الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: هل تقبل شهادة الحسبة في الوقف إن كان على معيّنين، وقلنا: الملك في الرقبة لله تعالى
؟
الحسبة: مأخوذة من الاحتساب، وهو طلب الأجر، لا لإجابة مدعٍ (1).
وشهادة الحسبة: أداء الشاهد ما شهده في حقٍّ من حقوق غيره ابتداءً منه طلبًا للثواب، لا بطلب طالب، ولا بتقدّم دعوى مدعٍ (2).
وكيفية شهادة الحسبة أن يجيء الشهود إلى القاضي ويقولون: نحن نشهد على فلان بكذا، فأحضره لنشهد عليه (3).
والشهادة تكون غالبًا بطلب المدعي بعد دعواه، فإن شهد شاهد حسبة قبل الدعوى هل تقبل شهادته؟
لتحرير المسألة نقول:
الحقوق على ضربين: حق لله تعالى، أو حق لآدمي.
وحقوق الآدمي على ضربين:
أحدهما: حق لآدمي معين كالحقوق المالية، والنكاح، وغيره من العقود، والعقوبات، كالقصاص والحد والقذف والوقف على آدمي.
الضرب الثاني: ما كان حقًا لآدمي غير معين، كالوقف على الفقراء والمساكين أو جميع المسلمين، أو على مسجد، أو سقاية، أو مقبرة مسبلة، أو الوصية لشيء من ذلك، ونحو هذا (4).
فالوقف إما إلى جهة عامة كالوقف على الفقراء، أو إلى جهة معينة.
ثم إن الفقهاء تكلموا على مسألة الوقف هل هو ناقل لملك رقبة الموقوف إلى
(1) انظر: حاشية ابن عابدين (رد المحتار)(4/ 409)، الإقناع للشربيني (2/ 641)، إعانة الطالبين (4/ 333).
(2)
نفس المراجع.
(3)
انظر: روضة الطالبين (11/ 244)، مغني المحتاج (6/ 361)، إعانة الطالبين (4/ 334).
(4)
انظر: روضة الطالبين (11/ 243)، المغني (12/ 99).
الموقوف عليهم، أم مزيل للملك عنها فقط فينتقل ملكها إلى الله؟ فيه قولان (1).
ومسألتنا على القول بانتقال الملك في الرقبة لله تعالى.
والمسألة المراد بحثها: هل تقبل شهادة الحسبة في الوقف إن كان على معيّنين، وقلنا: الملك في الرقبة لله تعالى؟ (2)
القول الأول: لا تقبل شهادته، وهو قول بعض الحنفية، وقول المالكية والشافعية والحنابلة (3).
القول الثاني: تقبل شهادته، وهو وجه عند الشافعية (4) اختاره الصيدلاني (5).
تعليل القول الأول:
1.
لأن الشهادة فيه حق لآدمي، فلا تستوفي الحق إلا بعد مطالبته وإذنه (6).
2.
ولأن الشهادة حجة على الدعوى، ودليلُ لها، فلا يجوز تقدمها عليها (7).
3.
ولأن الغالب على هذا الوقف حظوظٌ خاصة، متعلقة بأشخاص، فيبعد قبول
(1) انظر: التنبية في الفقه الشافعي (ص: 137)، تكملة المجموع (15/ 344)، كفاية النبيه (12/ 41).
(2)
علمًا بأن هناك مسألة أخرى: وهي حكم أداء الشهادة قبل طلبها.
ومسألتنا: في قبول القاضي الشهادة قَبل الدعوى في الوقف لجهة معينة.
(3)
انظر: تبيين الحقائق (6/ 223)، الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/ 409)، الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 174)، شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (7/ 305)، الوسيط (7/ 359)، مغني المحتاج (6/ 361)، المغني لابن قدامة (10/ 194)، الإنصاف (11/ 246).
(4)
نهاية المطلب (19/ 85)، الوسيط (7/ 359).
(5)
في نهاية المطلب (19/ 85)"والوقف إن كان على جهة عامة يثبت بشهادة الحسبة، وإن كان على معيّنين، فإن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى - فالذي قطع به الصيدلاني أن شهادة الحسبة تقبل فيه من غير دعوى من الموقوف عليه".
(6)
انظر: المغني (12/ 99).
(7)
نفس المرجع.
شهادة الحسبة فيها (1).
4.
ولأنه حق آدمي له إسقاطه حتى بعد قبوله، ولأنه يقضي له به (2).
تعليل القول الثاني:
1.
قالوا: لأن شهادة الحسبة مجراةٌ مجرى الإعانة والإرشاد والتنبيه على استحقاق الحقوق (3).
2.
وإذا لم يعلم صاحب الحق بحقه تجري الشهادة مجرى الإعلام والإثباتِ لحقٍّ مُشرفٍ على الضياع (4).
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- أن ذلك يرجع إلى القاضي فإن رأى أن القرائن تدل على صدق الشهود، وليس هناك تهمة قُبِلت الشهادة، وإلا فله أن يُعرض عنها، ولا يقبلها؛ لأنه إذا مُنع قبول الحسبة في الشهادة مطلقًا هنا، ربما ضاعت بسببها الحقوق، لا سيما مع جهل صاحب الحق حقه، أو عدم علمه بوجود الشهادة.
وإن كان الأولى إعلام الشهود صاحب الحق بالشهادة خروجًا من الخلاف.
قال بعض الفقهاء: "يجب على الشاهد أن يخبر صاحب الحق بالشهادة"(5).
والقبول هنا نتاج لجواز أداء الشهادة قبل طلبها (6)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم
بخير
(1) انظر: نهاية المطلب (19/ 85)، كفاية النبيه (19/ 235).
(2)
انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (7/ 306).
(3)
انظر: نهاية المطلب (17/ 103).
(4)
نفس المرجع.
(5)
انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل (7/ 305)، شرح مختصر خليل للخرشي (7/ 187)، أسنى المطالب (4/ 355)، تحفة المحتاج (10/ 237)، الإنصاف (12/ 9).
(6)
انظر: الذخيرة للقرافي (10/ 168)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 573)، الإنصاف (12/ 9).
الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» (1). وهذا عام قبل الدعوى وبعدها وقبل طلبها وبعد الطلب، ويرى بعض الفقهاء التفصيل في أداء الشهادة قبل طلبها؛ فإن كان المدعي عالماً بها، لم يجز للشاهد أداؤها حتى يسأله ذلك، وإن كان المشهود له غير عالم بها، جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها، وهذا تفصيل وجيه (2).
* * *
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب خير الشهود، رقم (1719) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(2)
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "ومن كانت عنده شهادة لآدمي، لم يخل؛ إما أن يكون عالماً بها، أو غير عالم، فإن كان عالمًا بها، لم يجز للشاهد أداؤها حتى يسأله ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» رواه البخاري. ولأن أداءها حق للمشهود له، فلا يستوفى إلا برضاه كسائر حقوقه. وإن كان المشهود له غير عالم بها، جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". رواه مسلم، وأبو داود، ومالك.
وقال مالك: هو "الذي يأتي بشهادته، ولا يعلم بها الذي هي له". وهذا الحديث وإن كان مطلقًا، فإنه يتعين حمله على هذه الصور، جمعًا بين الحديثين؛ ولأنه إذا لم يكن عالمًا بها، فتركه طلبها لا يدل على أنه لا يريد إقامتها، بخلاف العالم بها. وهذا مذهب الشافعي". المغني (10/ 195).