الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه]
الفائدة الرابعة والثلاثون: إذا نزلت بالعاميّ نازلة، وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها ففيه (1) طريقان للناس، أحدهما: أن له حكم ما قبل الشرع، على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف (2)؛ لأن عدم المرشد في حقه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة.
والطريقة الثانية: أنه يُخَرجُ على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد هل يعمل (3) بالأخف أو بالأشد أو يتخير (4)؟ والصواب أنه يجب عليه أن
= الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا. . . ثم ذكر كلامًا منه هذا وبعضهم اختصره.
وهذا إسناد منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يدرك القصة.
ثم قال أبو نعيم: رواه جرير عن يحيى بن سعيد عن عبد اللَّه بن هبيرة أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء نحوه.
أقول: هذا سند ظاهره الاتصال، عبد اللَّه بن هُبيرة هذا من الثقات، وظاهره أنه أدرك سلمان، لكن سلمان مات في حدود (35 - 40 هـ)، وهذا مات سنة (126)، وله خمس وثمانون سنة، فهو لم يدرك سلمان قطعًا.
ورواه أبو نعيم أيضًا من طريق مالك بن دينار أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء. . . وهذا إسناد منقطع أيضًا، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(1)
في (ق): "ففيها".
(2)
فصلته في تعليقي على "تحقيق البرهان" للشيخ مرعي الكرمي (ص 128 - 130 ط الثانية)، وانظر:"المسودة"(ص 479) و"الإحكام"(1/ 52) لابن حزم و"روضة الناظر"(ص 22)، و"التبصرة"(532) و"تفسير القرطبي"(1/ 251 - 252) و"فواتح الرحموت"(1/ 49) و"مجموع فتاوى ابن تيمية"(21/ 535، 539 و 29/ 151 و 7/ 45 - 46) و"مذكرة أصول الفقه"(ص 19).
وفي (ك): "الوقوف".
(3)
في (ت) و (ق): "أن يعمل"، وفي (ك):"هل يعلم".
(4)
حكى أبو منصور عن أهل الظاهر وجوب الأخذ بالأشد، وهذا القول ومقابله (الأخف) لا يصحان، لأن الواجب الرجوع للدليل الشرعي لا غير، سواء أقضى بالأخف أم بالأثقل، ثم في القول بالأخذ بأحدهما مطلقًا مفاسد عديدة، ذكرها الشاطبي في "الموافقات"(5/ 104 - 105 - بتحقيقي) فراجعه فإنه نفيس غاية.
والقائلون بالأخذ بأثقل القولين ذهبوا إليه للاحتياط!! ويرد عليهم بأن الاحتياط هو "الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة. ولا تقصير، ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه اللَّه ورسوله" قاله =
يتقي اللَّه ما استطاع، ويتحرَّى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصَّبَ اللَّه [سبحانه
= المصنف في كتابه "الروح"(ص 346). انظر في المسألة: "البحر المحيط"(6/ 322 - 323، 325 - 326)، و"البرهان"(2/ 1344)، و"شرح الكوكب المنير"(4/ 581)، و"المستصفى"(2/ 391)، و"روضة الناظر"(3/ 1026)، و"المسودة"(463 - 464)، و"تيسير التحرير"(4/ 255) و"أدب المفتي والمستفتي"(164 - 166)، و"صفة الفتوى"(81) و"المجموع"(1/ 97)، و"إرشاد الفحول"(271)، و"جمع الجوامع"(2/ 392 - مع شرح المحلي)، و"إغاثة اللهفان"(1/ 162 - 163)، و"الاختلاف وما إليه"(103 - 104).
أما القول بالتخيير، فله مفاسد عديدة، بيّنها بما لا مزيد عليه الشاطبي في "الموافقات"(5/ 94 وما بعد)، ومما قال:"إن المتخير بالقولين -مثلًا- بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملًا بما أفتاه به المفتي".
ثم قال عن المفتي: "فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير، فقد أفتى في النازلة بالإباحة واطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين. وهذا لا يجوز له. إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضًا حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضًا، فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يُلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا.
وأما إن كان عاميًا؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإن العبد في تقلباته دائر بين لمَّتين: لَمَّة ملك، ولمَّة شيطان، فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات (أي: الفعل والترك)، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له:"أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق"، فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له:"في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟ ". فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلتُ إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميٌ في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره، والتوفيق بيد اللَّه تعالى.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية"(10/ 472 - 473) و"رفع العتاب والملام"(ص 64 - 65).