الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: الحكم فيما لو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم
.
أجمع الفقهاء على القول بأنه لا تجوز وصية بأكثر من الثلث، وأن من وصى بأكثر من الثلث تنفّذ ثلث وصيته بعد موته، وما زاد فهو للورثة (1).
والمراد من المسألة: كيف يتم تنفيذ الثلث؟ هل هو بالقرعة بين العبيد أو غير ذلك؟
القول الأول: جُزِّئوا ثلاثة أجزاء بالعدد إن تماثلوا، أو بالقيمة إن تفاضلوا، وأقرع بينهم لتتميز الحرية بها، ويُعتق منهم جزء بالقرعة، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (2)، واختاره الصيدلاني (3).
القول الثاني: يعتق من كل واحد منهم ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته، وهو قول الحنفية (4).
وهناك وجه عند الشافعية بتوزيع الثلث مثل قول الحنفية، إلا أنهم لم يذكروا الاستسعاء (5).
أدلة القول الأول:
1.
حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: «أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجَّزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم،
(1) انظر: المقدمات الممهدات (3/ 168)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 79).
(2)
انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل (8/ 244)، منح الجليل (9/ 414)، مختصر المزني (8/ 429)، الحاوي الكبير (18/ 34)، تحفة المحتاج (7/ 26)، المغني (6/ 252)، الكافي في فقه الإمام أحمد (2/ 325).
(3)
في نهاية المطلب (19/ 71): "لو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يقرع بينهم، كما لو أعتق عبيدًا في مرض موته.
وهذا هو المذهب المعتمد، وقد قطع به الصيدلاني"
(4)
انظر: المبسوط (7/ 74 - 75)، بدائع الصنائع (4/ 99)، اللباب (2/ 793).
(5)
انظر: نهاية المطلب (19/ 71 - 72).
فأعتق اثنين، وأرَقّ أربعة، وقال له قولًا شديدًا» (1).
وهذا نص في محل النزاع، وحجة في الأمرين المختلف فيهما؛ وهما: جمع الحرية واستعمال القرعة (2).
مناقشة الحديث:
1.
عمدة الحنفية في ردّ مثل هذه الأحاديث ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطرق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر (3).
وأجيبوا (4):
أولًا: بمنع ذلك، بل هو موافق للقياس، وقياسهم فاسد؛ لأنه إذا كان ملكه ثلثهم وحده، لم يمكن جمع نصيبه، والوصية لا ضرر في تفريقها، بخلاف مسألتنا.
ثانيًا: إن سلمنا مخالفته قياس الأصول، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، سواء وافق القياس أو خالفه؛ لأنه قول المعصوم، الذي جعل الله تعالى قوله حجة على الخلق أجمعين، وأمرنا باتباعه وطاعته، وحذر العقاب في مخالفة أمره، وجعل الفوز في طاعته، والضلال في معصيته، وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم.
ثالثًا: أن الحنفية قد خالفوا قياس الأصول بأحاديث ضعيفة، فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر، ونقضوا الوضوء بالقهقهة في الصلاة دون خارجها؛ وقولهم في مسألتنا في مخالفة القياس والأصول، أشد وأعظم، والضرر في مذهبهم أعظم؛ وذلك لأن الإجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها، لا يحصل له شيء حتى يحصل للورثة مثلاه، وفي مسألتنا يعتقون الثلث، ويستسعون العبد في الثلثين، فلا يحصل للورثة شيء في الحال أصلًا، ويحيلونهم على السعاية، وربما لا يحصل منها شيء أصلًا،
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب من أعتق شركا له في عبد (1462).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (10/ 318).
(3)
انظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص (1/ 211 - 212)، بداية المجتهد (4/ 155)، المغني (10/ 318).
(4)
انظر: المغني (10/ 319 - 320).
وربما لا يحصل منها في الشهر إلا درهم أو درهمان، فيكون هذا في حكم من لم يحصل له شيء، وفيه ضرر على العبيد؛ لأنهم يجبرونهم على الكسب والسعاية، عن غير اختيار منهم، وربما كان المجبر على ذلك جارية، فيحملها ذلك على البغاء، أو عبدًا، فيسرق أو يقطع الطريق، وفيه ضرر على الميت، حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والإضرار، وتحقيق ما يوجب له العقاب من ربه، والدعاء عليه من عبيده وورثته.
قال ابن عبد البر: "في قول الكوفيين ضروب من الخطأ والاضطراب، مع مخالفة السنة الثابتة. وأشار إلى ما ذكرناه"(1).
2.
وقال بعض الحنفية: هذا الحديث غير صحيح؛ لأن فيه أن الرجل كان له ستة أعبد قيمتهم سواء، ولم يكن له معهم شيء آخر، وهذا من أندر ما يكون.
