الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الأمان
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إقامة الكافر في موضع من جزيرة العرب (الحجاز) أكثر من ثلاثة أيام.
المسألة الثانية: إن أقام الكافر في موضع من جزيرة العرب ثلاثة أيام، ثم انتقل منه إلى موضع آخر، وأقام فيه ثلاثة أيام، ثم كذلك يقيم في كل موضع ثلاثًا فما دون.
المسألة الثالثة: بذل الإمام مالًا للكفار إذا خاف استئصال المسلمين وإبادتهم.
المسألة الأولى: إقامة الكافر في موضع من جزيرة العرب (1)(الحجاز)(2) أكثر من ثلاثة أيام.
لما كانت جزيرة العرب منبت الإسلام وعرينه، وفيها بيت الله ومهبط الوحي،
(1) وحدّ الجزيرة على ما ذكره الأصمعي وأبو عبيد القاسم بن سلام: من عدن إلى ريف العراق. طولًا، ومن جدة إلى ما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا، قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة؛ لأن بحر الحبشة وبحر فارس والفرات أحاطت بها، ونسبت إلى العرب؛ لأنها أرض العرب ومسكنها ومعدنها.
غريب الحديث للقاسم بن سلام (2/ 67)، أحكام أهل الذمة (1/ 381)، كشاف القناع (3/ 136).
(2)
تنبيه: محل الخلاف في غير حرم مكة، فأما البقاع التي من الحرم فإنهم يمنعون منها قطعًا. انظر: نهاية المطلب (18/ 63) مغني المحتاج (4/ 246).
حدود الحجاز:
(الحجاز) -في اللغة-: الحدُّ الفاصل.
وفي سبب تسميته توجيهان:
الأول: سميت الحجاز حجازا؛ لأنها قد احتُزِمَت واحتجزت بالجبال، أو بالحِرار، أو بهما، فسميت حجازًا، فهو من الاحتجاز؛ بمعنى: شدِّ الوسط بالحُجْزَة، أو بالحجاز.
الثاني: أو لأن جبالها وحرارها قد حجزت بين نجد والسراة، أو بين نجد واليمن، أو بين نجد -وهو ظاهر- وبين إقليم تهامة -وهو غائر-، أو بين الشام والغور، فسميت بذلك حجازًا.
والحجاز حجازان:
حجاز المدينة: وهو ما حجزته الحِرار، والحرار الحاجزة: هي خيط من حجارة سوداء، تمتد من الجنوب إلى الشمال في سلسلة متتابعة، فتتسع أحيانًا، وتضيق أحيانًا في مواضع.
وهي من الجنوب مما يلي مكة إلى المدينة شمالًا فتبوك: حَرَّةُ بني سُليم، فحرة واقم، فحرة ليلى، فحرة شَوْران، فحرة النار، وهي أطولها مسافة.
الحجاز الأسود: وهو ما حجزته الجبال، وهي: سَرَاةُ شَنوءة.
وسلسلة جبال السراة هذه هي أعظم جبال في بلاد العرب.
و(السراة): أعلى الشيء؛ كما يقال لظهر الدابة: السَّرَاة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتمتد من جَبَل تثليثَ جنوبًا إلى الطائف في الشمال. انظر: "تحديد الحجاز عند المتقدمين" لصالح بن أحمد العلي، بحث نشر في "مجلة العرب"(1/ 3/ص 1 - 10)، لعام 1388 هـ، وفيها:"الأقسام الجغرافية لجزيرة العرب"، عبدالمحسن الحسيني، ص 747 - 796)، نقلًا عن خصائص جزيرة العرب (ص: 12).
تنبيه:
هاهنا نقلان غريبان:
أحدهما: فيما نقله ياقوت عن ابن الكلبي: أن الحجاز ما يحجز بين تهامة والعروض واليمن.
وهذا متعذر جغرافيًا لكن لعله حصل تطبيع وخلط في العبارة، صحَّتُها:"ما يحجز بين تهامة واليمن، وبين العَروضِ".
