الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قلد المبتدي مَنْ فوقه؟ فإذا [أفتى الأول](1) بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكَذْلِك من تقليده؟
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن الكلام في المفتي الأول أيضًا، فقد نص [الإمام](2) الشافعي وأحمد، وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحل للرجل أن يفتي بغير علم، وحكى (3) في ذلك الإجماع، وقد تقدم [ذكر](4) ذلك مستوفى (5).
الثاني: أن هذا الأول (6)، وإن جاز له التقليد للضرورة، فهذا المَكَذْلِكُ، المتكلِّف لا ضرورةَ له إلى تقليده (7)، بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف وذلك لا يسوغ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ونظائر ذلك كثيرة.
الثالث: أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين إذ ليس هذا بجواز (8) تقليد المفتي أولى من غيره، وباللَّه التوفيق.
[للمفتي أن يفتي من لا يجوز شهادته له]
الفائدة السابعة والعشرون: يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه، ومن لا تقبل شهادته له، وإن لم يجز أن يشهد له ولا يقضي له، والفرق بينهما أن الإفتاء يجري مجرى الرواية فكأنه حكم عام (9)، بخلاف الشهادة والحكم، فإنه يخص المشهود له والمحكوم له، ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه ويدخل في حكم الفتوى التي يُفتي بها، ولكن لا يجوز له أن يحابي من يفتيه (10) فيفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء ويفتي غيرهم بضدِّه محاباة، بل هذا يقدح في عدالته إلا أن يكون [ثَمَّ](11) سبب يقتضي التخصيص غير المحاباة، ومثال هذا أن يكون في المسألة قولان قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي ابنه وصديقه بقول الإباحة والأجنبي يقول المنع.
(1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "فإذا الفتى المبتديء".
(2)
سقط من (ق) و (ك).
(3)
كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ:"حكى".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
وقع في (ت): "مسبوقًا" بدل: "مستوفى".
(6)
في (ق): "أن يكون الأول".
(7)
في (ق): "لا ضرورة به إلى التقليد".
(8)
في (ق): "لجواز".
(9)
في (ك): "عالم".
(10)
وقع في (ت) و (ك) و (ق): "من نفسه"!
(11)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟
قيل: نعم، إذا كان له أن يفتي غيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"استفتِ قلبك، وأن أفتاك المفتون"(1).
(1) رواه الدارمي (2/ 245)، وأحمد (4/ 228) -ومن طريقه ابن عساكر (10/ 110) - وابن أبي شيبة في "مسنده"(رقم 753) والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 1/ 144 - 145) وأبو يعلى (1586 و 1587)، وفي "المفاريد"(97، 98) -ومن طريقه ابن عساكر (10/ 111 - 112) - وأبو الشيخ في "الأمثال"(237)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2139)، والطبراني في "المعجم الكبير"(22/ رقم 403)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 24 و 6/ 255) والبيهقي في "الدلائل"(6/ 292 - 293) -ومن طريقه ابن عساكر (62/ 341) -، من طرق عن حماد بن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد اللَّه بن مُكْرِز عن وابصة به، وهو جزء من حديث طويل. وقال ابن عساكر:"وفي نسخة أبو عبد السلام، وهو الصحيح".
ورواه أحمد (4/ 228) من طريق عفان عن حماد بن سلمة: حدثني الزبير أبو عبد السلام عن أيوب، ولم يسمعه منه، قال: حدثني جلساؤه وقد رأيته، عن وابصة الأسدي، وقال عفان:"حدثني غير مرة، ولم يقل: حدثني جلساؤه".
وهذا إسناد ضعيف، أيوب بن عبد اللَّه بن مُكْرِز ذكره ابن حبان في "الثقات"(4/ 26)، وقال ابن حجر: مستور، والزبير أبو عبد السلام قال أبو نعيم في "الحلية" بعد روايته للحديث: لا أعرف له راويًا غير حماد، وذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 333) كعادته!!
أما الهيثمي فقد ذكر الحديث في "المجمع"(1/ 175 و 10/ 294) فقال في الأول: وفيه أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، قال ابن عدي: لا يتابع على حديثه، ووثقه ابن حبان، وقال في الثاني: ورجال أحد إسنادي الطبراني ثقات!!
