الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[لا يطلق المفتي الجواب إذا كان في المسألة تفصيل]
الفائدة الثامنة عشرة (1): ليس للمفتي أن يُطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل [استفصله](2)، كما استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا لما أقرَّ بالزنا هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه (3) عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: [بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاحٍ استفصله](2). هل أحصن [أم لا](2)؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد (4).
ومن هذا قوله لمِن سألته: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال: "نعم إذا رأت الماء"(5)، فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال.
ومن ذلك أن أبا النَّعمان بن بشير سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يَشْهد على غلام نَحَله ابنَه فاستفصله، وقال: أكُلَّ ولدك نحلته (6) كذلك؟ فقال: لا، فأبى أن يشهد (7)، وتحت هذا الاستفصال (8) أنَّ ولدك إن كانوا اشتركوا في النَّحل صح ذلك وإلا لم يصح (9).
ومن ذلك أَن ابنَ أم مكتوم استفتاه هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته (10)؟ فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: "فأجب"(11) فاستفصله بين أن يسمع النداء أو لا يسمعه.
(1) في (ك): "الثامنة عشر".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(3)
في (ق): "فلما أجاب".
(4)
سبق تخريجه.
(5)
رواه البخاري في (العلم)(135) باب الحياء في العلم، و (282) في (الغسل): باب إذا احتلمت المرأة، و (3328) في (أحاديث الأنبياء): باب خلق آدم وذريته، و (6091) في (الأدب): باب التبسم والضحك، و (6121) باب ما يستحيا من الحق للتفقه في الدين، ومسلم (313) في (الحيض): باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها من حديث أم سلمة.
(6)
"أعطيته"(و)، وفي (ق):"فقال" بدل "وقال".
(7)
سبق تخريجه.
(8)
في (ت): "التفصيل"!
(9)
في (ت) و (ك): "صلح ذلك، وإلا لم يصلح".
(10)
في (ق): "استفتاه في أن يصلي في بيته".
(11)
رواه مسلم (653) في (الصلاة): باب يجب إتيان المسجد على مَن سمع النِّداء، من حديث أبي هريرة.
ومن ذلك أنه [لما](1) استُفتي عن رجلٍ وقع على جارية امرأته فقال: "إن كان استكرهها (2) فهي حرَّة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها"(3)، وهذا كثير في فتاويه صلى الله عليه وسلم.
فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار يقصره، فأنكر القصَّار الثوب ثم أقر به هل يستحق الأُجرة على القصارة أم لا؟ (4)، فالجواب بالإطلاق خطأ نفيًا وإثباتًا، والصواب التفصيل، فإن كان قصره [قبل الجحود (5)، فله أجرة القصارة لأنه قصره لصاحبه، وإن كان](6) قصره بعد جحوده، فلا أجرة له لأنه قصره لنفسه.
وكذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف [لا](7) يفعل كذا [وكذا ففعله](8) لم يجز [له](9) أن يفتي بحنثه، حتى يستفصله (10): هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى [عقيب يمينه أم لا](11)؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا [مختارًا](11) أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا [مختارًا](11) فهل كان المحلوف عليه داخلًا في قصده ونيته [أو قصد عدم دخوله فخصَّصه بنيته](11) أو لم يقصد دخوله، ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله.
ورأينا من مفتي العصر من بادر إلى التحنيث (12) فاستفصلناه فوجدناه (13) غير حانث في مذهب من أفتاه، وَقَع ذلك مرارًا، فخطر المفتي عظيم فإنه موقّع عن اللَّه ورسوله زاعم أن اللَّه أمر بكذا وحرَّم كذا وأوجب كذا (14).
ومن ذلك أن يستفتيه عن الجمع بين الظهر والعصر [مثلًا](11) هل يجوز له أن يفرق بينهما فجوابه بتفصيل المسألتين، وأن الجمع إن كان في وقت الأُولى لم
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في (ق): "أكرهها".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
في (ق): "هل يستحق القصار أجرة أم لا؟ ".
(5)
في (ق): "قبل جحوده".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ت).
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وبدلها في (ق): "الا".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ت).
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(10)
في (ق): "يستفصل".
(11)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(12)
في (ق): "الحنث".
(13)
في المطبوع: "فوجده".
(14)
في المطبوع و (ت): "أو أوجب كذا".
يجز التفريق، هان كان في وقت الثانية جاز (1).
ومن ذلك أنه لو قال له: "إن لم تَحرِق هذا المتاع أو تهدم هذه الدار أو تتلف هذا المال وإلا قتلتك"، ففعل، هل يضمن [أم لا](2)؟ جوابه بالتفصيل، فإن كان المال المكره على إتلافه للمُكْرِه لم يضمن، وإن كان لغيره ضمنه.
