الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: الفرق بين منع الجزية والامتناعَ عنها
.
ليس فيها اختيار للصيدلاني، ففي نهاية المطلب:" وظاهر ما نقله الصيدلاني أن منع الجزية والامتناعَ متغايران"(1).
المسألة الثانية: نقض العهد بمنع الجزية
(2).
فهل ينقض الذمي (3) عهده بمنعه إعطاء الجزية؟
للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: لا ينتقض عهد الذمي بامتناعه إعطاء الجزية، وهو قول الحنفية (4).
وانتقد الملا الحنفي صاحب درر الحكام الحنفية، وقال:"قولهم الامتناع فيه إشكال؛ لأن معنى الامتناع عن الجزية التصريح بعدم أدائها كأن يقول: لا أعطي الجزية بعد هذا، وظاهره أنه ينافي بقاء الالتزام، اللهم إلا أن يراد بالامتناع تأخيرها والتعلل في أدائها، ولا يخفى بُعده"(5).
(1)(18/ 38 - 39).
(2)
الجزية فعلة من الجزاء، وهي: المال الذي تعقد للكتابي عليه الذمة. المصباح المنير (1/ 100)، المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 258).
(3)
هو غير المسلم ممن عقدت له الذمة، بأن يقيم في بلاد المسلمين مع دفع الجزية.
انظر: مطالب أولي النهى (2/ 591)، الشرح الممتع (12/ 333).
(4)
انظر: فتح القدير (6/ 62)، بدائع الصنائع (7/ 113)، بداية المبتدي (ص: 121)، الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/ 212)، ولفظ الحنفية:"امتنع الذمي من إعطاء الجزية" فلفظهم "امتنع" وليس "منع"، وهي عندهم بمعنى واحد، وقد انتقدهم صاحب درر الحكام (1/ 299).
(5)
انظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 299)، مجمع الأنهر (1/ 676).
وهذا الملحظ دقيق ومهم جدًا، ربما يخفى على جمهرة من طلبة العلم، وفي هذا المقام قد يكون الخلاف في تحرير اللفظ ولا يتعدى المعنى، أما في غير هذه المسألة ربما يكون البون شاسعًا، ولهذا تجد العلماء يفرقون بين من ترك الصلاة أو الزكاة جحودًا أو امتناعًا أو كسلًا وتهاونًا؛ فالجحود ضده التصديق، والامتناع ضده الالتزام، والذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستباح دماءهم وحكم عليهم بالرّدَّة لم يكونوا كلهم جاحدين، وإلا لو كانوا جاحدين أو كلهم أتباع مسيلمة ما ناقش عمر رضي الله عنه الصديق فيهم؛ وإنما راجعه في أناس ممتنعين، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله بأن الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه وحكم عليهم بالردة أربع جماعات، وقد صرح الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أنهم لم يكونوا جاحدين، وتبعه في ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله (في الممتنعين)، ومن ذلك كُفْر إبليس فإنه لم يكن جحودًا وإنما إباء واستكبارًا وامتناعًا، كما قرره الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله في تعظيم قدر الصلاة، وتبعه على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله.
انظر: الإيمان للقاسم بن سلام (ص: 17)، تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 934)، منهاج السنة النبوية (4/ 495)، مجموع الفتاوى (7/ 218)، (20/ 97)، (28/ 412 - 417)، مختصر الفتاوى المصرية (ص: 468).
وتعقبه شيخي زاده الحنفي صاحب مجمع الأنهر، وقال:"لكن يمكن الجواب بأنه بالتزامه يكون دينًا في ذمته؛ كالكفالة بالمال، فقوله بعده لا أعطي الجزية لا فائدة له، فيلزم أن يحبس كسائر الديون، تدبر"(1).
القول الثاني: ينتقض عهد الذمي بمنعه إعطاء الجزية، سواء شُرط عليهم ذلك أو لا، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (2)، واختاره الصيدلاني (3).
قال الإمام الجويني: "هذا إذا منع مع القدرة، فأما العاجز إذا استمهل فلا ينتقض عهده، قال: ولا يبعد أن يقال: تؤخذ الجزية من الموسر الممتنع قهرًا، ولا يجعل الامتناع ناقضًا كسائر الديون، ويخصص ما قاله الأصحاب بالمتغلب المقاتل"(4).
(1) مجمع الأنهر (1/ 676).
(2)
انظر: مختصر خليل (ص: 92)، الشرح الكبير للدردير (2/ 204)، الحاوي الكبير (14/ 317)، روضة الطالبين (10/ 328)، الإنصاف (4/ 252)، شرح منتهى الإرادات (1/ 670).
(3)
في نهاية المطلب (18/ 39): "ولفظ الصيدلاني: "بعض ما يصدر منه نقضٌ للعهد شرط ذلك عليهم أو لم يشرط، مثل منع الجزية".
(4)
روضة الطالبين (10/ 328)، وانظر: الغرر البهية (5/ 147)، مغني المحتاج (6/ 83)، حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب (5/ 227).
وفي الحاوي الكبير: "وإن امتنع واحد منهم من بذلها نظر، فإن امتنع من التزامها كان نقضًا لعهده كالجماعة، وإن امتنع من أدائها مع بقائه على التزامها لم يكن نقضًا لعهده، وأخذت منه بخلاف الجماعة، لأن إجبار الجماعة عليها متعذر، وإجبار الواحد عليها ممكن"(1).
تعليلات القول الأول:
1.
قالوا: لأن ما يدفع عنه قتالنا التزام الجزية وقبولها لا أداؤها والالتزام باقٍ، فلا ينقض، ويسقط القتال، ويأخذها الإمام منهم جبرًا (2).
2.
