ الصَّيْفِ وَيَخَافُونَ ذَلِكَ فِي الصَّيْفِ، فَإِذَا نَبَذَ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ خَوْفِهِمْ وَمَنَعَ مِنْهُمْ بَعْضَ الْمَال لَمْ يَحْصُل لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِهِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْغُرُورِ فَيَرُدُّ الْمَال كُلَّهُ إِنْ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ كَانُوا وَادَعُوهُ ثَلَاثَ سِنِينَ كُل سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقُبِضَ الْمَال كُلُّهُ، ثُمَّ أَرَادَ الإِْمَامُ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ الثُّلُثَيْنِ لأَِنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ هُنَا بِحَرْفِ " الْبَاءِ " وَهُوَ يَصْحَبُ الأَْعْوَاضَ فَيَكُونُ الْمَال عِوَضًا فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ بِاعْتِبَارِ الأَْجْزَاءِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْمَصْلَحَةُ:
6 -
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكْفِي انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ بِلَا مَصْلَحَةٍ وَلَا حَاجَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (2) } .
(1) السِّيَر الْكَبِير لِمُحَمَّد بْن الْحَسَن 2 / 582، وَمَا بَعْدَهَا
(2)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ / 35
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُبِيحَةُ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ هِيَ كُل مَا يُحَقِّقُ لِلْمُسْلِمِينَ غَرَضًا مَقْصُودًا شَرْعًا، بِأَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ مِنْ قِلَّةِ عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ أَوْ مَالٍ، وَالْعَدُوُّ قَوِيٌّ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ وَفِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ: بِأَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ بِاخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُطْمَعَ فِي قَبُولِهِمْ بَذْل الْجِزْيَةِ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ، أَوْ يُعِينُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَال غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى عَقْدِهَا حَاجَةٌ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا بِالاِتِّفَاقِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: تَعْيِينُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ:
7 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِصِحَّةِ الْهُدْنَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً؛ لأَِنَّ إِطْلَاقَهَا بِلَا تَحْدِيدِ مُدَّتِهَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ (2) .
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 108، وفتح الْقَدِير 5 / 404، والبحر الرَّائِق 5 / 85، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 305، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 260 - 261، والدسوقي 2 / 206، والمغني 8 / 459، وكشاف الْقِنَاع 3 / 512
(2)
حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 206، مغني الْمُحْتَاج 4 / 260، والمغني 8 / 410
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ: فَقَال الْمَالِكِيَّةُ لَا حَدَّ وَاجِبٌ لِمُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَل هِيَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَرَأْيِهِ؛ إِذْ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ فِي مُدَّةٍ بِعَيْنِهَا لَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى الإِْبْهَامِ، ثُمَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَا حَدَّ لَهَا بَل يُعَيِّنُهَا الإِْمَامُ بِاجْتِهَادِهِ.
لَكِنْ يُنْدَبُ أَنْ لَا تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لاِحْتِمَال حُصُول قُوَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِلَاّ تَعَيَّنَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّةٍ وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَقْدِهَا رَجَاءَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، غَيْرَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ وَمَا دُونَهَا إِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَامَ الْفَتْحِ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ.
وَقَالُوا: إِنْ زَادَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لأَِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ فَوَجَبَ
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 206
الاِقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مُدَّةُ الأَْرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ وَمُدَّةُ الْعَشْرِ سِنِينَ، لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. فَعَلَيْهِ إِنْ زَادَ الإِْمَامُ الْمُدَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ بَطَل الْعَقْدُ فِي الزَّائِدِ، وَفِي بُطْلَانِهَا عَلَى الْجَائِزِ قَوْلاً: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي عَقْدِهَا؛ لأَِنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، أَظْهَرُهُمَا الْمَنْصُوصُ: يَبْطُل بِالزَّائِدِ فَقَطْ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ، وَالْقَوْل الآْخَرُ: يَبْطُل الْعَقْدُ كُلُّهُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى رَأَى الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْمَصْلَحَةَ فِي عَقْدِهَا لِضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقِتَال، أَوْ لِمَشَقَّةِ الْغَزْوِ أَوْ لِطَمَعِهِ فِي إِسْلَامِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ جَازَ لَهُ عَقْدُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لأَِنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَل مِنْ عَشْرٍ، فَجَازَتْ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا كَمُدَّةِ الإِْجَارَةِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 260، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 305، والحاوي الْكَبِير 18 / 406