الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التاسعة: لو حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه، ففارقه الغريم وفرَّ منه
.
القول الأول: لا يحنث، وهو قول الحنفية والشافعية، ورواية عن أحمد (1).
القول الثاني: يحنث، وهو قول المالكية (2) والصحيح عند الحنابلة (3).
القول الثالث: يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل، وهو قول بعض الحنابلة (4)، واختيار الصيدلاني (5).
والظاهر من مذهب المالكية والحنابلة الحنث ما لم ينو بقوله: لا أفارق غريمي لا أفارقه أنا في خاصتي، فلا يحنث.
كما هي قاعدتهم في موجب الكفارة.
ففي المدونة: "قلت: أرأيت إن حلفتُ أن لا أفارق غريمي حتى أستوفي حقي فيفر مني أو أفْلَتَ، أأحنث في قول مالك أم لا؟
قال: قال مالك: إن كان إنما غلبه غريمه، وإنما نوى أن لا يفارقه مثل أن يقول: لا
(1) انظر: الأصل للشيباني (2/ 358)، المبسوط (9/ 23)، الأم للشافعي (7/ 79)، مغني المحتاج (2/ 407)، المغني (9/ 592)، الإنصاف (11/ 113).
(2)
عند المالكية: إذا حلف لا يفارق غريمه إلا بحقه ففر منه حنث حيث فرّط بالاتفاق، وكذا لو لم يفرِّط على المشهور؛ بأن انفلت منه كرهًا أو استغفالًا.
انظر: المدونة (1/ 612)، النوادر والزيادات (4/ 252)، (5/ 96)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (3/ 336)، مختصر خليل (ص: 84)، شرح الخرشي (3/ 74)، منح الجليل (3/ 60).
(3)
انظر: منتهى الإرادات (5/ 249)، الإنصاف (11/ 112).
(4)
فقالوا: إذا فارقه الغريم بإذنه، أو قدر على منعه من الهرب فلم يفعل: حنث. وجعلوا هذا التفصيل تفسيرًا لرواية أحمد بعدم الحنث.
انظر: الكافي (4/ 209)، المغني (9/ 592)، الإنصاف (11/ 113).
(5)
في روضة الطالبين (11/ 74): "وقال الصيدلاني: يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل".
أخلي سبيله ولا أتركه إلا أن يفر مني، فلا شيء عليه" (1).
و"قال عنه ابن وهب: وإن حلف لا فارق غريمه حتى يقضين حقه، فأتى أهل المطلوب فخلصوه منه قسرًا وضربوه فله نيته، فإن نوى لا فارقته طائعًا ولا أرسلته وأنا قادر على إمساكه فلا شيء عليه.
قال أشهب: إذا فرّ منه أو أفْلتَ حنث، إلا أن تكون له نية فيدين ويحلف" (2).
"وقال ابن القاسم: ومن حلف لا فارق غريمه فهرب منه، أو لا قبّل امرأته فقبَّلَتْه (3)
وهو غافل فلا شيء عليه ما لم يكن على التهاون
(1)(1/ 612).
(2)
النوادر والزيادات (4/ 252).
(3)
قال ابن رشد الحفيد في مسألة أخرى: "ساوى في هذه الرواية بين أن يقول: إنْ قبلتيني أو قبلتك أو تركتني أو تركتك أو فارقتني أو فارقتك أو ضاجعتني أو ضاجعتك، وقال: إنه إذا قال: إن قبلتك أو تركتك أو فارقتك أو ضاجعتك، فقبلَتْه هي أو تركته أو فارقته أو ضاجعته ولم يفعل هو بها شيئًا من ذاك؛ بل غلبته عليه بقبلة أو قهرة، أو ما أشبه ذلك أنه لا حنث عليه، وهو صحيح، وإن كانت المفارقة والمضاجعة مفاعلة من الحالف والمحلوف عليه، والتقبيل والترك فعل من الحالف وحده؛ لأن المفاعلة من غير المفاعلة إنما تفترق فيما يقتضيه اللفظ في حكم اللسان، لا فيما يقع به الحنث مما لا يقع في حكم الشرع، وذلك أن الذي يحلف ألا يضاجع امرأته لا يحنث على ما يقتضيه اللسان إلا بتضاجعهما معًا، ولا يحنث أن ضاجع أحدهما صاحبه الآخر ولم يضاجعه الآخر، وفي حكم الشرع يحنث إذا ضاجع امرأته ولم تضاجعه، كما يحنث إذا ضاجعها وضاجعته؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا يحنث بمضاجعته إياها ضاجعته هي، أو لم تضاجعه، ولا يحنث بمضاجعتها إياه إذا لم يضاجعها هو صار حلفه ألا يضاجع امرأته، بمنزلة حلفه ألا يضطجع إلى جنبها، وألا يقبلها وألا يتركها، وكذلك القول في المفارقة كالقول في المضاجعة، وفرَّق في المدونة بين الذي يحلف ألا يضاجع امرأته وألا يفارق غريمه، من جهة المعنى لا من جهة افتراق اللفظ؛ لأن المضاجعة مفاعلة كالمفارقة فقال في الذي يحلف ألا يضاجع امرأته: "إنه لا يحنث إن ضاجعته ولم يضاجعها" مثل قوله هاهنا، وقال في الذي يحلف ألا يفارق غريمه فهرب وفرّ منه: "إنه حانث إلا أن ينوي غلبته إياه؛ لأنه إذا فرّ عنه وهو قادر على منعه فقد فارقته"، وكذلك أيضًا لو ضاجعته امرأته وهو قادر على منعها لكان قد ضاجعها ولزمه الحنث، فتفرقته في المدونة بين المفارقة والمضاجعة إنما هو لافتراق المعنى عنده في قصد الحالف؛ فحمله في المفارقة على أنه إنما أراد أن يمنعه من مفارقته إياه فرآه حانثًا إذا فارقه، إلا أن ينوي أنه إنما فارقه بغلبته إياه على ذلك، وحمله في المضاجعة على ما يقتضيه اللفظ، فلم يره حانثًا إذا ضاجعته إلا أن يكون تراخى لها في مضاجعتها إياه حتى أمكنها من ذلك والله أعلم." البيان والتحصيل (6/ 172).