وكذلك لو سأله المظاهر إذا وطئ في أثناء الكفارة هل يلزمه الاستئناف أو يبني؟ فجوابه بالتفصيل أنه إنْ كان كفَّر بالصيام فوطئ في أثنائه لزمه الاستئناف، وإن كفَّر بالإطعام لم يلزمه الاستئناف وله البناء، فإنَّ حكم تتابع الصوم وكونه قبل المسيس قد انقطع بخلاف الإطعام.
وكذلك لو سأله عن المكفِّر بالعتق إذا عتق عبدًا مقطوعة إصبعه فجوابه بالتفصيل: إن كان إبهامًا لم يجزه وإلا أجزأه، فلو قال له: مقطوع الإصبعين وهما الخنصر والبنصر فجوابه بالتفصيل أيضًا إن كانا من يد واحدة لم يجزه (3)، وإن كانت كل أصبع من يد أجزأه.
وكذلك لو سأله عن فاسق التقط لقطة أو لقيطًا هل يقر في يده؟ فجوابه بالتفصيل: تقرّ اللقطة دون اللقيط لأنها كسب، فلا يمنع منه الملتقط، وثبوت يده على اللقيط ولاية وليس من أهلها.
ولو قال له: "اشتريت سمكة فوجدت في جوفها مالًا ما أصنع به؟ " فجوابه إن كان لؤلؤة أو جوهرة فهو للصياد لأنه (4) ملكه بالاصطياد، ولم تطب نفسه لك به، وإن كان خاتمًا أو دينارًا فهو لقطة يجب تعريفها كغيرها.
وكذلك لو قال له: "اشتريت حيوانًا فوجدت في جوفه جوهرة" فجوابه إن كانت شاةً فهي لقطة للمشتري يلزمه تعريفها حولًا، ثم هي له بعده، وإن كانت (5)
(1) التفرقة أقوى المذاهب، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، انظر:"روضة الطالبين"(1/ 397) و"الغاية القصوى"(1/ 331) و"مغني المحتاج"(1/ 273) و"المغني"(2/ 279 - 280) و"كشاف القناع"(2/ 7)، و"العمدة"(ص 100) و"الروض الندي"(ص 112)، وكتابي "الجمع بين الصلاتين"(ص 134 - 137/ ط الأولى).
واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية عدم الاشتراط لا في الأولى ولا في الثانية، انظر:"مجموع الفتاوى" له (24/ 54).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
في (ق) و (ك): "لم يجز"، و"كانا" بدل "كان".
(4)
في (ق): "فانه".
(5)
في المطبوع: "كان".
سمكة أو غيرها من دواب البحر فهي ملك الصياد (1)، والفرق واضح.
ومن ذلك لو سأله عن عبد التقط لقطة، فأنفقها، هل تتعلق بذمته أو برقبته؟ فجوابه أنه [إن](2)[كان](3) أنفقها قبل التعريف حولًا فهي في رقبته، وإن أنفقها بعد حول التعريف فهي في ذمته يتبع بها بعد العتق، نصَّ عليها (4) الإمام أحمد مفرِّقًا بينهما لأنه قبل الحول ممنوع منها، فإنفاقه لها جناية منه عليها وبعد الحول غير ممنوع منها بالنسبة إلى مالكها [فإذا أنفقها في هذه الحال](2) فكأنه أنفقها بإذن مالكها فتتعلق بذمته كديونه.
ومن ذلك لو سأله عن رجل جَعَلَ جُعْلًا لمن ردَّ عليه لُقَطته فهل يستحقه من ردَّها؟ فجوابه إن التقطها قبل بلوغ قول الجاعل لم يستحقه لأنه لم يلتقطها لأجل الجُعْل، وقد وجب عليه ردها بظهور مالكها، وإن التقطها بعد أن بلغه الجُعل استحقه.
ومن ذلك أن يسأل [فيقول](2): هل يجوز للوالدين أن يتملَّكا مال ولدهما أو يرجعا (5) فيما وهباه؟ فالجواب أن ذلك للأب دون الأم.
وكذلك إذا شهد له اثنان من ورثته غير الأب والابن بالجرح، فالجواب فيه تفصيل، فإن شهدا قبل الاندمال لم تُقبل (6) للتهمة، وإن شهدا بعده قبلت لعدم التهمة.
ومن ذلك إذا (7) سئل عن رجل [ادَّعى نكاح امرأة فأقرَّت له هل يقبل إقرارها (8) أم لا؟ جوابه بالتفصيل إن](9) ادعى زوجيتها وحده قبل إقرارها، وإن ادعاها معه آخر لم يقبل.
