الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: حد السرقة
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حكم إقامة حد السرقة فيما لو اشترك رجلان في نقب جدار، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل.
المسألة الثانية: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره.
المسألة الثالثة: لو سرق عبد من مال ولد سيده أو والده، هل تقطع يده؟
المسألة الأولى: حكم إقامة حد السرقة فيما لو اشترك رجلان في نقب (1) جدار، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل.
من المقرّر أن من شروط إقامة حد السرقة أخذ المال من حرزه (2)،
وأن يؤخذ المال خفية واستتارًا (3)، وأن يبلغ المال المسروق نصابًا (4).
فما حكم إقامة حد السرقة فيما لو اشترك رجلان في نقب جدار، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل.
في المسألة قولان:
القول الأول: لا قطع على كل واحد منهما، وهو قول أبي حنيفة، والأظهر عند الشافعية (5)، وهو اختيار الصيدلاني (6).
(1) نقب الحائط والجدار هو خَرْقُه، انظر: المصباح المنير (2/ 620).
(2)
الحرز عند الفقهاء: الموضع الحصين الذي يحفظ فيه المال عادة، بحيث لا يُعدّ صاحبه مضيعًا له بوضعه فيه.
وحرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان، وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه؛ لأن اعتباره ثبت شرعًا من غير تنصيص على بيانه.
انظر: فتح القدير (5/ 380)، شرح الخرشي (8/ 97)، مغني المحتاج (5/ 474)، كشاف القناع (6/ 136).
(3)
انظر: فتح القدير (5/ 354)، شرح الخرشي (8/ 91)، تحفة المحتاج (9/ 124)، شرح المنتهى (3/ 367).
(4)
انظر: المبسوط (9/ 136)، بدائع الصنائع (7/ 77)، الفواكه الدواني (2/ 215)، روضة الطالبين (10/ 110)، شرح منتهى الإرادات (3/ 367).
(5)
انظر: العناية (5/ 388)، تحفة الفقهاء (3/ 152)، التهذيب (7/ 371)، روضة الطالبين (10/ 135)
(6)
في نهاية المطلب (17/ 234): "لو اشترك الرجلان في النقب كما ذكرناه، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا قطع على واحدٍ منهما؛ فإن الداخل لم يتمم الإخراج، والخارج الآخذ لم يأخذ من حرز تام. والقول الثاني - أنه يجب القطع عليهما؛ لاشتراكهما في الإخراج. وقطع الصيدلاني بنفي القطع عنهما"
القول الثاني: عليهما القطع، وهو قول المالكية ووجه عند الشافعية، ومذهب الحنابلة (1).
أدلة القول الأول:
1.
لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز، والخارج لم يتناوله من داخل الحرز، فلم يجب عليهما القطع، كما لو دخل أحدهما وأخرج المال إلى قرب النقب ولم يخرجه، وقد مَضَى وتركه (2).
2.
لأن الأول لم يخرج المال قبل خروجه والثاني لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد، ألا ترى أنه خرج من الحرز وليس معه في يده مال حقيقة ولا حكمًا؟ إذ المال في يد الآخذ منه (3).
3.
قال الإمام الصيدلاني: "كل واحدٍ منهما يسمى السارق اللطيف"(4).
ولعله يقصد السارق الذي تحيّل بحيلة حتى لا تُقطع يده، بناء على ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:"اللص إذا كان ظريفًا لا يقطع، قيل: وكيف ذلك؟ قال أن ينقب البيت فيدخل يده ويخرج المتاع من غير أن يدخله"(5).
ويجاب -إن كان يقصد أثر علي رضي الله عنه:
1.
أن هذه الرواية لا توجد في الدواوين المعتمدة، وتارة تُروى عن عمر رضي الله عنه
(1) انظر: المبسوط (9/ 147)، شرح الخرشي (8/ 100)، حاشية الدسوقي (4/ 344)، التهذيب (7/ 371) البيان (12/ 462)، المغني (9/ 141)، شرح المنتهى (3/ 371).
(2)
انظر: البيان (12/ 462)، بحر المذهب (13/ 67).