فيهما" (1).
وقال ابن رشد الجد (2): "فإذا نوى هو بقوله لا أفارق غريمي لا أفارقه أنا في خاصتي لم يكن عليه شيء إن فر عنه غريمه؛ لأنه يحصل بما نواه كالقائل لا أفارق غريمي إلا أن يفر عني ولو حلف ألا يفارق غريمه ونوى إلا أن يبدو له أو إلا أن يرى خيرًا من ذلك وما أشبه ذلك لم ينتفع بذلك على مذهب مالك"(3).
تعليل القول الأول:
1.
قالوا: لأن الحالف قد عقد يمينه على فعل نفسه في المفارقة، وهو ما فارق غريمه، ولا فُعل باختياره، إنما الغريم هو الذي فارقه (4).
2.
ولأن المفارقة مفاعلة منهما جميعًا؛ فالحكم هنا منوط بالتفرق، وهو يحصل
(1) النوادر والزيادات (5/ 96).
(2)
هو الإمام، العلامة، شيخ المالكية، قاضي الجماعة بقرطبة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المالكي. ولد سنة 450 هـ وهو جد ابن رشد الفيلسوف (محمد بن أحمد-صاحب بداية المجتهد).
قال ابن بشكوال: "كان فقيهًا عالماً، حافظًا للفقه، مقدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى، بصيرًا بأقوال أئمة المالكية، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم، والبراعة والفهم، مع الدِّين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن، والهدي الصالح".
من كتبه المقدمات الممهدات، والبيان والتحصيل، توفي سنة 520 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 501)، الأعلام للزركلي (5/ 316).
(3)
البيان والتحصيل (3/ 115).
(4)
انظر: الأصل للشيباني (2/ 358)، المبسوط (9/ 23)، الأم للشافعي (7/ 79)، مغني المحتاج (2/ 407)، المغني (9/ 592)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 178).
بوجود الفرقة من كل منهما (1).
3.
القياس على إذا ما حلف وقال: لا قمت، فقام غيره، لا يحنث (2).
تعليل القول الثاني:
1.
لأن معنى يمينه المقصود من نحو هذه اليمين أن لا تحصل بينهما فرقة، وقد حصلت، واليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث (3).
2.
القياس على ما لو حلف وقال: لا افترقنا (4).
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- أنه يُنظر إلى نيته، فإن نوى بقوله لا أفارق غريمي لا أفارقه أنا في خاصتي لم يكن عليه شيء إن فرّ عنه غريمه؛ لأن الأمور بمقاصدها، فإن لم تكن نية، فلا يحنث ما لم يتساهل؛ لأن فرار الغريم كالإكراه على عدم ملازمته، والشريعة لا تؤاخذ المكره، ومؤاخذة الحالف بفرار غريمه منه، وليس منه تفريط من تكليف ما لا يطاق، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:«فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزًا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» (5).
ولأن الحنث: هو الإثم في الأصل، فكيف يأثم بفعل غيره، ونلزمه بالكفارة،
ولا قدرة عليه؟ ! .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «واليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به، كما يجب في سائر العقود وأشد؛ لأن قوله: أحلف بالله، وأقسم بالله، وأولي بالله ونحو ذلك، في معنى قوله: أعقد بالله؛ لهذا عُدّي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد، فينعقد المحلوف عليه بالله، كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة، ولهذا
(1) انظر: البيان والتحصيل (3/ 115)، أسنى المطالب (2/ 50). والتعليل الثاني توضيح للأول.
(2)
انظر: المغني (9/ 592).
(3)
انظر: المغني (9/ 592)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 178 - 179).
(4)
انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 179).
(5)
مجموع الفتاوى (21/ 634).
سماه الله سبحانه "عقدًا" في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (1)، فإذا كان قد عقدها بالله فإن الحنث فيها نقض لعهد الله وميثاقه، لولا ما فرضه الله من التحلة. ولهذا سمي حلها حنثًا، والحنث: هو الإثم في الأصل. فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية، وإنما الكفارة منعته أن يوجب إثمًا» (2).
* * *
(1) سورة المائدة: 89.
(2)
القواعد النورانية (ص: 313).