الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحمن الرحيم في الفريضة سرًا ولا جهرًا إمام ولا غيره، وذلك في النافلة واسع، وإن شاء قرأ أو ترك ولا يتعوذ في المكتوبة. انتهى. وعليه عمل أهل المدينة.
فائدة:
ذكر القرافي من المالكية والغزالي من الشافعية وجماعة أن من الورع الخروج من الخلاف (1)، كـ: قراءة البسملة أول الفاتحة، وخالفهم في ذلك جماعة.
(1) قد قيد هذا الورع الشاطبي في الموافقات (1/ 163، وما بعدها) في حديثه عن المقدمة الثالثة عشرة، فقال: "كل أصل علمي يتخذ إمامًا في العمل؛ فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرىح فذلك الأصل صحيح، وإلا؛ فلا.
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبية أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف؛ فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه، وإلا لم يكن بالنسبة إليه علمًا لتخلفه، وذلك فاسد؛ لأنه من باب انقلاب العلم جهلًا.
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله: أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر اللَّه تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يُطاق، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد، فإذًا؛ كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليها.
ويقع ذلك في فهم الأقوال، ومجاري الأساليب، والدخول في الأعمال.
فأما فهم الأقوال؛ فمثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، إن حُمل على أنه إخبار؛ لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرًا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي؛ فعليه يجب أن يُحمل.
ومثله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، إن حُمل على أنه تقرير حكم شرعي؛ استمر وحصلت الفائدة، وإن حُمل على أنه إخبار بشأن الوالدات؛ لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما عُلم قبل الآية.
وأما مجاري الأساليب؛ فمثل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إلخ [المائدة: 93]. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر؛ لأن اللَّه تعالى لما حرم الخمر؛ قال:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93]، فكان هذا نقضًا للتحريم، فاجتمع الإذن والنهي معًا؛ فلا يمكن للمكلف امتثال.
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر، وقال له:"إذا اتقيت اجتنبت ما حرم اللَّه".
إذ لا يصح أن يقال للمكلف: "اجتنب كذا"، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدًا، ثم يقال:"فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".
وأيضًا؛ فإن اللَّه أخبر أنها تصد عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في اللَّه، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي لقوله:
{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]؛ فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت؛ لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يُطاق.
وأما الدخول في الأعمال؛ فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعًا أو عقلًا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق، وهو الأصل أيضًا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص، إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا.
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية؛ لم يأمن الغلط، بل كثيرًا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين.
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر. .
والثانية: مسألة الورع بالخروج عن الخلاف؛ فإن كثيرًا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبًا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها.
ولا زلت منذ زمان أستشكله؛ حتى كتبت فيها إلى المغرب، وإلى أفريقية؛ فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر، بل كان من جملة الإشكالات الواردة؛ أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافًا يعتد به، فيصير إذًا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف وضع الشريعة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأيضًا؛ فقد صار الورع من أشد الحرج؛ إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ولا معاملة ولا أمر من أمور التكليف من خلاف يطلب الخروج عنه، وفي هذا ما فيه.
فأجاب بعضهم: بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه المختلف فيه اختلافًا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي موارد التأمل، وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل، وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط؛ فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه اللَّه إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه، وقد قال عليه السلام:"حفت الجنة بالمكاره"، هذا ما أجاب به.
فكتبت إليه: بأن ما قررتم من الجواب غير بين؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال؛ فليس مما نحن فيه، وأما المقلد؛ فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين، والعامي -في عامة أحواله- لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف، ولا يعلم: هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؛ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلًا للنظر، وليس العامي كذلك، وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل؛ كالخلاف في المتعة، وربا النساء، ومحاش النساء، وما أشبه ذلك.
وأيضا؛ فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين، ولا يكونان كذلك عند بعض؛ فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد؛ لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده، من غير أن يخرج عن الخلاف، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر؛ فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور، وهو شديد جدًا، و"من يشاد هذا الدين يغلبه"، وهذا هو الذي أشكل على السائل، ولم يتبين جوابه بعد.
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد؛ إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل؛ لأن اللَّه لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة.
وإذا تأملنا مناط المسألة؛ وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا، فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع، وإن كان شديدا في مخالفة النفس، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في مخالفة النفس؛ فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. ما كتبت به، وهنا وقف الكلام بيني وبينه.
ومن تأمل هذا التقرير؛ عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه؛ فلا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلًا يبنى عليه.
والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدًا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع، وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه وما لا يعتبر، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء اللَّه".
واعلم أن ليس كل خلاف بين المذاهب المعتبرة وأقوال العلماء الثقات المنتشرة ينبغي أن يعتبر، وذلك لما قال الشاطبي (5/ 210، وما بعدها): "المسألة الثانية عشرة: من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم التنبيه عليه.
