الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: الحكم فيما لو دل الذميُّ أهلَ الحرب على عورة للمسلمين
(1).
القول الأول: لا ينتقض العهد بذلك، وهو مذهب الحنفية والأصح عند الشافعية، وإحدى الروايتين عن أحمد (2)، واختيار الصيدلاني (3).
القول الثاني: ينتقض عهده بذلك، وهو مذهب المالكية ووجه عند الشافعية والمعتمد عند الحنابلة (4).
وذهب المالكية: إلى قتل العين والجاسوس مطلقًا، وقتل كل ذميٍّ كاتب أهل الشرك بعورات المسلمين (5).
(1) والمراد بعورات المسلمين أن يطلع الحربيين على عورات المسلمين؛ بأن يكتب لهم كتابًا بذلك بأن الموضع الفلاني للمسلمين لا حارس له، ليأتوهم من قبله؛ إذ العورة لغة: الموضع المنكشف الذي لا حارس عليه وعورة العدو ما انكشف من حاله الذي يتوصل منه إليه ومنه قول الله تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] وذلك مأخوذ من عورة الإنسان المنكشفة.
انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (3/ 149)، شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (3/ 260).
(2)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 85)، شرح السير الكبير (ص: 305)، (ص: 2041)، حاشية ابن عابدين (4/ 169)، منهاج الطالبين (ص: 314)، روضة الطالبين (10/ 329)، الفروع (10/ 353)، الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 184).
(3)
في نهاية المطلب (18/ 39): "أن يزني الذمي بمسلمة، أو يصيبها باسم النكاح، أو يؤوي عينًا لأهل الحرب، أو يكتب إليهم بأسرار المسلمين، ويطلعَهم على عوراتهم، أو يفتنَ مسلمًا عن دينه،
…
قال الصيدلاني، وغيره من محققي الأصحاب: إن لم يجر شرطٌ، لم ينتقض العهد بهذه الأشياء، وإن جرى شرطٌ، ففي انتقاض العهد وجهان"، وانظر: المطلب العالي- تحقيق محمد الوصابي (ص: 408).
(4)
انظر: الشرح الكبير للشيخ الدردير (2/ 205)، التاج والإكليل (4/ 602)، روضة الطالبين (10/ 329)، مغني المحتاج (6/ 84)، الإنصاف (4/ 253)، شرح منتهى الإرادات (1/ 670) كشاف القناع (3/ 143).
(5)
انظر: النوادر والزيادات (3/ 352)، مختصر خليل (ص: 89)، التاج والإكليل (4/ 602)، الشرح الكبير للدردير (2/ 205)، بلغة السالك لأقرب المسالك (2/ 316).
أدلة القول الأول:
1.
حديث حاطب بن أبي بلتعة، وفيه نزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ، وقصته فيما صنع معروفة في المغازي (2).
(1) سورة الممتحنة: 1. انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 86).
(2)
عن علي رضي الله عنه، قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب، ما هذا؟ » قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش، يقول: كنت حليفًا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .. فأنزل الله السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (4274)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة، رقم (2494).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون؛ لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال: "من أنه لم يفعله شاكًا في الإسلام، وأنه فعله ليمنع أهله"، ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذه؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم =
وجه الدلالة:
أن الله تعالى سماه الله مؤمنًا مع ما فعله، فدل أنه ليس بناقضٍ لإيمانه، فكذلك الذمي إذا فعله لا يكون ناقضًا لأمانه وعهده (1).
2.
وحديث أبي لبابة بن المنذر رضي الله عنه، وفيه نزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)، وقصته فيما أخبر به بني قريظة معروفة (3).
= مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم، فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولًا، كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.
قيل للشافعي: أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقه لا بأن فعله، كان يحتمل الصدق وغيره؟
فيقال له: قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كلٍّ بالظاهر، وتولى الله عز وجل منهم السرائر، ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكمًا له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية، وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصًا أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجعلوا له سنة، أو يكون ذلك موجودًا في كتاب الله عز وجل " الأم للشافعي (4/ 264).
