الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الشهادات
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حكم خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدحٍ وإطراء (بدون أن يهجو، ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة).
المسألة الثانية: هل تقبل شهادة الحسبة في الوقف إن كان على معيّنين، وقلنا: الملك في الرقبة لله تعالى؟
المسألة الثالثة: حكم قبول البيِّنة حسبة إذا شهد شاهدان أن المرأة ولدت الولد على فراش زوجها لستة أشهر فصاعدًا، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر.
المسألة الأولى: حكم خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدحٍ وإطراء (بدون أن يهجو، ولا يتعرض لعِرضٍ، ولا يشبب بامرأة (1) معيّنة).
أصل الشعر مباحٌ بلا خلاف (2)، "والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلامٌ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح"(3)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشعر بمنزلة الكلام، حَسَنه كحُسنِ الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"(4).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا» (5).
"فالمراد به أن يكون الشعر غالبًا عليه مستوليًا عليه، بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضرُّ حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأنّ جوفه ليس ممتلئًا شعرًا، والله أعلم"(6)، "وقيل: المراد به ما كان
(1) شبب بالمرأة: أي قال فيها الغزل. لسان العرب (1/ 481).
(2)
انظر: المغني (10/ 158).
(3)
أضواء البيان (6/ 105).
(4)
رواه البخاري في الأدب المفرد (ص: 299)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/ 350)، والدارقطني في سننه (5/ 275)، من حديث عبد الله بن عمرو، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 122)، وله شاهد عن عائشة رضي الله عنها رواه البخاري في الأدب المفرد (ص: 466)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 200)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 405)، والدارقطني في سننه (5/ 274)، وقال البيهقي: مرسل، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (10/ 539)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 808)، رقم (447).
(5)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن، رقم (6154)، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الشعر، رقم (2257).
(6)
انظر: غريب الحديث لأبي عبيد ابن سلام (1/ 36)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 470)، شرح النووي على مسلم (15/ 14).
هجاءً وفحشًا" (1)، والتحقيق أن الخبر محمول على المعنيين (2).
وأما قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (3).
"فالمراد بالآية من أسرف وكذب؛ بدليل وصفه لهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (4)، ثم استثنى المؤمنين؛ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (5)، ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين، والكذب، وقذف المحصنات، وهجاء الأبرياء، سيما من كان في ابتداء الإسلام، ممن يهجو المسلمين، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويعيب الإسلام، ويمدح الكفار، فوقع الذم على الأغلب، واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة، فالآية دليل على إباحته، ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة"(6).
والناس من أهل الأدب في قيمة الكذب في الشعر مشارب؛ فمنهم من يرى "أن
(1) المغني (10/ 158 - 159).
(2)
أضواء البيان (6/ 105).
(3)
سورة الشعراء: 224.
(4)
سورة الشعراء: 225 - 226.
في كل وادٍ يهيمون: "يعني الشعراء في كل واد يذهبون، كالهائم على وجهه على غير قصد، بل جائرًا على الحق، وطريق، الرشاد، وقصد السبيل. وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قومًا ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور". تفسير الطبري (17/ 676).
(5)
سورة الشعراء: 227.
في كل وادٍ يهيمون: "يعني الشعراء في كل واد يذهبون، كالهائم على وجهه على غير قصد، بل جائرًا على الحق، وطريق، الرشاد، وقصد السبيل. وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قومًا ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور". تفسير الطبري (17/ 676).
(6)
المغني (10/ 158 - 159).
أحسن الشعر أكذبه" (1)، وقيل: "أعذبه أكذبه" (2)، "وقال بعض الحكماء: لم يُر متديّنٌ صادق اللهجة مفلقًا (3) في شعره" (4). ولذا قيل: "أن كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق نزل شعره، ولم يكن جيدًا" (5). "قال الأصمعي: الشعر نكد؛ يقوى في الشر، وسهل، فإذا دخل في الخير ضعف، ولأن هذا حسان (6) فحل من فحول الشعراء في الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره"، وقال مرة أخرى: "شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، وقيل لحسان:"لان شعرُك أو هرم شعرك في الإسلام يا أبا الحسام؟ ! ". فقال للقائل: "يا ابن أخي إن الإسلام يحجز عن الكذب أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب"؛ يعني: إن شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق، وذلك كله كذب" (7).
وقال بعضهم: "لا والله، ما أجوده إلا أصدقه"(8)، "وقد قال الحذاق: خير الكلام الحقائق، فإن لم يكن فما قاربها وناسبها" (9)، و"الشعر تميَّز بأن أساسه التأثير بواسطة
(1) المفردات في غريب القرآن (ص: 456).