(3)
انظر: المبسوط للسرخسي (9/ 147)، الهداية (2/ 368).
(4)
نهاية المطلب (17/ 234).
(5)
نفس المرجع.
وتارة عن الحسن، والذي وجدته مسندًا من قول عبيدة (1).
2.
أن المعنى المتواتر عند أهل الغريب واللغة أن الظريف هنا، البليغ الجيد الكلام الذي ربما يسقط بكلامه الحد، وقد يطلق الظريف على حسن الوجه والهيئة.
قال الأصمعي (2):
"الظريف البليغ الجيد الكلام"، وقالا:"الظرف في اللسان". واحتجا بقول عمر رضي الله عنه: إذا كان اللص ظريفًا لم يقطع معناه، إذا كان بليغًا جيد الكلام احتج عن نفسه بما يسقط عنه الحد، وقال غيرهما: الظريف الحسن الوجه والهيئة (3).
قال الحسن: "إذا كان اللص ظريفًا لم يُقطَع، أي إذا كان فصيحًا بليغًا احتجّ عن نفسه بما يُسقِطُ عنه الحدَّ"(4).
أدلة القول الثاني:
1.
يقطع الداخل؛ لأن سرقته قد تمت بأخذ المال المحرز، والخروج بعد ذلك ليس
(1) المسند للشاشي (2/ 98)
(2)
هو الإمام عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي: راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. نسبته إلى جده أصمع. ومولده ووفاته في البصرة. الأعلام للزركلي (4/ 162)
كان الرشيد يسميه "شيطان الشعر". قال الأخفش: "ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي". وقال أبو الطيب اللغوي: "كان أتقن القوم للغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم حفظًا". وكان الأصمعي يقول: "أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة". وتصانيفه كثيرة، منها "الإبل"، و"خلق الإنسان" و" المترادف" و"شرح ديوان ذي الرمة" وغيرها كثير، وللمستشرق الألماني وليم أهلورد كتاب سماه "الأصمعيات" جمع فيه بعض القصائد التي تفرد الأصمعي بروايتها. وأعاد أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون طبعها، ومحققة مشروحة، وسمياها "اختيار الأصمعي" مات سنة 216 هـ. انظر: تاريخ بغداد (10/ 409)، الأعلام للزركلي (4/ 162).
(3)
تهذيب اللغة (14/ 267) الزاهر في معاني كلمات الناس (1/ 112)، كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 381)، النهاية (3/ 157).
(4)
تصحيح التصحيف وتحرير التحريف (ص: 370).
تتميم فعل السرقة بل للنجاة من صاحبه (1).
2.
القياس على حد الزنا يجب بنفس الإيلاج، وإن أخذ على ذلك قبل أن ينزع نفسه (2).
ونوقش:
بأنَّ هناك يحصل مقصوده في الإيلاج، وهاهنا يحصل مقصوده في صرف المسروق إلى شهواته وحاجاته، وذلك يكون بعد الإخراج، فلا يقطع إذا أخذ قبل أن يخرج (3).
3.
لأنهما اشتركا في النقب وإخراج المال فلزمهما القطع، كما لو نقبا معًا ودخلا معًا وخرجا معًا فأخرجا المال (4).
الترجيح:
الذي يظهر -والله أعلم- القول الأول بعدم القطع للشبهة القوية في ذلك، وتدرأ الحدود بالشبهات، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات» (5)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«ادرؤوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم» (6)، والله أعلم.
* * *
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (9/ 147).
(2)
نفس المرجع.
(3)
نفس المرجع.
(4)
البيان (12/ 462)، المغني (9/ 141).
(5)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 511)، وحكم عليه ابن حزم بالانقطاع في المحلى (12/ 59)، وقال السخاوى في المقاصد الحسنة (ص: 74): "وكذا أخرجه ابن حزم فى "الإيصال" له بسند صحيح".
(6)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 511)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 415) قال البيهقي:"هذا موصول"، وحكم عليه ابن حزم بالانقطاع في المحلى (12/ 59)، وصححه الألباني في الإرواء (8/ 26).