الثاني: ما رواه الزبير بن بكار، عن عمه:"أن معنى الحجاز وجَلْس واحد" انظر: خصائص جزيرة العرب (ص: 12).
وفي خصائص جزيرة العرب (ص: 10 - 11):
"في المروي عن بعض الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ما ظاهره التعارض في مسمى (جزيرة العرب)؛ من حيث الإدخال والإخراج في أقاليم هذا المحدود.
- فعن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- ثلاث روايات:
رواية ابن وهب عنه: أنه قال: "أرض العرب: مكة، والمدينة، واليمن " ومثله قال المغيرة بن عبدالرحمن.
رواية الزهري عن مالك قال: "جزيرة العرب: المدينة، ومكة، واليمامة، واليمن". واليمامة كانت داخلة في عمل المدينة، وكان أمرها مضطربًا حسب الولاية في العصرين الأموي والعباسي، فأحيانًا تضاف إلى المدينة، وأحيانًا تفرد برأسها.
ما ذكره الباجي؛ قال: قال مالك: "جزيرة العرب: منبت العرب قيل لها: جزيرة العرب؛ لإحاطة البحور والأنهار بها".
وما في هذه الرواية الثالثة يلتقي مع التحديد المذكور.
وما في الروايتين قبلها؛ يعني: ما كان عامرًا، مشمول الولاية بالجملة، وهذا يلتقي مع مفهوم من سبق من السلف لمسمى جزيرة العرب.
وفي "صفة جزيرة العرب" للهمداني عن ابن عباس، وفي "المسالك والممالك" للبكري عن شرقي ابن القطامي وغيره: =
فقد اختصت عن سائر البلاد الإسلامية بأربعة أحكام:
الأول: أنها لا يسكنها غير المسلمين.
والثاني: أنه لا يدفن بها أحد من غير المسلمين.
والثالث: أنها لا يبقى فيها دار عبادة لغير المسلمين.
والرابع: أنها لا يؤخذ من أرضها خراج.
وفي كل من هذه الأحكام تفصيل (1).
وقد اختلف الفقهاء فيما ينطبق عليه هذا الحكم من جزيرة العرب، على أقوال (2):
= "كانت أرض الجزيرة خاوية، ليس في تهامتها ونجدها وحجازها وعروضها كبير أحد؛ لإخراب بُخْتُنَصَّر وإجلائها من أهلها؛ إلا من اعتصم برؤوس الجبال وشعابها".
- وهكذا الشأن في الرواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-:
ففي رواية بكر بن محمد عن أبيه؛ قال: سألت أبا عبدالله -يعني: الإمام أحمد- عن جزيرة العرب؟
فقال: "إنما الجزيرة موضع العرب، وأي موضع يكون فيه أهل السواد والفرس؛ فليس هو جزيرة العرب، موضع العرب: الذي يكونون فيه".
وفي رواية ابنه عبدالله عنه؛ قال: "سمعت أبي يقول في حديث: "لا يبقى دينان في جزيرة العرب": تفسيره: ما لم يكن في يد فارس والروم. قيل له: ما كان خلف العرب؟ قال: نعم".
ورواية ثالثة في المغني؛ قال: "قال الإمام أحمد: جزيرة العرب: المدينة وما والاها".
فالروايتان الأولى والثانية تلتقيان في محدود جزيرة العرب؛ لأن العرب كانت منتشرة في الظعن والإقامة والرعي والخفارة في قلب هذه الرقعة، وما أَسْحَلَتْهُ بحارها الثلاثة.
ولقول في الرواية الثالثة؛ كالشأن في توجيه الرواية عن مالك -رحمه الله تعالى-، وتقدم.
وعليه؛ فإن من عد اختلاف الرواية عن هذين الإمامين اختلافًا يوجب تكوين رأي في مسمى (جزيرة العرب) من قصرها على مكة والمدينة فقد أبعد.
