الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره
.
حدُّ السرقة يثبت إما ببينة وشهود أو بإقرار، فإن أقر على نفسه بالسرقة ورجع عن إقراره، فإما أن يكون قبل الشروع في إقامة الحد، أو بعد الشروع فيه.
والمراد هنا بحثه عن حكم رجوع المقر بالسرقة قبل الشروع في إقامة الحد.
اختلف أهل العلم في حكم رجوع المقر بالسرقة عن إقراره على قولين:
القول الأول: يصح رجوعه في حق القطع، ويسقط الحدّ، ويجب عليه المال ويضمنه، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (1)، واختيار الصيدلاني (2).
القول الثاني: لا يقبل رجوع المقر بالسرقة عن إقراره مطلقًا، فيقام عليه الحد، ويجب عليه المال، وهو رواية عن مالك ووجه عند الشافعية، والظاهرية (3).
(1) انظر: المبسوط (9/ 182)، بدائع الصنائع (7/ 88)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 105)، المدونة (4/ 551)، الفواكه الدواني (2/ 215)، حاشية العدوي (2/ 334)، الأم للشافعي (7/ 59)، العزيز (11/ 228)، أسنى المطالب (4/ 150)، المغني (9/ 138)، الفروع (10/ 40)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (6/ 357).
(2)
في نهاية المطلب (17/ 271 - 272): "إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره، فرجوعه عن الإقرار مقبولٌ في القطع ساقطٌ قولًا واحدًا، وهل يسقط الإقرار بالمال؟
وقد ذهب إلى القطع بسقوط القطع وبقاء الغرم طوائف من المحققين، منهم الصيدلاني وغيره"
(3)
قال الخطابي في معالم السنن (3/ 319): "وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبو ثور.
وقد حكى الليث عن ابن أبي ليلى ما يوافق الجمهور أنه يقبل رجوعه.
انظر: النوادر والزيادات (14/ 248)، منح الجليل (9/ 257)، الحاوي الكبير (13/ 212)، العزيز شرح الوجيز (11/ 228)، بحر المذهب (13/ 19)، المغني (9/ 139)، معالم السنن (3/ 319)، التمهيد (5/ 326)، (12/ 112)، المحلى بالآثار (7/ 103).
أدلة القول الأول:
1.
ما رواه أبي هريرة رضي الله عنه: «جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر، فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر، فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة، فأخرج إلى الحَرَّة فرجم بالحجارة، فلما وجد مس الحجارة فرَّ يشتد، حتى مرَّ برجل معه لحي جمل (1) فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرّ حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه» . وفي رواية «لعلك قبلت أو غمزت» ، «هلا تركتموه لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (2).
وجه الدلالة:
1.
قوله له: "لعلك قبَّلت أو غمزت".
كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف قد سبق منه، فلو أنه قال: نعم قبلت أو غمزت لسقط عنه حد الرجم، وإلا لم يكن لتعريضه لذلك معنى، فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهي الرجوع (3).
2.
قوله: (هلا تركتموه) استدل به على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار ويسقط عنه الحد؛ إذ لا معنى لذلك إلا قبول رجوعه (4).
(1) اللحي: هو العظم الذي فيه الأسنان. انظر: لسان العرب (15/ 243).
(2)
رواه أحمد في المسند (24/ 322)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4419)، ورواه الترمذي في سننه، أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع (1428)، والنسائي في السنن الكبرى (7167) وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب الرجم (2554)، وعبد الرزاق في المصنف (7/ 322)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 538)، والحاكم في المستدرك (4/ 404)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 382)، وحسن إسناده الحافظ وصححه الألباني. انظر: التلخيص الحبير (4/ 164) إرواء الغليل (8/ 28).
(3)
انظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (31/ 159).
(4)
انظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص (6/ 187)، الذخيرة للقرافي (12/ 61)، تبيين الحقائق (3/ 167)، نيل الأوطار (7/ 123).
ونوقش:
بأنه لا يصح الاستدلال بهذا على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار؛ لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك؛ بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يأتي بشبهة مقبولة (1).