ولو ثبت فيحتمل أن الرجل أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتقهم، وفي الحديث دليل عليه؛ لأنه قال: فأعتق اثنين منهم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق أي الاثنين شاء منهم، فأقرع تطييبًا لقلوبهم، وذكر الجصاص (2):
أن معنى قوله: "فأعتق اثنين"، أي: قدر اثنين منهم، وبه نقول، فإنا إذا أعتقنا من كل واحد منهم ثلثه، فقد أعتقنا قدر اثنين منهم، ومعنى قوله فأقرع، أي: دقق النظر، يقال: فلان قَرِيعُ دَهْرِهِ، أي: دقيق النظر في الأمور، ودقَّقَ الحساب؛ بأن جعل قدر الرقبتين بينهم أسداسًا، هذا تأويل الحديث إن صح" (3).
3.
قالوا: وعلى فرض قبول الحديث نوقش الحديث من أوجه:
أ- أن هذا الخبر مقبول عندنا، محمول على معنى لا يخالف الأصول؛ فقد جاء في رواية "أن رجلًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق أعبدًا له ستة عند موته، لم يكن له مال غيرهم،
(1) انظر: المغني (10/ 319 - 320).
(2)
هو أحمد بن علي، أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص من أهل الري. من فقهاء الحنفية. سكن بغداد ودرس بها. انتهت إليه رئاسة الحنفية في وقته. من تصانيفه:(أحكام القرآن)؛ و (شرح مختصر شيخه أبي الحسن الكرخي)؛ و (شرح محتصر الطحاوي)، توفي سنة 370 هـ.
انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 84)؛ الأعلام للزركلي (1/ 171).
(3)
المبسوط للسرخسي (7/ 74 - 75).
فأثبتهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأعتق ثلث ذلك الرقيق" (1).
وفي رواية: "جَّزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتق الثلث"(2).
قوله: "ثلث ذلك الرقيق"، يقتضي حقيقته ثلثًا شائعًا في الجميع، كما لو أقرّ، فقال: له ثلث هذا الرقيق: كان شائعًا في الكل، ولم يصدق على أنه أراد واحدًا بعينه (3).
ب- ليس في هذا الخبر بيان موضع الخلاف بيننا؛ وذلك لأن تلك كانت قضية من النبي عليه الصلاة والسلام في شيء بعينه، وليس بعموم اسم يتناول ما تحته (4).
ج- نعم، الخبر مقدم على القياس، وإنما ورد الخبر في تنجيز العتق في الحياة؛ فبقّينا الوصية على القياس في اقتضاء التشريك، ورأينا بين العتق في الحياة وبين الوصية بالعتق فرقًا يقطع أحدَهما عن الثاني، ويُخرج الوصية عن كونها في معنى العتق المنجز، والفرق الذي نبديه ناشئ من عين المقصود.
وبيانه أن القرعة تقتضي تكميل العتق لعبدٍ وتكميل الرق في عبد، وكأن للشرع غرضًا في رفع تبعّض الرق والحرية، وهذا لائق بحالة الحياة؛ فإن المريض لو أعتق بعضًا من عبد، وكان العبد بكماله خارجًا من الثلث، فعتقه الموجّه على بعض العبد يسري إلى كماله؛ فلم يبعد التكميل في الحياة، والقرعة تنبني عليه، والتكميل بعد الموت ممتنع؛ فإنه لو أوصى بإعتاق بعضٍ من عبد، وكان الثلث وافيًا بتمام العبد، فالعتق لا يسري من بعض العبد إلى كماله، فإذا جرت الوصية على القياس، وانقطعت عن مورد الخبر، تعين قياس الاشتراك في الوصية حتى لا يحرم البعض (5).
د- وقالوا: لا وجه لتعيين المستحق بالقرعة؛ لأن تعيين المستحق بمنزلة ابتداء
(1) رواه مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري (2/ 401)، والطحاوي كما في شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 331).
(2)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 153)، والطحاوي كما في شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 331).
(3)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 331).
(4)
المرجع السابق (1/ 211 - 212).
(5)
نهاية المطلب (19/ 72).
الاستحقاق، فإن الاستحقاق في المجهول في حكم العين كأنه غير ثابت، فكما أن تعليق ابتداء الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارًا، فكذلك تعيين المستحق، وإنما يجوز استعمال القرعة عندنا فيما يجوز الفعل فيه بغير القرعة كما في القسمة، فإن للقاضي أن يعين نصيب كل واحد منهم بغير قرعة، فإنما يقرع؛ تطييبًا لقلوبهم، ونفيًا لتهمة الميل عن نفسه (1).
هـ- ثم إن القرعة في هذا الحديث منسوخة؛ لأن القرعة قد كانت في بدء الإسلام تستعمل في أشياء فيحكم بها فيها (2).