وبهذا يتضح بجلاء التقاء الفقهاء مع الجغرافيين والمؤرخين في حدود جزيرة العرب".
(1)
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (3/ 127).
(2)
انظر بحث المسألة: الموسوعة الفقهية الكويتية (3/ 128).
القول الأول: أن الكفار يمنعون من سكنى جزيرة العرب كلها (1)، وهو مذهب الحنفية والمالكية (2).
القول الثاني: أن المراد بأرض العرب ليس كل ما تشمله جزيرة العرب في اللغة؛ بل أرض الحجاز خاصة، مكة والمدينة واليمامة وقراها (3)، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (4)(5).
(1) ومما استدلوا به ما رواه أحمد في مسنده (3/ 221): عن أبي عبيدة، قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(2)
انظر: بدائع الصنائع (7/ 114)، التاج والإكليل (4/ 594).
(3)
ومما استدلوا به "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب
…
" رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد: باب هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ومعاملتهم، رقم (3053)، ومسلم في صحيحه، كتاب الوصية: باب ترك الوصية لمن ليس له شيء، رقم (1637).
(4)
انظر: روضة الطالبين (7/ 497)، منهاج الطالبين (ص: 312)، حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 231)، حاشية البجيرمي على شرح المنهج (2/ 194)، الكافي (4/ 179)، الإنصاف (4/ 240)، شرح منتهى الإرادات (1/ 667).
ويشمل عندهم (قراها): الطائف وجدة وخيبر وفدك وينبع.
قال في الإنصاف (4/ 240): "اعلم أن "الحجاز" هو الحاجز بين تهامة ونجد كمكة، والمدينة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، وما والاها من قراها. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ومنه تبوك ونحوها، وما دون المنحنى. وهو عقبة الصوان". انتهى. هكذا قال: "والينبع"، وهي كذلك في كتب الشافعية والحنابلة، وأحيانًا يقولون: ينبع.
(5)
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: "يجب أن نعلم أنه لا يجوز إقرار اليهود أو النصارى أو المشركين في جزيرة العرب على وجه السكنى، أما على وجه العمل فلا بأس، بشرط ألا نخشى منهم محظورًا، فإن خشينا منهم محظورًا مثل بث أفكارهم بيننا، أو شرب الخمر علنًا، أو تصنيع الخمر وبيعه على الناس، فإنه لا يجوز إقرارهم". الشرح الممتع (8/ 82).
أما عن المدة التي يجوز أن يقيم فيها الكافر في جزيرة العرب غير الحرم المكي (1):
اختلف أهل العلم في ذلك:
القول الأول: إن قَدَّر له الإمام مدة فلا يزيد عليها، (فإن زاد جعله الإمام ذميًا، وإن لم يُقدَّر له مدة فالمعتبر هو الحول (السَّنَة)، فإن زاد صار ذميًا) تُضرب عليه الجزية، ولا يمكَّن من الخروج، وهو قول الحنفية (2).
القول الثاني: تقدر بقدر الحاجة والمصلحة، وهو قول المالكية (3).
القول الثالث: لا يؤذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام، وهو قول الشافعية والحنابلة (4)، واختاره الصيدلاني (5).
(1) ويمنع الكافر ولو لمصلحة دخول حرم مكة، لقوله تعالى:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، والمراد به الحرم بإجماع المفسرين بدليل، قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] أي فقرًا بانقطاع التجارة عنكم لمنعهم من الحرم {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] ومعلوم أن الجلب إنما يجلب للبلد، لا إلى المسجد نفسه، والمعنى في ذلك أنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم منه فعوقبوا بالمنع من دخوله بكل حال. مغني المحتاج (6/ 67 - 68).
(2)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 84)، الهداية (2/ 396)، تبيين الحقائق (3/ 268).
(3)
انظر: حاشية العدوي مع شرح الخرشي (3/ 144)، الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 201).
