الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: لو أخذ بعض الغانمين شيئًا من الطعام، وأقرضه غانمًا آخر، فهل الإقراض يتعلق به حكم
؟
الغنيمة: هي المال المأخوذ من أهل الحرب بالقتال على سبيل القهر والغلبة (1).
"وقد أجمع العلماء على إباحة طعام الحربيين ما دام المسلمون في أرض الحرب، يأكلون منه قدر حاجتهم، ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه، ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الزهري. وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئًا إلى عمارة دار الإسلام، فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم (2)، وقال الأوزاعي (3):
لا يلزمه. وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب ولا غيرها، فإن بيع منه شيء لغير الغانمين كان بدله غنيمته، ويجوز أن يركب دوابهم، ويلبس ثيابهم، ويستعمل سلاحهم في حال الحرب
(1) انظر: بدائع الصنائع (7/ 117)، روضة الطالبين (6/ 368).
(2)
المغنم يأتي بمعنى محل اجتماع الغنائم قبل قسمتها، ويأتي بمعنى الغنيمة، وتصح إرادته هنا؛ لأنها المال المغنوم كما في الحديث (الرجل يقاتل للمغنم). انظر: مختار الصحاح (ص: 230)، تحفة المحتاج (9/ 258).
(3)
الأوزاعي شيخ الإسلام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي الحافظ: وُلِد سنة ثمان وثمانين وحدث عن عطاء بن أبي رباح والقاسم بن مخيمرة وشداد أبي عمار وربيعة بن يزيد والزهري ومحمد بن إبراهيم التيمي ويحيى بن أبي كثير وخلق.
وقال إسماعيل بن عياش: سمعتهم يقولون سنة أربعين ومائة: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.
قال الحاكم: "الأوزاعي إمام عصره عمومًا وإمام أهل الشام خصوصًا". وهو إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، قال الذهبي:"كان أهل الشام ثم أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي مدة من الدهر، ثم فني العارفون به وبقي منه ما يوجد في كتب الخلاف" وقال: "وكان يصلح للخلافة". قال أبو زرعة الدمشقي: كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر. ولد في بعلبكّ، ونشأ في البقاع، وسكن بيروت وتوفي بها.
وعرض عليه القضاء فامتنع. قال صالح بن يحيى في (تاريخ بيروت): (كان الأوزاعي عظيم الشأن بالشام، وكان أمره فيهم أعز من أمر السلطان)، مات في ثاني صفر سنة سبع وخمسين ومائة -رحمه الله تعالى-.
أخذ عن أبي سلام. انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 134)، الأعلام للزركلي (3/ 320).
بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام وشرط الأوزاعي إذنه وخالف الباقين" (1).
قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كُنَّا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكل ولا نرفعه"(2).
قال الإمام الجويني: "قال المحققون: لو قلَّ الطعام، واستشعر الأمير الازدحام والتنازع فيه، جعله تحت يده، وقسمه على المحتاجين على قدر حاجاتهم، وله أن يمنع من معه كفايته مزاحمة المحتاجين"(3).
والغانم إذا أخذ طعامًا قبل القسمة، وأراد أن يقرضه لغيره، فإما أن يقرضه لغير غانم، أو لغانم.
وأما قرضه لغير الغانم فقد قال النووي رحمه الله: "ليس للغانم أن يقرض ما أخذه من الطعام والعلف لغير الغانمين"(4).
(1) انظر: الاستذكار (5/ 52)، إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 114)، شرح النووي على مسلم (12/ 102)، شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2766)، مرقاة المفاتيح (6/ 2584)، عون المعبود (7/ 264).
الهداية (2/ 386)، الجوهرة النيرة (2/ 265)، المدونة (1/ 523)، الجامع لمسائل المدونة (6/ 199)، روضة الطالبين (10/ 263)، أسنى المطالب (4/ 197)، المغني (9/ 278)، الإنصاف (4/ 153).
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، رقم (3154).
(3)
انظر: نهاية المطلب (17/ 437)، روضة الطالبين (10/ 266)، أسنى المطالب (4/ 198)، تحفة المحتاج (9/ 258).
(4)
روضة الطالبين (10/ 264)، ومثله البيع. انظر: المغني (9/ 279).
وأما إقراضه لغانمٍ آخر، وهل الإقراض يتعلق به حكم؟ فهي المسألة المراد بحثها.
في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس على المستقرض شيء إذا استهلكه، فإن لم يستهلكه بعد، فالمقرض أحق به إذا أراد استرداده، وإن كان الآخذ محتاجًا إليه والمعطي غنيًا عنه فليس له أن يأخذه منه، وإن كانا غنيين عنه حين أقرضه، ثم احتاجا إليه قبل الاستهلاك، فالمعطي أحق به، وإن احتاج إليه الآخذ أولًا، ثم احتاج إليه المعطي أو لم يحتج إليه، فلا سبيل له على الآخذ، وهذا هو قول الحنفية (1).