وأجيبوا (3):
بأن إنكارهم للقرعة غير مسلّم؛ فقد جاءت في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (4)، وقال تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (5).
(1) انظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 333)، المبسوط للسرخسي (7/ 74 - 75)، وقال السرخسي بعدها:"وبهذا الطريق كان يقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه إذا أراد سفرًا؛ لأن له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة؛ إذ لا حقَّ للمرأة في القَسْم في حال سفر الزوج، (وإنما كان يقرع عليه الصلاة والسلام بينهن، لئلا يسبق إلى ظن بعضهن أنه قصد إيثارها على غيرها، فيورثها ذلك وحشة)، وكذلك يونس صلوات الله عليه عَرف أنه هو المقصود، وكان له أن يلقي نفسه في الماء من غير إقراع، ولكنه أقرع كي لا ينسب إلى ما لا يليق بالأنبياء، وكذلك زكريا عليه السلام كان أحق بضم مريم إلى نفسه؛ لأن خالتها كانت تحته ولكنه أقرع تطييبًا لقلوب الأحبار، مع أن تلك كانت معجزة له فقد روي أن أقلامهم كانت من الحديد، وكان الشرط أن من طفا قلمه على وجه الماء فهو أحق بها، وروي أنه كان من القصب، وكان الشرط أن من استقبل قلمه جري الماء، ولم يجر مع الماء فهو أحق بها بقي اعتمادهم على الحديث". ما بين القوسين فهو من شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 333).
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار (2/ 211)، اللباب (2/ 793).
(3)
انظر: المغني (10/ 320 - 321).
(4)
سورة آل عمران: 44.
(5)
سورة الصافات: 141. الْمُدْحَضِين: أي: المغلوبين. تفسير ابن كثير (7/ 38).
وأما السنة؛ فقال أحمد: في القرعة خمس سنن (1): أقرع بين نسائه (2)، وأقرع في ستة مملوكين. وقال لرجلين:«استهما» (3)، وقال:«مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة» (4)، وقال:«لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، لاستهموا عليه» (5).
وفي حديث الزبير، أن صفية جاءت بثوبين؛ ليكفن فيها حمزة رضي الله عنه، فوجدنا إلى جنبه قتيلًا، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب. فوجدنا أحد الثوبين أوسع من
الآخر، فأقرعنا عليهما، ثم كفَّنَّا كل واحد في الثوب الذي صار له (6)، وتشاح الناس يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد (7).
قال ابن قدامة: "وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة، ولا أعلم بينهم خلافًا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بإحداهن، وإذا أراد البداية بالقسمة بينهن،
(1) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح (2/ 103).
(2)
رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها- باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز رقم (2593)، ومسلم في صحيحه في كتاب التوبة باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف رقم (2770).
(3)
رواه أبو داود، كتاب الأقضية: باب الرجلين يدعيان شيئًا وليس لهما بينة، رقم (3616)، وابن ماجه، كتاب الأحكام: باب القضاء بالقرعة، رقم (2346)، عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها" وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم (3616).
(4)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشركة، باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، رقم (2493).
(5)
رواه أخرجه البخاري، كتاب الأذان: باب الاستهام في الأذان، رقم (615)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، رقم (437).
(6)
رواه أحمد في مسنده (3/ 34)، أبو يعلى الموصلي في مسنده (2/ 45)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 563) مختصرًا، وصحح سنده الألباني في إرواء الغليل (3/ 166).
(7)
رواه البخاري معلقًا بصيغة التمريض في صحيحه، كتاب الأذان: باب الاستهام في الأذان.
وبين الأولياء إذا تساووا وتشاحّوا فيمن يتولى التزويج أو من يتولى استيفاء القصاص، وأشباه هذا" (1).
2.
"ومما علل به الجمهور قالوا: لأنه حق في تفريقه ضرر، فوجب جمعه بالقرعة، كقسمة الإجبار إذا طلبها أحد الشريكين، ونظيره من القسمة ما لو كانت دار بين اثنين، لأحدهما ثلثها، وللآخر ثلثاها، وفيها ثلاثة مساكن متساوية، لا ضرر في قسمتها، فطلب أحدهما القسمة، فإنه يجعل كل بيت سهمًا، ويقرع بينهم بثلاثة أسهم؛ لصاحب الثلث سهم، وللآخر سهمان"(2).
أدلة القول الثاني:
1.
عن أبي قلابة «أن رجلا أعتق عبدًا له عند موته، ولا مال له غيره فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه، واستسعاه في ثلثي قيمته» (3).
(1) انظر: المغني لابن قدامة (10/ 319).
(2)
نفس المرجع.