(4)
انظر: منهاج الطالبين (ص: 313)، مغني المحتاج (6/ 67)، شرح المنتهى (1/ 667)، كشاف القناع (3/ 136).
(5)
في نهاية المطلب (18/ 63): "فأما ما عدا حرم مكة، فلا يمتنع فيه على الكفار طروقها على هيئة الانتقال، ويحرم عليهم الإقامة، ولا يمتنع أن يؤذن لهم في دخولها مجتازين، وإن مكثوا في قرية أو بلدة، فلا يزيدنّ مكثُهم على مكث المسافرين، وهو ثلاثة أيام، من غير احتساب يوم الدخول ويوم الخروج، ولو كانوا يتناقلون من بقعة إلى بقعة ولو قيست أيام تردُّدهم، لزادت على مقام المسافرين، فلا بأس؛ فإن خِطة الحجاز لا يمكن قطعها بثلاثة أيام، حتى قال الصيدلاني وغيره: لا نكلفهم أن يجروا في انتقالهم على المنازل المعهودة، فلو قطعوها فرسخًا فرسخًا، وكانوا يقيمون على منتهى كل فرسخ ثلاثة، فلا منع ولا حجر" مفهومه أنهم لو أقاموا أكثر من ثلاثة أيام يمنعون.
والمذهب عند الشافعية: لا يحسب من المدة يومي الدخول والخروج كما في صلاة المسافر؛ لأن أكثر من ذلك مدة الإقامة (1).
واستثنى الحنابلة مسألة: فيما إن كان للكافر الداخل أرض الحجاز لتجارة أو غيرها دينٌ حال أُجبر غريمه على وفائه ليخرج. فإن تعذر وفاؤه، لمطلٍ أو تغيب أو غيرهما. جازت له الإقامة ليستوفي حقه.
ولو أمكن الاستيفاء بوكيل: منع من الإقامة حتى يحلّ.
وإن كان دينه مؤجلًا لم يُمَكَّن من الإقامة، ويوكل من يستوفيه، وإذا تعذر الوكيل يُمَكَّن من الإقامة (2).
تعليل القول الأول:
1.
قالوا: الأصل أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية؛ لأنه يصير عينًا وجاسوسًا لهم، وعونًا علينا، فتلتحق المضرة بالمسلمين (3).
2.
ويمكَّن من الإقامة اليسيرة؛ لأن في منعها قطع الميرة والجلب (4)، وسد باب
(1) انظر: مغني المحتاج (6/ 67)، نهاية المحتاج (8/ 96).
(2)
انظر: الإنصاف (4/ 240 - 241)، شرح منتهى الإرادات (1/ 667)، كشاف القناع (3/ 136).
(3)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 84)، الهداية (2/ 396)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 136)، تبيين الحقائق (3/ 268).
(4)
الميرة: الطعام تمتاره الأسنان من مار يمير. وقيل الميرة بكسر الميم وسكون الياء الطعام، والميرة بالهمزة التميمة.
وقطع الجَلَب بفتحتين، وهو كل شيء يُجلب من إبل وخيل وغنم وغيرها من الحيوانات للبيع.
انظر: العناية (6/ 22)، البناية (7/ 207)
التجارة (1).
3.
فلا بد من الحد الفاصل بين المدة اليسيرة والدائمة، فقدرناه بالسنة؛ لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية (2).
تعليل القول الثاني:
قالوا: تخصيص عمر رضي الله عنه ثلاثة أيام لكون الثلاثة كانت إذ ذاك مظنة لقضاء الحاجة، وإلا فلو كانت الحاجة تقتضي أكثر لكان ذلك كذلك (3).
دليل القول الثالث:
1.
أن عمر بن الخطاب «أجلى اليهود، والنصارى من جزيرة العرب، وضرب لمن قدم منهم أجلًا ثلاثًا، قدر ما يبيعون سلعهم» (4).
2.