(1)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 86).
(2)
سورة الأنفال: 27.
(3)
وذلك في نقض بني قريظة العهد "لما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسًا وعشرين يومًا، فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء عليهم، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة، فأشار إليهم: أنه الذبح، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا على حكم سعد،
…
الخ" رواه ابن حبان في صحيحه (15/ 500)، قال الحافظ في الفتح (11/ 43): "وسنده حسن "وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 8).
وفي التفسير من سنن سعيد بن منصور (5/ 206): "نزلت هذه الآية: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] قال: سألوا أبا لبابة بن عبد المنذر بنو قريظة يوم قريظة: ما هذا =
وجه الدلالة:
أن الله تعالى سماه الله مؤمنًا فعرفنا أن مثل هذا لا يكون نقضًا للإيمان، ولا للذمة (1).
3.
قالوا: لو فعل هذا مسلم لم يكن به ناقضًا لإيمانه، فكذلك إذا فعله ذمي لا يكون ناقضًا لأمانه (2).
تعليل القول الثاني:
1.
قالوا: لأنه حين دخل إلينا بأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئًا من ذلك، فإذا فعله كان ناقضًا للعهد بمباشرته، مما يخالف موجب عقده، ولو لم يجعله ناقضَ العهد بهذا
= الأمر-أي النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فأشار إلى حلقه يقول: الذبح، فنزلت هذه الآية. قال: قال سفيان: قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله" قال المحقق د سعد بن عبد الله آل حميد: "سنده رجاله ثقات، لكنه ضعيف لإرساله، فعبد الله بن أبي قتادة تابعي، وقول سفيان معضل. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 48) وعزاه للمصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ".
وفي السنن الكبرى للبيهقي (7/ 149): "في قصة نزول توبة أبي لبابة في قصة بني قريظة قالت أم سلمة رضي الله عنها: أفلا أبشره يا رسول الله بذلك؟ قال: "بلى إن شئت" قالت: فقمت على باب حجرتي فقلت وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك".
وأصل القصة موجود في صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، رقم (2878)، ومسلم في صحيحه، في الجهاد والسير باب جواز قتال من نقض العهد، رقم (1768). بدون ذكر أبي لبابة رضي الله عنه.
وقد أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (13/ 482/رقم 15942) من طريق عبد الله بن الزبير الحميدي، عن سفيان بن عيينة، به مختصرا".
(1)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 86).
(2)
انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 86)، شرح السير الكبير (ص: 305).
رجع إلى الاستخفاف بالمسلمين (1).
2.
يُقتل الذميّ إذا دلَّ المشركين على عورات المسلمين؛ ليكون نكالًا لغيره (2).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- هو القول بنقض عهد من دل المشركين على عورات المسلمين، أما قياس الذمي بالمسلم فهو قياس مع الفارق؛ فالنقض لا يلزم منه قتل الإمام للناقض، بل قد يُنفى ويخرج من دار الإسلام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع بني النضير حيث أجلاهم من المدينة.
وأما المسلم لا يُخرج من دار الإسلام؛ فيكون سببًا لردته.
نعم قد يقاس ناقض العهد مع المسلم في عدم استحلال دمه؛ ولذا يجب على ولي الأمر ومن ينوبه أن يتفطن، ولا يعقد الذمة مع من يخشى كونه عينًا وجاسوسًا للمشركين، قال الإمام النووي رحمه الله:"ويشترط لعقدها الإمام أو نائبه، وعليه الإجابة إذا طلبوا إلا جاسوسًا نخافه"(3)، بل كل "شخص يخاف كيده لا تُقبل الجزية منه"(4).
* * *
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (10/ 86)، شرح السير الكبير (ص: 305).
(2)
انظر: النوادر والزيادات (3/ 352)، التاج والإكليل (4/ 602)، الشرح الكبير للدردير (2/ 205)، بلغة السالك لأقرب المسالك (2/ 316).
(3)
منهاج الطالبين (ص: 312).
(4)
مغني المحتاج (6/ 62)، تحفة المحتاج (9/ 277).