القول الثاني: لا يحل أن يقرض غانمٌ طعامًا لغانم آخر، فإن أقرضه وأخذه المستقرض فلا شيء عليه، وهو أحق به، ولا يلزمه إيفاؤه، وهو قول المالكية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية (2).
قال الحنابلة: إن باعه به نسيئة، أو أقرضه إياه، فأخذه، فهو أحق به، ولا يلزمه إيفاؤه، فإن وفَّاه، أو رده إليه، عادت اليد إليه كما كانت (3).
وقول الحنفية قريب من قول المالكية والحنابلة؛ إذ جميعهم يقولون: إذا اقترض الغانم طعامًا من الغنيمة لا يلزمه الوفاء، إلا أن الحنفية يستثنون من ذلك مسألتين: أولها: إذا لم يستهلك المقترض الطعام، وثانيها: إذا كان المقرض والمقترض غنيين، ثم احتاجا إليه قبل الاستهلاك فالمعطي أحق به في المسألتين عندهم، والله أعلم.
القول الثالث: أن للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله من المغنم، لا من خالص ماله، ما داما بدار الحرب ولم يدخلوا دار الإسلام، ولم تزل يده عنه إلا ببدل، وليس ذلك قرضًا محققًا، فإن نفد وفرغ الطعام ولم يوجد في المغنم بدله سقطت المطالبة، فإذا دخلوا
(1) انظر: شرح السير الكبير (ص: 1227)، الفتاوى الهندية (2/ 210).
(2)
انظر: المدونة (1/ 523)، الجامع لمسائل المدونة (6/ 199)، نهاية المطلب (17/ 438 - 439)، الوسيط في المذهب (7/ 35)، العزيز شرح الوجيز (11/ 432)، روضة الطالبين (10/ 265)، المغني (9/ 279)، الإنصاف (4/ 153)، كشاف القناع (3/ 74).
(3)
انظر: المغني (9/ 279)، الإنصاف (4/ 154)، كشاف القناع (3/ 74).
دار الإسلام، ولم يَعِزَّ الطعام ردَّه المقترض إلى الإمام، فإن بقي عين المقترَض رده إلى المغنم. وهو الصحيح عند الشافعية (1)، واختيار الصيدلاني (2).
ففي الجملة تكاد تتفق المذاهب على أنه ليس قرضًا محققًا مع اختلافهم في بعض التفاصيل.
تعليل القول الأول:
1.
قالوا: ليس على المستقرض شيء؛ لأن حقيقته تناولٌ من طعام الغنيمة، وهو مال مباح ملك للجميع، وإنما الاستقراض كان لتطيب نفسُ صاحبه بالتسليم إليه، فلا يلزمه ضمان باستهلاكه (3).
2.
قالوا: وقولنا: إن لم يستهلكه بعد، فالمقرض أحق به إذا أراد استرداده؛ لأن المقرض لم يرضَ بتحويل اليد إلى صاحبه، إلا بشرط أن يلتزم ويوجب على نفسه أن يردَّ مثله، وقد تعذّر إيجاب هذا الشرط فينعدم رضاه، ويصير حكمه كما لو أخذه صاحبه
(1) انظر: روضة الطالبين (10/ 265)، أسنى المطالب (4/ 198)، الغرر البهية (5/ 126)، تحفة المحتاج (9/ 256)، مغني المحتاج (6/ 45)، نهاية المحتاج (8/ 73).
(2)
في حاشية نهاية المطلب (17/ 441): "وقطع الصيدلاني في البيع بالبطلان، وفي الإقراض بإثبات حكم"(البسيط: 5/ورقة: 163 شمال). وفي نهاية المطلب (17/ 438 - 439): "وذكر الصيدلاني وغيره من المعتبرين أن الإقراض يتعلق به حكم، فإن الآخذ مقدارَ الحاجة يصير أوْلى به، ويثبت له حق اليد فيه، وفائدة هذا الوجه أنه يطالبه بما أخذه أو بمثله، ما داما في دار الحرب، فإن اتصل الجند بدار الإسلام فالمستقرض لا يرد على المقرض شيئًا، فإنه انقطعت حقوق الغانمين عن الأطعمة بالتعلّق بدار الإسلام" وقال في (17/ 439): "والوجه الذي ذكره الصيدلاني أن للمقرض مطالبة المستقرض ما داما في دار الحرب، وهذا نص الشافعي: "فإذا خرج إلى دار الإسلام، فالردّ على الإمام "، إذا كانت العين قائمة، فأما إذا أُكل واستُهلك، وتعلقا بدار الإسلام فالذي قطع به كل محقق أنه لا يطالَب المستقرض بشيء. وإن كانت العين قائمة، وتيسّر الردّ إلى المغنم ردّ، وإن تعذّر، ففيه التردّد الذي ذكرناه".
