الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حكم اللَّه [تعالى](1) ورسوله، وكذلك لو قال الرجل لآخر:"أنا عبدك ومملوكك" على سبيل (2) الخضوع له، كما يقوله (3) الناس لم يستبح ملك رقبته بذلك، ومن لم يراع المقاصد والنيّات والعرف في الكلام، فإنه يلزمه أن يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ.
وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل، فيغر الناس، ويكذب على اللَّه تعالى ورسوله، ويغير دينه، ويحرِّم ما لم يحرمه اللَّه، ويوجب ما لم يوجبه اللَّه، واللَّه المستعان.
[لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر]
الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيّل [على](4) إسقاط واجب أو تحليل محرَّم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصده (5)، بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي [له](6) أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال (7) الناس وأمورهم يؤازره فقه (8) في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم؟ (9) فَالغِرُّ (10) ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم.
والثاني: يخرج زيفها، كما يخرج الناقد (11) زيف النقود. وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟! و [كم](12) من حق يخرجه بتهجينه (13) وسوء تعبيره في صورة باطل؟! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في المطبوع و (ت) و (ك): "على جهة".
(3)
في (ق): "يقول".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ت).
(5)
في المطبوع: "إلى مقصوده".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(7)
في (ك): "فقيه في أحوال".
(8)
في (ك): "يوزان فقهه".
(9)
في (ق): "ظلم وخداع ومكر".
(10)
قال (د): "في نسخة: "فالغبي ينظر. . . " إلخ"
قلت: وهو المثبت في (ق).
(11)
في (ق): "المنقد".
(12)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وبعدها في (ق):"وجدها وإن".
(13)
في المطبوع: "بتهجيته" بتاء بدل نون بعد الياء آخر الحروف! =
يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس؛ ولكثرته وشهرته يستغني عن الأمثلة، بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع [كلها](9) وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة، وكسوها ألفاظًا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها، ولقد أحسن القائل (1):
تقول هذا جناءُ النَّحلِ تمدحُهُ
…
وإنْ تشأ قلتَ ذا قيء الزنابيرِ
مدحًا وذمًا، وما جاوزتَ وصفهما
…
والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ
ورأى بعض الملوك (2) كأن أسنانه [قد](3) سقطت فعبَّرها (4) له معبر بموت أهله وأقاربه فأقصاه وطرده، واستدعى آخر فقال له:[لا عليك](3) تكون أطول أهلك عمرًا، فأعطاه وأكرمه وقرَّبه، فاستوفى المعنى، وغيَّر له العبارة، وأخرج المعنى في قالب حسنٍ.
والمقصود أنه لا يحلُّ له أن يفتي بالحيل المحرمة، ولا يعين عليها، [ولا يدلُّ عليها] (3)؛ فيضاد اللَّه في أمره قال [اللَّه] (3) تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقال تعالى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50 - 51]، وقال تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (5)[البقرة: 9]، وقال تعالى:{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]، وقال تعالى في حق أرباب الحيل المحرمة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
(1) ذكرهما الأقفهسي في "التبيان"(195 - ط دار ابن عفان)، وعزاهما الدميري في "حياة الحيوان" (2/ 9) إلى الشيخ زهير الدين بن عسكر قاضي السلامية وهما:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
…
وأن ذممت فقل قيء الزنابير
مدحًا وذمًا وما غيرت من صفة
…
سحر البيان يرى الظلماء كالنور
وفي هامش نسخة (ك): "مجاج النحل أو جناء النحل لأنه مكسور".
(2)
في هامش (ق): "هو المنصور".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
في (ق): "فأدلها".
(5)
هذه الآية مذكورة في المطبوع قبلُ، بعد قوله تعالى:{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وأشار (د) إلى أنه في نسخة كما أثبتناه من (ق) و (ت).
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66].
وفي "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ملعون من ضارَّ مسلمًا أو مكر به"(1)، وقال:"لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلِّوا محارمَ اللَّه بأدنى الحيل"(2)، وقال:"المكرُ والخديعة في النار"(3)، وفي "سنن ابن ماجه" وغيره
(1) رواه الترمذي (1941) في (البر): باب ما جاء في الخيانة والغش، والمروزي في "مسند أبي بكر"(رقم 100)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 2053)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 49 و 4/ 114) وابن حبان في "المجروحين"(2/ 6 - 7)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 344)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 287) والبيهقي في "الشعب" (8577): من طرق عن فَرْقد السَّبخي عن مُرَّة الطَّيِّب عن أبي بكر به مرفوعًا.