(2)
المحاضرات في اللغة والأدب (ص: 17).
(3)
شاعر مُفْلِق: أي مجيد، يجيء بالعجائب في شعره. انظر: لسان العرب (10/ 309).
(4)
المفردات في غريب القرآن (ص: 456).
(5)
قاله الرازي في مفاتيح الغيب (2/ 347).
(6)
حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
أبو الوليد ; ويقال: أبو الحسام، الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، ابن الفريعة.
سيد الشعراء المؤمنين، المؤيد بروح القدس، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه. في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان:"اهجهم أو هاجهم وجبريل معك".
انظر: الاستيعاب (1/ 341)، سير أعلام النبلاء (2/ 512)، الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 62)
(7)
الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 346).
(8)
قاله الآمدي في الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري (2/ 58) بعد ذكره شعرًا صادقًا للبحتري.
(9)
العمدة في محاسن الشعر وآدابه (2/ 60).
التخييلات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ونحو ذلك. ولما كان الخيال صورة من صور الكذب قيل: إن أعذب الشعر أكذبه، ولكن ليس ذلك على إطلاقه، فإن العمدة في حسن الشعر وجودته على صدق الشعور وجمال التعبير. وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى الصحيح وحسن صياغتها في تعبير جميل، ولعل حسان رضي الله عنه كان يعني هذا الميزان حينما قال:
وإن أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقًا (1)
ومناسبة ذكر هذه المسألة في باب الشهادات هو الشاعر إذا كذب هل تقبل شهادته؟
ومسألتنا: في حكم خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء (بدون أن يهجو، ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة).
فالكذب في الشعر إما أن يمكن حمله على المبالغة، وإما ألا يمكن حمله على المبالغة، وكان كذبًا محضًا، فإن لم يمكن حمله على المبالغة، وكان كذبًا محضًا فهل يُلحق بالكذب؟
للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه كذب، وهو قول بعض المالكية والصحيح عند الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة (2).
القول الثاني: ليس كذبًا، وهو قول بعض الشافعية (3)، واختيار
(1) شعر أهل الحديث، د. عبد العزيز القارئ- مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (4/ 290).
(2)
انظر: شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة (2/ 493)، روضة الطالبين (11/ 229)، أسنى المطالب (4/ 342)، المغني (10/ 160)، مطالب أولي النهى (6/ 619).
(3)
انظر: روضة الطالبين (11/ 229)، أسنى المطالب (4/ 342)، الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 105).
الصيدلاني (1).
دليل القول الأول:
الشعر حكمه حكم الكلام، فالكذب فيه كسائر أنواع الكذب (2).
تعليل القول الثاني:
لأن الكاذب يُري الكذبَ صدقًا، ويروجه، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، وإنما هو صناعة (3).
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- القول بأنه كذب مذموم، لعموم نصوص النهي الكذب، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"(4)، ولذا أحجم حسان بن ثابت رضي الله عنه عن الكذب في شعره بعد دخوله
(1) في نهاية المطلب (19/ 25): "النظر في خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن منشيء هذا الفن كاذب، فهو كما لو كان يكذب على ندور أو اعتياد، وقال الصيدلاني: هذا لا يلتحق بالكذب
…
وما ذكرناه مشروط بألا يهجو، ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة". وفي العزيز شرح الوجيز (13/ 18)، وروضة الطالبين (11/ 229): (وإن كان الشاعر يمدح الناس ويطري، نُظر إن أمكن حمله على ضرب مبالغة جاز، وإن لم يمكن حمله على المبالغة وكان كذبًا محضًا، فالصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب، فترد شهادته إن كثر منه، وقال القفال، والصيدلاني: "لا يلحق بالكذب"
…
فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره، وهذا حسن بالغ).
(2)
انظر: مختصر المزني (ص: 311)، العزيز شرح الوجيز (13/ 17)، روضة الطالبين (11/ 229)، أسنى المطالب (4/ 346).
(3)
انظر: نهاية المطلب (19/ 25)، العزيز شرح الوجيز (13/ 18)، روضة الطالبين (11/ 229).
(4)
رواه البخاري في الأدب المفرد (ص: 299)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/ 350)، والدارقطني في سننه (5/ 275)، من حديث عبد الله بن عمرو، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 122)، وله شاهد عن عائشة رضي الله عنها رواه البخاري في الأدب المفرد (ص: 466)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 200)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 405)، والدارقطني في سننه (5/ 274)، وقال البيهقي: مرسل، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (10/ 539)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 808) رقم (447).
الإسلام كما تقدم.
* * *