قلت: وهم الهيثمي في قوله الأول: وإنما قال ابن عدي المقولة السابقة في "أيوب بن عبد اللَّه بن الملاح" وليس لابن مكرز ذكر في "الكامل".
ووجدت أبا نعيم في "الحلية"(6/ 255) ذكر لأيوب بن عبد اللَّه بن مكرز مُتابعين.
فقال: رواه أبو سكينة الحمصي، وأبو عبد اللَّه الأسدي عن وابصة نحوه.
أقول: أبو سكينة هذا مترجم في "التهذيب"، وقد نفى عنه الصحبة أبو زرعة وأبو حاتم وابن المديني وابن عبد البر، وقد ذكره بعضهم في الصحابة.
وقد ذكره ابن حجر في "الإصابة" في القسم الأول، لكن يظهر أن الطريق في إثبات صحبته ضعيف، ولم يذكر أحد فيه جرحًا ولا تعديلًا، على كل حال ذكرهم إياه في الصحابة قد يقوي أمره.
وأبو عبد اللَّه الأسدي، روى حديثه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 144) والبزار (183) والطبراني في "الكبير"(22/ رقم 402) و"مسند الشاميين"(رقم 2000) والبيهقي في "الدلائل"(6/ 292) والتيمي في "دلائل النبوة"، (رقم 157) وابن عساكر (62/ 340 - 341) =
فيجوز له أن يفتي نفسه بما يفتي به غيره (1)، ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة [قولان](2) قول بالجواز وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع (3).
= من طريق معاوية بن صالح عنه، وقال: أبو عبد اللَّه الأسدي لا نعلم أحدًا سمّاه. قلت: وقعت تسميته في مطبوع "مسند الشاميين" وعند التيمي وابن عساكر بمحمد، وقال ابن رجب:"قال عبد الغني بن سعيد الحافظ، لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب، لما دفعت ذلك"، قال ابن رجب:"وهو مشهور بالكذب، لكنه لم يدرك وابصة".
قلت: فقول الهيثمي في "المجمع"(1/ 175): "لم أجد من ترجمه" غير جيد، وهو ليس بالمصلوب، إذ ترجمه البخاري (1/ 1/ 144)، وابن أبي حاتم (4/ 1/ 132) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال العجلي في "ثقاته" (2/ 258 رقم 1665):"شامي تابعي، ثقة"، وذكره ابن حبان في "ثقاته" (5/ 370) وقال:"لا أدري من هو"!
ورواه أحمد من نفس الطريق (4/ 227) لكن وقع فيه معاوية بن صالح: عن أبي عبد الرحمن السلمي عن وابصة، وفي أطراف ابن حجر: أبو عبد اللَّه السلمي، وكذا في "إتحاف المهرة"(13/ 641 - 642)، ونقله ابن رجب في "جامع بيان العلم"(219) هكذا.
ويشهد له حديث أبي ثعلبة الخشني: رواه أحمد (4/ 194) والطبراني (22/ رقم 585) وأبو نعيم (2/ 30) وإسناده صحيح، وعزاه الهيثمي للطبراني (1/ 176)، وقال:"ورجاله ثقات" وجوَّد ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(2/ 250) إسناده، وقال النووي في "أربعينه" و"رياض الصالحين" (596) عن الحديث الذي أورده المصنف:"حسن" وهو كذلك بشواهده.
وفي الباب عن واثلة بن الأسقع: رواه أبو يعلى (7492)، والطبراني في "الكبير"(22/ 193)، وفيه عبيد بن القاسم كذبه بعضهم، واتهمه آخرون.
(1)
في المطبوع و (ت): "بما يفتي غيره به".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
من لطيف ما يُذكر في جنب الترخص: ما قاله الإِمام ابن الجوزي رحمه اللَّه تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر"(2/ 304)، وقد ترخص في بعض الأمور:
"ترخصتُ في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدتُ في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طردٍ عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجتَ عن إجماع الفقهاء؟ فقلتُ لها: يا نفس السوء! جوابُك من وجهين:
أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفتيتِ لم تُفتي بما فعلتِ، قالت: لو لم أعتقد جوازَ ذلك ما فعلته، قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيركِ في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذَلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثَّر مثلُ هذا عندكِ. قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدِّري ما تركتِ جائزًا بالإجماع، وعُدِّي هجرَه ورعًا، وقد سلمتِ".