قال الترمذي: حديث غريب.
أقول: علته فرقد هذا، قال يحيى بن سعيد: ما يعجبني الحديث عن فرقد، وقال أيوب: ليس بشيء، وقال أحمد: روى عن مُرّة منكرات. وفي الطريق إلى فرقد عند جميع من أخرج الحديث ضعيفٌ أو متروك، ومرة لم يدرك أبا بكر ولم يسمع منه ثم وجدت لـ (فرقد) متابعة قويّة!!
فقد رواه أبو يعلى (96) من طريق معاوية بن هشام عن شيبان عن عامر عن مرة به.
وشيبان هو ابن عبد الرحمن النحوي ثقة مشهور، وعامر هو الشعبي.
ومعاوية بن هشام: صدوق، في حديثه وهم، وقد روى له مسلم فمثله حديثه حسن ما لم يخالف.
وقد خولف رواه الطبراني في "الأوسط"(9308 - ط الطحان) عن آدم عن شيبان عن جابر الجعفي عن الشعبي عن مرة به فجعل آدم بن أبي إياس بين شيبان والشعبي (جابر الجعفي) و (آدم) أوثق من (معاوية بن هشام)، وقد جوّده، قال الطبراني عقبه:"لم يرو هذا الحديث عن الشعبي إلا جابر الجعفي ولا رواه عن جابر إلا شيبان وأبو حمزة السكري".
وأخشى أن يكون (عن جابر) ساقطة من "مسند أبي يعلى"، مع أنها غير موجودة في الطبعة الأخرى (رقم 91 - ط إرشاد الحق) لأني وجدته عند المروزي (رقم 102) من طريق معاوية بن هشام عن شيبان عن جابر عن عامر به.
قلت: ورواه من طريق ابن حمزة المروزي في "مسند أبي بكر"(رقم 99)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 164) والخطيب (1/ 403) والبيهقي في "الشعب"(رقم 8580، 8581)، وجابر الجعفي ضعيف، فالحديث ضعيف، وانظر "السلسلة الضعيفة"(رقم 1903)، "وبيان الوهم والإيهام"(2/ 403 - 405 و 3/ 137).
(تنبيه): عزى المصنف الحديث إلى مسلم في "صحيحه"، ولم أجده فيه، ولا عزاه إليه المزي ولا ابن الأثير.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ورد عن جمع من الصحابة:
أولًا: ابن مسعود: رواه ابن حبان (567)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10234)، =
عنه صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يلعبون بحدود اللَّه ويستهزئون بآياته طلَّقتك راجعتك طلقتك راجعتك؟ "، وفي لفظ:"خلعتكِ راجعتك خلعتُك راجعتُكِ"(1)، وفي "الصحيحين"
= وفي "الصغير"(738)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 188)، والقضاعي في "مسند الشِّهاب"(253)، و (254) وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 245) من طريق الفضل بن الحباب: ثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم المؤذّن: حدثنا أبي عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حُبيش عنه، وفي أوله زيادة:"من غش فليس منا. . . ".
قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 79): رجاله ثقات، وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه.
أقول: عاصم تقرر أنه حسن الحديث، وفيه الهيثم بن الجهم روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"(9/ 235)، وقال أبو حاتم: لم أر في حديثه مكروهًا.
ثانيًا: قيس بن سعد: رواه ابن عدي في "الكامل"(2/ 584) والبيهقي في "الشعب"(رقم 5268) من طريق جراح بن مليح عن أبي رافع عنه، والجراح هذا ذكر ابن عدي في ترجمته عن ابن مليح أنه قال: لا أعرفه ثم فسّر عبارته فقال: كان يحيى إذا لم يكن له علم ومعرفة بأخباره ورواياته يقول: "لا أعرفه، ثم بيّن أنه عرف الرجل وقال: وهو لا بأس به.