وأجيب عنه:
بقوله: "هلا تركتموه". ولم يزد على ذلك، ولأنه وقت الحاجة إلى بيان الحكم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، فدل على العموم (2).
وأجيب عنه:
بأنه لا دلالة في الحديث على الرجوع عن الإقرار؛ لأنه لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه؛ لأنه ارتفع إقراره، بل قال:«هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» (3).
2.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص، فاعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما إخالك سرقت؟ " قال: بلى مرتين أو ثلاثًا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوه، ثم جيئوا به". قال: فقطعوه، ثم جاءوا به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل: أستغفر الله وأتوب إليه". قال: أستغفر الله وأتوب إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم تب عليه"(4).
(1) انظر: التبصرة للخمي (13/ 6119)، السيل الجرار (ص: 851).
(2)
انظر: التبصرة للخمي (13/ 6119).
(3)
انظر: المحلى بالآثار (7/ 103)، الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/ 265).
(4)
انظر: رواه أحمد في مسنده (37/ 184)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في التلقين في الحد برقم (4380)، والنسائي في سننه، كتاب قطع السارق، باب تلقين السارق، رقم (4877)، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب تلقين السارق، رقم (2597)، والدارمي في سننه (3/ 1484).
قال الخطابي: "في إسناده مقال"، وضعفه الألباني، وقال ابن حجر:"وصله الدارقطني والحاكم والبيهقي بذكر أبي هريرة فيه، ورجح ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد إرساله، وصحح ابن القطان الموصول" انظر: التلخيص الحبير (4/ 186)، إرواء الغليل (8/ 79).
وجه الدلالة:
في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت"، عَرْضٌ له ليرجع، ولو لم يسقط الحد برجوعه لم يكن في قوله صلى الله عليه وسلم فائدة (1).
ونوقش:
بأن النبي صلى الله عليه وسلم ظن بالمعترف غفلة عن السرقة وأحكامها، أو لأنه استبعد اعترافه بذلك؛ لأنه ما وجد معه متاع (2).
أدلتهم من المعقول:
1.
أن الحد الواجب بالسرقة حق لله تعالى خالصًا، فصح الرجوع عن الإقرار كحد الزنا (3).
2.
أن الحدود تدرأ بالشبهات، ورجوعه عن الحد شبهة لاحتمال أن يكون كذب على نفسه في اعترافه (4).
وناقش ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله فقال: "أما "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (5).
(1) انظر: المغني (9/ 139)، كشاف القناع (6/ 145)، حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 127).
(2)
انظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 127).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (7/ 61)، المغني (9/ 69).
(4)
نفس المراجع السابقة.
(5)
رواه الترمذي، كتاب الحدود: باب ما جاء في درء الحدود، حديث (1424)، والدارقطني، كتاب الحدود والديات، حديث (8)، والحاكم في المستدرك (4/ 384)، والبيهقي (8/ 238)، كلهم من طريق يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة، عن عائشة، قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
قال الترمذي: "سألت محمدًا-يعني البخاري- عن هذا الحديث، فقال: "يزيد بن زياد الدمشقي منكر الحديث ذاهب" وضعفه الألباني. وقد ورد موقوفًا عن عمر وابن مسعود بإسناد حسن وقد تقدم تخريج الأثرين (ص: 261 - 262).
وقد رواه ابن عساكر بلفظ: "ادرؤوا الحدود بالشبهة".
انظر: العلل الكبير للترمذي (ص: 228)، تاريخ دمشق لابن عساكر (68/ 191)، إرواء الغليل (7/ 343).
فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضًا جاء عنه عليه السلام أيضًا، لا مسندًا، ولا مرسلًا، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود، وعمر، فقط - ولو صح لكانوا أول مخالف له؛ لأن الحنفيين، والمالكيين لا نعلم أحدًا أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم" (1).
3.
ولأن الرجوع كالإقرار الأول كلاهما خبر يحتمل الصدق والكذب، ولا مرجع للأخذ بالإقرار دون الرجوع وتلك شبهة يدرأ بها الحد (2).