[ومن ذلك](10) لو سئل عن رجل مات فادَّعى ورثَتُه شيئًا من تركته، وأقاموا شاهدًا حلف كل منهم يمينًا مع الشاهد، فإن حلف بعضهم استحق قدر نصيبه من المدَّعي، وهل يشاركه من لم يحلف في قدر حصته التي انتزعها بيمينه أم لا [يشاركه؟ فالجواب فيه تفصيل إن كان المُدَّعى دينًا لم يشاركه](9) وينفرد الحالف
(1) في المطبوع و (ت) و (ك): "ملك الصياد"، وفي (ق):"للصياد".
(2)
ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.
(3)
في (ق): "نص عليهما".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في المطبوع و (ك): "أو يرجعان".
(6)
في (ت): "يقبل"، وفي المطبوع:"يقبلا".
(7)
في المطبوع و (ت): "ومن ذلك"، وفي (ق):"ومن ذلك لو".
(8)
في (ق): "إقراره".
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(10)
في (ق): "وكذلك".
بقدر حصته، وإن (1) كان عينًا شاركه من لم يحلف لأن الدين غير متعيّن، فمن حلف فإنما يثبت (2) بيمينه مقدار حصته (3) من الدين لا غيره، ومن لم يحلف لم يثبت له حق، وأما العين فكل واحد من الورثة يقر أن كل جزء منها مشترك بين جماعتهم وحقوقهم متعلقة بعينه فالمخلص (4) مشترك بين جماعتهم والباقي غصب على جماعتهم.
ومن ذلك إذا سئل عن رجل استعدى على [خصمه، ولم يُحرِّر الدعوى هل يُحضره الحاكم؟ الجواب بالتفصيل، إن استعدى على](5) حاضرٍ في البلد أحضره لعدم المشقة، وإن كان غائبًا لم يحضره حتى يحررها.
ومن ذلك لو سئل عن رجل قطع عضوًا من صيد وأفلت هل يحلُّ أكل العضو؟ الجواب بالتفصيل إن كان صيدًا بحريًا حلَّ أكله، وإن كان بريًا لم يحل.
ومن ذلك لو سئل عن تاجر أهل الذمة هل يُؤخذ منه العشر؟ فالجواب بالتفصيل إن كان رجلًا أخذ منه العشر، وإن كانت امرأة ففيها تفصيل إن اتجرت إلى أرض الحجاز أخذ منها [العشر](6)، وإن اتجرت إلى [أرض](7) غيرها لم يؤخذ منها [شيء](8)؛ لأنها تقر في غير أرض الحجاز بلا (9) جزية.
ومن ذلك لو سئل عن ميّت مات فطلب الأب ميراثه، ولم يعلم من [هم](10) الورثة غيرُه، كم يُعطى الأب؟ فالجواب بالتفصيل إن كان الميت ذكرًا أعطي الأب أربعة من سبعة وعشرين [سهمًا؛ لأن غاية ما يمكن أن يقدر معه زوجة وأم وابنتان فله أربعة بلا شك من سبعة وعشرين](11)، وإن كان الميت أنثى فله سهمان من خمسة عشر [(قطعًا) (12)؛ لأن أكثر ما يمكن أن يقدر [معه](13) زوج وأم وابنتان فله سهمان من خمسة عشر قطعًا.
فإن قال السائل: مات ميت وترك ثلاث بنات ابن بعضهن أسفلُ من بعض،
(1) في (ق): "فإن".
(2)
في المطبوع: "ثبت".
(3)
في (ت): "حقه".
(4)
في (ق): "فالمحصل".
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، و (ق).
(7)
ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(9)
في (ق): "فلا".
(10)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت).
(11)
ما بين المعقوفتين من (ت) و (ق).
(12)
ما بين الهلالين سقط من (ت).
(13)
ما بين المعقوفتين من (ت).
مع العليا جدها، قال المفتي: إنْ كان الميت ذكرًا فالمسألة محال لأن جدَّ العليا نفس الميت، وإنْ كان الميت أنثى، فجد العليا إما أنْ يكون زوج الميتة (1) أو لا يكون كذلك، فإن كان زوجها فله الربع، وللعليا النّصف، وللوسطى السدس تكملة الثلثين، والباقي للعصبة.
فلو قال السائل: ميتٌ خلَّف ابنتين وأبوين، ولم تقسم التركة حتى ماتت إحداهما وخلفت من خلفت، قال المفتي: إن كان الميت ذكرًا فمسألته من ستة: للأبوين سهمان ولكل بنت سهمان، فلما ماتت إحداهما خلفت جدة وجدًا وأختًا لأب فمسألتها من ستة وتصح من ثمانية عشر وتركتها سهمان توافق مسألتها بالنصف فترد إلى تسعة، ثم تضربها في ستة تكون أربعة وخمسين، ومنها تصح، وإن كان الميت أنثى ففريضتها أيضًا من ستة، ثم ماتت إحدى البنتين عن سهمين وخلفت جدة وجدًا من أم وأختًا لأب، فلا شيء للجد وللجدة السدس وللأخت النصف والباقي للعصبة فمسألتها من ستة وسهامها اثنان فاضرب ثلاثة في المسألة الأولى تكن ثمانية عشر] (2).
والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان [يجد](3) السؤال محتملًا، وباللَّه التوفيق (4)، فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد عليه (5) المسائل في قوالب متنوعة جدًا، فإنْ لم يتفطَّنْ لحقيقة السؤال وإلا هلك وأَهْلَكَ (6)، فتارة تُورَد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلِفٌ، فصورة (7) الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان في الحقيقة (8)، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرق اللَّه ورسوله [بينه](9)، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما [في الحقيقة](8)، فيفرق بين ما جمع اللَّه بينه، وتارة تُورد عليه المسألة [مجملة](10) تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمُه إلى واحد
(1) في المطلبوع و (ق): "الميت".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
كتب إزائها في هامش (ق): "يشاركه الجواب بالتفصيل إن كان المدعي دينًا لم يشاركه صح".
(5)
في المطبوع: "ترد إليه".
(6)
في (ق): "هلك وهلك".
(7)
في (ق): "صورة".
(8)
في المطبوع و (ت): "بالحقيقة".
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(10)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
منها ويذهل عن (1) المسئول عنه [منها](2) فيجيب بغير الصواب، وتارة تُورد عليه المسألة الباطلة في دين اللَّه في قالبٍ مُزخرف ولفظ حسنٍ، فيبادر (3) إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس.
فلا إله إلا اللَّه، كم هاهنا من مزلّة أقدام، ومحل (4) أوهام، وما دعا محقٍّ إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيشُ البصائر وضعفاء العقول، وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب [مزيَّف](5) مزخرف يستخفُّ به عقولَ ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له، وأكثرُ الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزها (6)، إلى الحقائق فهم محبوسون في سجن الألفاظ، مقيَّدون بقيود العبارات، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ] (7) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113].
وأذكر لك من هذا مثالًا (8) وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير (9) عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإِسلام (10) وإذلال الكفرة (11) ما قرَّت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوَّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار (12)، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع (13) وآذوهم غاية الأذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي
(1) في (ت): "ويسد عنه"، وفي (ق) و (ك):"ويشذ عنه".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
في المطبوع: "فيتبادر".
(4)
في المطبوع: "ومجال".
(5)
ما بين المعقوفتين من (ت)، وهو المثبت في (ق) بدل كلمة "مزخرف".
(6)
في المطبوع: "لا يتجاوزونها".
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(8)
(ق): "مثلًا".
(9)
في (ق): "أن يغيروا".
(10)
(ق): "والإعزاز للإسلام".
(11)
في المطبوع: "الكفر".
(12)
كذا في (ق): وهو الصواب، وفي سائر النسخ:"الغبار".
(13)
المطبوع و (ت): "الرعاة"، وفي (ك):"والذعار".
عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة (1) للشرع أم لا؟ فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطَّريق بجواز ذلك، وإن للإمام (2) إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلتُ: لا تجوز إعادتهم [إلى ما كانوا عليه](3) ويجب إبقاؤهم على [الزي](4) الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى (5)، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا (6) بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلَّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم (7) وللَّه الحمد.
ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف (8) في الجامع وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان اللَّه كم توصل بهذه الطريق (9) إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم (10)، ولا قريبًا من ذلك، فاللَّه المستعان.
(1) في (ق): "مخالف".
(2)
في (ق): "يجوز ذلك ورأى الإِمام".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في (ك) و (ق): "الفتيا".
(6)
في (ق): "ثم جاؤوا".
(7)
قال ابن كثير في "البداية والنهاية"(14/ 16) أحداث سنة (700 هـ) ما نصه: "وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة، وألزموا بها، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد، وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصُّفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير، وتميّزوا عن المسلمين" وانظر: "أحكام أهل الذمة"(3/ 1295 - 1299 - ط الرمادي) و"تشبيه الخسيس" للذهبي (ص 191 - ضمن مجلة "الحكمة" العدد الرابع - بتحقيقي).
وفي (ق): "على إقفائهم".
(8)
أي من شعبان، وانظر عن بدعية ما فيها "الحوادث والبدع" للطرطوشي (ص 121 - 122) و"الباعث على إنكار البدع والحوادث"(ص 124 - 137) و"الأمر بالاتباع"(ص 176 - 180) للسيوطي، مع تعليقي عليهما، ولعلي القاري رسالة مفردة فيها، فرغت من تحقيقها من سنوات، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
(9)
في المطبوع: "الطرق"، وفي (ق):"بهذا الطريق".
(10)
في (ت): "لا يبلغون إلى عشر معشار غيرهم".