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالًا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه، وهكذا يتفق في شرح السنة، وكذلك في فتاوي الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه، فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح.
فإذا ثبت هذا، فلنقل الخلاف هنا أسباب:
أحدها: أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضًا، فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق.
وقيل: زنجبيل.
وقيل: الترنجبين.
وقيل: شراب مزجوه بالماء.
فهذا كله يشمله اللفظ؛ لأن اللَّه من به عليهم، ولذلك جاء في الحديث: "الكمأة من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المن الذي أنزل اللَّه على بني إسرائيل"، فيكون المن جملة نعم، ذكر الناس منها آحادًا.
والثاني: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني.
وقيل: طير أحمر صفته كذا.
وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور.
وكذلك قالوا في المن: شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة.
وقيل: الترنجبين.
وقيل: مثل رب غليظ.
وقيل: عسل جامد.
فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها.
والثالث: أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى، وهما معًا يرجعان إلى حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى:{وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73]، أي: المسافرين، وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر، وكذلك قوله:{تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31]، أي: داهية تفجؤهم، وقيل: سرية من سرايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأشباه ذلك.
والرابع: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، كاختلافهم في أن المفهوم له عموم أولًا، وذلك أنهم قالوا: لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به، وهو مما لا يختلفون فيه أيضًا، وكثير من المسائل، على هذا السبيل فلا يكون في المسألة خلاف، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف.
والخامس: يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم، كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد، بناءً على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه، فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافًا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له بالثاني، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع، والحق فيه ما ذكر أولًا، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد، ولا يصح فيها غير ذلك، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر، كما ذكر عن ابن عباس في المتعة وربا الفضل، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف.
والسادس: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، وليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها.
والسابع: أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافًا في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة، فهذا ليس بمستقر خلاف؛ إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالًا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه دون غيره، وليس الكلام في مثل هذا.
والثامن: أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلًا وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد، كما يقع لأرباب التفسير كثيرًا في نحو قوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31]، فمنهم من يحمل الحيات والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما، ونظير هذا قول ذي الرمة:
وظاهر لها من يابس الشخت
وبائس الشخت وقد مر بيانه، وقول ذي الرمة فيه: إن "بائس" و"يابس" واحد، ومثل ذلك قوله:{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]، فقيل: كالنهار بيضاء لا شيء فيها، وقيل: كالليل سوداء لا شيء فيها، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان.
والتاسع: أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيرًا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه، وتقع في غيرها كثيرًا أيضًا، كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه، وأشباه ذلك.
والعاشر: الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد كما اختلفوا في الخبر: هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب؟
فهذا خلاف في عبارة، والمعنى متفق عليه، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناءً على مرادهم فيهما. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال القاضي عبد الوهاب في مسألة "الوتر أواجب هو؟ ": "إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة، وإن لم يريدوا ذلك، وقالوا: لا يحرم تركه ولا يجرح فاعله، فوصفه بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه".
وما قاله حق، فإن العبارات لا مشاحة فيها، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم، فلا اعتبار بالخلاف فيها.
هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف، يجب أن تكون على بال من المجتهد، ليقيس عليها ما سواها، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع.
فصل:
وقد يقال: إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضًا.
وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضًا يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه.
أما هذا الثاني، فليس في الحقيقة خلافًا؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي.
أما الأول، فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقًا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه فيه، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعًا إلى القسم الثاني، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقًا، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب، إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبًا أيضًا، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئًا، فالإصابة على قول المصوبة إضافية، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار، فإذا كان كذلك، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون.
ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين للَّه بالعبادات المختلفة، كرجل تقربه الصلاة، وآخر تقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه للَّه المعبود وإن اختلفوا في أصناف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= التوجه، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدًا، ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى، لا إلى تحري مقصد الشارع، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها، بل ليتعرف منها المقصد المتحد، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة، وإلا، لم يصح، واللَّه أعلم.
فصل:
وبهذا يظهر أن الخلاف -الذي هو في الحقيقة خلاف- ناشئ عن الهوى المضل، لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع، ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء:"إن كل بدعة ضلالة"؛ لأن صاحبها مخطىء من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة.
فإن قيل: هذا مشكل، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول، وفرعوا عليها الفروع، واعتبروهم في الإجماع والاختلاف، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها، بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها، كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها، وذلك في علمي الأصول معًا بين، وما يتفرع عنها مبني عليها.
والثاني: إذا سلم اعتدادهم بها، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسًا، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره، فمثله لا يقال فيه: إنه متبع للهوى مطلقًا، بل هو متبع للشرع، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة.
وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد، =