(1) انظر: المحلى بالآثار (7/ 103)، وتتمته: "فالمالكيون يحدون في الزنى بالرجم والجلد بالحبل فقط -وهي منكرة- وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر، أو وهي في غير عقلها، ويقتلون بدعوى المريض: أن فلانًا قتله، وفلان منكر ولا بينة عليه.
ويحدون في الخمر بالرائحة، وقد تكون رائحة تفاح، أو كمثرى شتوي.
ويقطعون في السرقة من يقول: صاحب المنزل بعثني في هذا الشيء - وصاحب المنزل مقر له بذلك.
ويحدون في القذف بالتعريض - وهذا كله هو إقامة - الحدود بالشبهات.
وأما الحنفيون فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شيء ولا إخراجه، وإنما سرق الذي دخل فيه فقط، فيقطعونهما جميعا - في كثير لهم من مثل هذا قد تقصيناه في غير هذا المكان.
فمن أعجب شأنا ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هو أول مخالف لما احتج به من ذلك، وأما تسويتنا بين الحر، والعبد، والذكر، والأنثى ذات الأب البكر، وغير البكر، واليتيمة، وذات الزوج فلأن الدين واحد على الجميع، والحكم واحد على الجميع، إلا أن يأتي بالفرق بين شيء من ذلك: قرآن أو سنة - ولا قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا إجماع على الفرق بين شيء مما ذكرنا وبلا خلاف من أحد من أهل الأرض من المسلمين في أن الله تعالى خاطب كل من ذكرنا خطابًا قصد به إلى كل واحد منهم في ذات نفسه بقوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ".
(2)
انظر: تبيين الحقائق (3/ 167).
4.
القياس على ثبوت الحد بالشهادة؛ فإنه يسقط الحد برجوع الشهود عن شهادتهم قبل إقامة الحد، أو بعد إقامة بعضه بالإجماع، فكذلك يسقط الحد برجوع المقر عن إقراره، والجامع بينهما أن كلًا منهما حجة للقطع (1).
أما المال فاستدلوا على عدم سقوطه:
أنه حق آدمي فلم يؤثر الرجوع عن الإقرار في إسقاطه بلا خلاف (2).
أدلة القول الثاني:
1.
استدلوا بحديث ماعز رضي الله عنه (3).
وجه الدلالة:
أ - لأن ماعزًا هرب فقتلوه، ولم يتركوه (4).
ب - ولو قُبِل رجوعه، للزمتهم ديته (5).
ونوقش:
بأنه لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه؛ لأنه ليس بصريح في الرجوع. فلو رجع عن إقراره صراحةً، وقال: كذبت في إقراري. أو: رجعت عنه. أو: لم أفعل ما أقررت به. وجب تركه، فإن قتله قاتل بعد ذلك، وجب ضمانه؛ لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه، فصار كمن لم يقر (6).
1.
قالوا: ولأنه حق وجب بإقراره، فلم يقبل رجوعه، كسائر الحقوق (7).
(1) انظر: الاستذكار (7/ 503)، المغني (9/ 69).
(2)
انظر: المغني (5/ 120).
(3)
انظر: المغني (9/ 68).
(4)
نفس المرجع.
(5)
نفسه.
(6)
انظر: المغني (9/ 69)، وتتمته:"ولا قصاص على قاتله؛ لأن أهل العلم اختلفوا في صحة رجوعه، فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص؛ ولأن صحة الإقرار مما يخفى، فيكون ذلك عذرًا مانعًا من وجوب القصاص".
(7)
انظر: المغني (9/ 69). الحقوق: كالزكاة والكفارات.
2.
قياس عدم سقوط القطع على عدم سقوط المال (1).
ونوقش:
بأن بينهما فرقًا:
أ-فإن حق الآدمي مبناه على الشح والضيق (2).