ولذلك قال الحافظ في "الفتح"(4/ 356): وإسناده لا بأس به.
ثالثًا: أنس بن مالك: رواه الحاكم في "المستدرك"(4/ 706) من طريق سنان بن سعد عنه، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الحافظ في "الفتح" و"التغليق" وفي إسناده مقال، أما شيخنا الألباني رحمه الله فحسّنه في "الصحيحة"(3/ 47)، لكن بينت من قبل أن سنان بن سعد أو سعد بن سنان حديثه لا يرتقي للحسن.
وحديث الباب علّقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (2142) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخديعة في النار".
وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة وعن الحسن وابن سيرين مرسلًا.
قال الحافظ في "الفتح": ومجموعهما يدل على أن للمتن أصلًا، وانظر:"تغليق التعليق"(3/ 244 - 246)"مجمع الزوائد"(3/ 79)، و"السلسلة الصحيحة"(رقم 1057).
(1)
رواه ابن ماجه (2017) في (كتاب الطلاق) وابن حبان (4265) والبزار في "البحر الزخار"(8/ 116 رقم 3117) والرويانى (452) والبيهقي (7/ 322): من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان عن أبي إسحاق عن، أبي بردة عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا به.
قال البوصيري (1/ 351): هذا إسناد حسن من أجل مؤمل بن إسماعيل.
أقول: بل مؤمل مثله لا يُحسَّن حديثه لأنهم طعنوا فيه شديدًا، وهو على كل حال متابع فقد رواه البيهقي (7/ 322) وابن بطة في "إبطال الحيل"(40، 41) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود عن سفيان الثوري به، وموسى بن مسعود هذا أحسن حالًا من مؤمل. =
عن النبي صلى الله عليه وسلم (1): "لعن اللَّه اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، [وأكلوا أثمانها] (2) "، وقال أيوب السختياني: يخادعون اللَّه، كما يخادعون الصبيان (3)، وقال ابن عباس: من يخادع اللَّه يخدعه (4)، وقال بعضُ السلف: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه: المكر، والبغي، والنكث. وقرأ (5):{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال تعالى:{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وقال تعالى:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (6)[الفتح: 10].
وقال الإمام أحمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عَمَدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حلَّلوه"(7) وقال: "ما أخبثهم، يعني: أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(8)، وقال:"مَنْ احتال [بحيلة] فهو حانث"(9)، وقال:"إذا (10) حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها، فقد صار إلى [ذلك] (11) الذي حلف عليه بعينه"(12).
= وله متابعة أقوى؛ فقد رواه أبو داود الطيالسي (527 أو 1601 - منحة المعبود)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 322) من طريق زهير عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: كان رجل يقول: ". . . فقال: "هذا مرسل".
ويؤكد هذا، ما قاله البزار:"وهذا الحديث لا نعلم أحدًا أسنده عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى، إلا الثوري، ورواه عن الثوري: مؤمل وأبو حذيفة".
قلت: وكلاهما ضعيف، ولذا وضعه شيخنا في "ضعيف ابن ماجه"(440).
(1)
في المطبوع و (ت) و (ك): "عنه صلى الله عليه وسلم".
(2)
سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
عزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان الدليل"(ص 64) لأيوب.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 11)، وعبد الرزاق في "المصنف"(6/ 397/ رقم 11352)، وسعيد بن منصور في "سننه"(رقم 1065)، وابن حزم في "المحلى"(10/ 181)، وابن بطة في "إبطال الحيل"(ص 48).
(5)
كذا في مصادر التخريج، وفي جميع النسح:"وقال تعالى" بدل "وقرأ".
(6)
رواه ابن أبي الدنيا في "ذم البغي"(رقم 34) عن محمد بن كعب القرظي قوله.
(7)
رواه ابن بطة في "إبطال الحيل"(52) عن أبي الحارث الصائغ عن أحمد.
(8)
هذه رواية أبي داود في "مسائله"(54) عن أحمد، وذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل"(54).
(9)
هذه رواية بكر بن محمد بن الحكم عن أحمد، ذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل"(ص 53)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(10)
في (ق): "من".
(11)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(12)
هذه رواية بكر بن محمد بن الحكم عن أحمد، ذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل"(ص 53).