(3)
رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 397)، ولفظه عن أبي قلابة:"أن رجلًا من بني عذرة أعتق عبدًا له -يعني في مرضه- فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم ثلثه، واستسعاه في ثلثي قيمته". وقال الإمام الشافعي في الأم (7/ 19): "حديث غير ثابت". وفي معرفة السنن والآثار للبيهقي (14/ 397):
"قال الشافعي: وروى يعني من احتج في الاستسعاء، عن رجل، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن رجل، من بني عذرة. فقيل له: أو ثابت حديث أبي قلابة لو لم يخالف فيه الذي رواه عن خالد؟
فقال: من حضره: هو مرسل. ولو كان موصولًا كان عن رجل لم يسم لا يُعرف لم يثبت حديثه.
وذكره في القديم من ذلك فقال: قلت: فعن من رويت الاستسعاء؟ قال: رواه هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة: أن رجلًا من بني عذرة أعتق عبدًا له يعني في مرضه فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم ثلثه واستسعاه في ثلثي قيمته.
قال الشافعي: فقلت له: قد أخبرني عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة في الرجل من بني عذرة هذا الخبر، وقال:"أعتق ثلثه" ليس فيه استسعاء.
وذكره ابن علية، والثوري، عن خالد، عن أبي قلابة، ليس فيه استسعاء، وثلاثة أحق بالحفظ من واحد، وابن علية، والثوري أحفظ من هشيم. ونرى هشيمًا غلط فيه، ثم ضعفه بانقطاعه، كما قال في الجديد.
قال الشافعي في الجديد في روايتنا: فعارضنا منهم معارض بحديث آخر في الاستسعاء، فقطعه عليه بعض أصحابه، وقال: لا يذكر مثل هذا الحديث أحد يعرف الحديث لضعفه".
ونوقش:
أ- بضعفه (1).
ب- على فرض صحته فإنه في عتق عبد واحد، ومسألتنا في عتق أعبد.
2.
قال السرخسي (2): "أن العبيد استووا في سبب الاستحقاق، وذلك موجب للمساواة في الاستحقاق فلا يجوز إعطاء البعض، وحرمان البعض.
3.
كما لو أوصى برقابهم لغيرهم لكل رجل برقبة بل أولى؛ لأن ملك الوصية يحتمل الرجوع من الموصي والرد من الموصى له، وهذه الوصية لا تحتمل ذلك، فإذا لم يجز حرمان البعض هناك فهنا أولى.
4.
ثم فيما قاله الخصم ضرر الإبطال في حق بعض الموصى لهم، وفيما قلنا ضرر التأخير في حق الورثة، وضرر التأخير متى قوبل بضرر الإبطال كان ضرر التأخير أهون، وإذا لم نجد بدًا من نوع ضرر رجحنا أهون الضررين على أعظمهما، مع أنه ليس في هذا تعجيل حق الموصى له؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله المستسعى مكاتب فلا يعتق شيء منهم ما لم يصل إلى الورثة السعاية.
5.
وعلى قول الصاحبين، وإن تعجل العتق للعبيد، وذلك ليس بصنع منا بل بإعتاق الموصي، ولزوم تصرفه شرعًا، ولو أبطلنا حق بعض العبيد كان ذلك بإيجاب منا، ثم كلامه يشكل بما لو كان ماله دينًا على مفلس فأوصى به له، فإنه يسقط نصيبه، والباقي دين عليه إلى أن يقدر على أدائه" (3).
(1) انظر: معرفة السنن والآثار (14/ 397).
(2)
قول السرخسي يشمل التعليلات من الثاني إلى آخر الخامس.
(3)
المبسوط للسرخسي (7/ 75 - 76)، وانظر: نهاية المطلب (19/ 72).
6.
وقالوا: إنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تامًا، فلو كان له مال لنفذ بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعل السيد فيه (1).
ونوقش:
بأن هذا الأصل ليس بيِّنًا من قواعد الشرع في هذا الموضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له: إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مُبعَّض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن هاهنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم، لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله، فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس (2).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- القول الأول لحديث عمران رضي الله عنه، وهو نصٌّ في الباب، وكما قيل: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (3)، فلا يُنظر إلى قياس أو تعليل يخالف النص.
ولا يصح التفريق بين الوصية حال الحياة، وبين العتق في مرض الموت؛ إذ يتفق الجميع على عتق الثلث فقط في كليهما، إلا أنهم اختلفوا في كيفية تجزئ العتق.
* * *
(1) انظر: بداية المجتهد (4/ 155).
(2)
انظر: بداية المجتهد (4/ 155).
(3)
انظر المقالة: تفسير الزمخشري (3/ 476)، شرح القسطلاني (إرشاد الساري)(6/ 141)، فيض القدير (1/ 563) فتح القدير للشوكاني (2/ 154).