(3)
انظر: شرح السير الكبير (ص: 1227 - 1228).
منه بغير رضاه؛ يلزمه رده لا لكونه مالكًا له، ولكن لكون أحق به لسبقه (1).
3.
وقولنا: وإن كان الآخذ محتاجًا إليه والمعطي غنيًا عنه فليس له أن يأخذه منه؛ لأنه لو أخذه منه بغير رضاه كان هو أحق به لحاجته إليه، وغنى صاحبه عنه، فإذا أخذه برضى كان أولى ألا يأخذه منه (2).
4.
وقولنا: إن كانا غنيين عنه حين أقرضه، ثم احتاجا إليه قبل الاستهلاك فالمعطي أحق به؛ لأن حاجتهما إذا اعترضت قبل حصول المقصود، فهو في حكم الموجود عند ابتداء الأخذ، وقد بينا أن رضى المعطي لم يتم به حين لم يسلم له الشرط، فهو أحق بالاسترداد (3).
5.
قولنا: وإن احتاج الآخذ أولًا ثم احتاج إليه المعطي، أو لم يحتج إليه فلا سبيل له على الآخذ؛ لأن باعتبار حاجة الآخذ قد اتصفت يده بالحقيقة، فلا يكون لأحد أن يزيلها بغير رضاه، وإن احتاج إلى ذلك (4).
تعليل القول الثاني:
1.
لأن الغانم لا يملك ما يأخذه، وإنما له حق الانتفاع، والغانمون في أطعمة المغنم كالضِّيفان (5)؛ لا يتصرفون فيما قُدِّم إليهم إلا بالأكل، فأما الإقراض والبيع، فلا مجيز له (6).
2.
قالوا: لأن الآخذ (المقترض) من جملة المستحقين، وإذا حصل الطعام في يده، فكأنه أخذه بنفسه (7).
(1) انظر: شرح السير الكبير (ص: 1228).
(2)
نفس المرجع.
(3)
انظر: شرح السير الكبير (ص: 1228).
(4)
انظر: شرح السير الكبير (ص: 1228 - 1229).
(5)
يقال: "أضياف وضيوف وضيفان" جمع ضيف. انظر: لسان العرب (9/ 209)
(6)
انظر: نهاية المطلب (17/ 438)، الوسيط في المذهب (7/ 35)، تحفة المحتاج (9/ 256).
(7)
انظر: العزيز شرح الوجيز (11/ 432)، روضة الطالبين (10/ 265).
تعليل القول الثالث:
1.
قالوا: للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله من المغنم؛ لأنه إذا أخذه صار أحق به، ولم تزل يده عنه إلا ببدل (1).
2.
قولنا: وليس له مطالبته به من خالص ماله، إذ ليس ذلك قرضًا محققًا؛ لأن الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يَمْلِكَهُ غيرُه، ولا تمليك هنا (2).
3.
قولنا: لو رد المقترض ما أخذه من ماله لم يأخذه المقرض؛ لأن الذي أخذه غير المملوك، وماله الخاص مملوك، فغير المملوك لا يقابل بالمملوك (3).
4.
قولنا: إذا دخلوا دار الإسلام، ولم يَعِزَّ الطعام، ردَّه المقترض إلى الإمام لانقطاع حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم (4).
5.
قولنا: فإن بقي عين المقترَض رده إلى المغنم؛ لأن فضل الزاد يجب رده إلى المغنم (5).
الترجيح:
الناظر للأقوال وتعليلاتها، يجدها متجاذبة، وأرجحها -والعلم عند الله- القول الثاني؛ بأنه لا يحل القرض، ولا يلزم الآخذ الوفاء. وكون المعطي مستحقًا أولًا لا يلزم منه الضمان؛ لأن المال في الأصل مباح؛ فهو يتعلق بالجميع، وكونه انتقل إلى غيره فقد زالت
(1) انظر: العزيز شرح الوجيز (11/ 432)، روضة الطالبين (10/ 265)، أسنى المطالب (4/ 198).
(2)
انظر: نفس المراجع، الغرر البهية (5/ 126)، مغني المحتاج (6/ 46).
(3)
نفس المراجع.
(4)
انظر: أسنى المطالب (4/ 198)، مغني المحتاج (6/ 46).
(5)
نفس المراجع.
يده إلى من له أحقية بالطعام أصلًا.
وعلى القول بأن من قتل كلبًا فلا ضمان عليه؛ لأنه لا قيمة له، وليس له عوضٌ شرعي؛ لأنه لا يجوز بيعه (1)، وهذا مع استحقاق صاحبه له بالانتفاع، فمن باب أولى هنا، والله أعلم.
* * *
(1) انظر: كشاف القناع (4/ 78).