الأصل منع الكافر من الاستيطان في الحجاز كما في حديث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (5)،
وغيره، فكان قدر ثلاثة أيام مستثنى من الحظر.
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 84)، الهداية (2/ 396)، العناية (6/ 22)، البناية (7/ 207)، تبيين الحقائق (3/ 268).
(2)
نفس المراجع.
(3)
انظر: حاشية العدوي على شرح الخرشي (3/ 144)، حاشية الدسوقي (2/ 201).
(4)
رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (4/ 270).
(5)
تقدم (ص: 384).
قال الماوردي: "ودليلنا: ما رواه عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" وهذا نص.
ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط حكم قوله، وتشاغل أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة، ومانعي الزكاة، وتطاولت الأيام بعمر رضي الله عنه، وتكاملت له جزيرة العرب، وفتح ما جاورها - نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فاجتمع رأيه، ورأي الصحابة رضي الله عنهم على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء، وصناع، يحتاج المسلمون إليهم فضرب لمن قدم منهم تاجرًا، وصانعًا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم، بعدها اخرجوا، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها:"أقركم ما أقركم الله " فدل على أن مقامهم غير مستدام، وأن لحظره فيهم حكمًا مستجدًا.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب".
فمات قبل نفيهم، ولأن الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى، ومبعث رسالته ومستقر دينه، ومهاجرة رسوله صلى الله عليه وسلم صار أشرف من غيره، فكانت حرمته أغلظ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك كالحرم" الحاوي الكبير (14/ 336 - 337).
3.
ولأن أكثر من ثلاثة أيام مدة الإقامة وهو ممنوع منها (1).
4.
ولأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (2)، ويكفيه أن يهتدي بسماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث (3).
5.
ولأنه لما انخفضت حرمة الحجاز عن الحرم، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في الحرم، وحرم عليهم من استيطان الحجاز ما استباحوه في غيره، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها (4).
6.
وقال الحنابلة (5):
أ. إن كان للكافر الداخل أرض الحجاز لتجارة أو غيرها دَينٌ حالّ أُجبر غريمه على وفائه؛ ليخرج، ولوجوبه على الفور، فإن تعذَّر وفاؤه، لمطلٍ أو تغيُّب أو غيرهما جازت له الإقامة ليستوفي حقه؛ لأنّ العذر والتعدي من غيرهم، وفي إخراجهم قبل استيفائه ذهاب أموالهم.
ب. قالوا: ولو أمكن الاستيفاء بوكيل مُنع من الإقامة حتى يحلّ؛ لئلا يتخذ ذريعة للإقامة.
ج. وإن كان دَينه مؤجلًا لم يُمَكَّن من الإقامة، ويوكِّل من يستوفيه، لإمكان الاستيفاء، وإذا تعذر الوكيل يُمَكَّن من الإقامة؛ لأن في إخراجهم قبل استيفائه ذهاب
(1) انظر: مغني المحتاج (6/ 67).
(2)
سورة التوبة: 6.
(3)
الحاوي الكبير (14/ 337).
(4)
نفس المرجع.
(5)
انظر: الإنصاف (4/ 240 - 241)، شرح منتهى الإرادات (1/ 667)، كشاف القناع (3/ 136).
أموالهم.
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- قول المالكية: يقدِّر الإمام المدة بقدر الحاجة والمصلحة؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه «أجلى اليهود، والنصارى من جزيرة العرب، وضرب لمن قدم منهم أجلًا ثلاثًا، قدر ما يبيعون سلعهم» (1). وتخصيص عمر رضي الله عنه ثلاثة أيام لكون الثلاثة كانت إذ ذاك مظنة لقضاء الحاجة، وإلا فلو كانت الحاجة تقتضي أكثر لكان ذلك كذلك (2).
* * *
(1) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (4/ 270).
(2)
انظر: حاشية العدوي على شرح الخرشي (3/ 144)، حاشية الدسوقي (2/ 201).