ب- أن الرجوع عن الإقرار في حقوق الآدميين لم يصح لوجود خصم يصدقه في الإقرار ويكذبه في الرجوع، وذلك غير موجود فيما هو خالصُ حق الله تعالى، فيتعارض كلا من الإقرار والرجوع، وكل واحد منهما متمثل بين الصدق والكذب، والشبهة تثبت بالمعارضة (3).
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- القول الأول؛ لقوة أدلتهم وإمكان مناقشة أدلة القول الثاني. والخطأ في العفو خير من الخطأ في الظلم، وقد وردت آثار في تلقين الصحابة رضي الله عنهم لمن أقر بأمر يلزم به حد (4).
وأما إلزام ابن حزم الجمهور بفروع لم يدرؤوا بها الحدود مع كون الشبهة فيها قائمة فهذا ليس على إطلاقه عندهم، فعلى سبيل المثال قد يقوم الدليل على إقامة الحد كالحَبل كونه علامة على الزنا ما لم تدع الإكراه وعُرف صدقها، وكالقذف بالتعريض ودليله:{يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (5)، {وَبِكُفْرِهِمْ
(1) انظر: المغني لابن قدامة (9/ 139).
(2)
نفس المرجع.
(3)
انظر: المبسوط (9/ 94).
(4)
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: "أنه أتى بجارية سرقت، فقال لها: "أسرقت"؟ قولي: لا، فقالت: لا، فخلى سبيلها" رواه البيهقي (8/ 276)، وعن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: "كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا، وسمى أبا بكر وعمر" رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 224)، وابن أبي شيبة (5/ 520)، وعن عكرمة بن خالد قال:"أُتى عمر بن الخطاب برجل؛ فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه" رواه عبد الرزاق (10/ 224).
(5)
سورة مريم: 28.
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (1)، وقضى عمر رضي الله عنه بحد القذف فيمن استبّا وقال أحدهما للآخر:"والله ما أبي بزان، ولا أمي بزانية"(2)، وقد يشترطون بينة كالشهود في رائحة الخمر،
…
الخ، وأقصد هنا الجواب على الإمام ابن حزم في إلزامه الجمهور بتناقضهم وعدم اطرادهم في القاعدة، وليس المقام هو الترجيح في الفروع التي ألزمهم بها ابن حزم في عدم أخذهم بالقاعدة فيها.
وأما قول ابن حزم أنه لم يصح في درء الحدود بالشبهات حديث لا مرفوعًا ولا موقوفًا، فهذا غير مسلَّم فقد ورد موصولًا كما نقله البيهقي وغيره.
وأما نكارته لمتن الحديث؛ لأنه ليس فيه بيان ما هي تلك "الشبهات" فليس لأحد أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدًا "هذا شبهة" إلا كان لغيره أن يقول: ليس بشبهة".
فيجاب: بأن المراد الشبهة الشرعية كما في الحديث: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات (3)» (4).
ويكفينا ورود درء الحدود بالشبهات عن ثلة من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا (5)، وقد نقل الإجماع على العمل بهذا الحديث غير واحد
(1) سورة النساء: 156.
(2)
رواه مالك في الموطأ ت الأعظمي (5/ 1211)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 440)، وصححه الألباني في الإرواء (8/ 39).
(3)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ وترك الشبهات، رقم (1205).
(4)
وللاستزادة ينظر: رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بعنوان: درء الحدود بالشبهات في الشريعة الإسلامية، للباحث/إبراهيم بن ناصر البشر.
(5)
كما قال الماوردي في الحاوي الكبير (13/ 210).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وإن لم يخالف الصحابي صحابيًا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع، وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا فاختلف الناس: هل يكون حجة أم لا؟ فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة هذا قول جمهور الحنفية، صرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًا، وهو مذهب مالك، وأصحابه، وتصرفه في موطئه دليل عليه، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه واختيار جمهور أصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مقرون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكى عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًا؛ فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة .... ". إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 92).
من أهل العلم (1).
* * *
(1) كابن المنذر وابن الهمام، انظر: الإشراف لابن المنذر (7/ 291)، الإجماع لابن المنذر (ص: 113)، فتح القدير (5/ 249).