ولأن الامتناع عن أداء الجزية يحتمل أن يكون لعذر عدم المال، فلا ينتقض العهد بالشك والاحتمال (3).
أدلة القول الثاني:
1.
وجه الدلالة:
فلا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطاء الجزية.
والمراد بإعطاء الجزية من حين بذلها، أو التزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء، ووجب الكف عنهم إلى أن نقبضها منهم، فمتى لم يلتزموها، أو التزموها وامتنعوا من تسليمها لم يكونوا معطين لها، فليس المراد أن يكونوا صاغرين حال تناول الجزية منهم فقط، ويفارقهم الصغار فيما عدا هذا الوقت، هذا باطل
(1)(14/ 317)، وانظر: بحر المذهب (13/ 365).
(2)
انظر: الهداية (2/ 405)، درر الحكام (1/ 299) البحر الرائق (5/ 124)، مجمع الأنهر (1/ 676)، حاشية ابن عابدين (4/ 213).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (7/ 113).
(4)
سورة التوبة: 29.
قطعًا (1).
2.
قال الله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (2).
وجه الدلالة:
أن الله نفى أن يكون لمشرك عهدٌ ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم إلا قومًا ذكرهم، فجعل لهم عهدًا ما داموا مستقيمين لنا، فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا (3).
فإن قيل: إن الآية إنما هي في أهل الهدنة المقيمين في دارهم.
قيل: الجواب من وجهين (4):
أحدهما: أن لفظها أعم.
والثاني: أنها إذا كان معناها في أهل الذمة المقيمين بدارهم فثبوته في أهل الذمة المقيمين بدارنا أولى وأحرى.
3.
أن الأمان يقتضي الكف عن الإضرار وفي هذه الأشياء إضرار، فيجب أن ينتقض العهد بفعلها كما لو شرط ذلك في عقد الأمان (5).
4.
ولأن عقد الذمة عقد أمان فانتقض بالمخالفة من غير شرط كالهدنة (6).
(1) انظر: المغني لابن قدامة (9/ 336)، تفسير القرطبي (8/ 110)، أحكام أهل الذمة (3/ 1377)، شرح منتهى الإرادات (1/ 670).
(2)
سورة التوبة: 7 - 12.
(3)
انظر: أحكام أهل الذمة (3/ 1379).
(4)
انظر: أحكام أهل الذمة (3/ 1380).
(5)
انظر: أحكام أهل الذمة (3/ 1377).
(6)
نفس المرجع السابق، وشرح مختصر خليل للخرشي (3/ 149).
5.
وإن لم يشرط عليهم الانتقاض به لمخالفته مقتضى العقد (1).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- قول الجمهور بأن المنع من إعطاء الجزية يُعدُّ ناقضًا للعهد.
وما قاله الإمام الماوردي وجيه؛ وهو قوله: "وإن امتنع واحد منهم من بذلها نظر، فإن امتنع من التزامها كان نقضًا لعهده كالجماعة، وإن امتنع من أدائها مع بقائه على التزامها لم يكن نقضًا لعهده، وأخذت منه بخلاف الجماعة؛ لأن إجبار الجماعة عليها متعذر، وإجبار الواحد عليها ممكن"(2).
وأما تعليل الأحناف بأن ما يدفع عنه قتالنا التزام الجزية وقبولها، لا أداؤها والالتزام باقٍ.
فهذا تعليل في محل النزاع؛ إذ التحقيق فيما يدفع عنهم قتالنا هو استقامتهم بجميع العهود ومنها إعطاء الجزية، كما هو نص الآية:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3)، فقد علق الحكم بإعطاء وأداء الجزية، ولم يعلقه تعالى بمجرد عقد الذمة وقبوله والالتزام.
قال ابن قدامة: "فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم. فمتى بذلوها، لم يجز قتالهم"(4).
وفي تفسير القرطبي: "جعل للقتال غاية؛ وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل"(5).
وقد ورد في صحيح البخاري نص في الموضوع؛ فقد قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى قبل معركة نهاوند في بلاد فارس: فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم: «أن نقاتلكم
(1) انظر: أسنى المطالب (4/ 223)، مغني المحتاج (6/ 83).
(2)
الحاوي الكبير (14/ 317)، وانظر: بحر المذهب (13/ 365).
(3)
سورة التوبة: 29.
(4)
المغني لابن قدامة (9/ 336).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 110).
حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا، أنه «من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم» (1). فقال: «تؤدوا الجزية» .
وأما تعليلهم بأن الامتناع عن أداء الجزية يحتمل أن يكون لعذر عدم المال، فلا ينتقض العهد بالشك والاحتمال.
هذا تعليل فيما يظهر أنه نظري أكثر منه عملي؛ فإذا كان أهل الذمة قد عجزوا عن أداء الجزية سيبررون بذلك، ويسارعون في بيان ذلك، وسيبذلون جهدهم لبيان وتوثيق عجزهم، لحقن دمائهم، هذا إذا لم يكن الفقر ظاهرًا عليهم، لعوارض مست البلاد من قحط وجدب وعوامل يدركونها بالحس، فطلبهم الجزية حينذاك من تكليف ما لا يطاق.
فإذا كانوا معدومين عاجزين فلا يُعَدُّون ناقضين لعهد الذمة؛ إذ لا جزية على فقير عاجز عن أدائها كما هو قول الجمهور (2).
وإذا لم يظهر منهم فاقة، ولم يبينوا حالهم يسألهم الإمام عن سبب عدم إعطائهم
(1) رواه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة، (3159).
(2)
أحكام أهل الذمة (1/ 159).
"مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيته ثم نخذله عند الهرم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه". الخراج لأبي يوسف (ص: 139).
وفي كتاب خالد لأهل الحيرة: "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين" الخراج لأبي يوسف (ص: 157 - 58).
الجزية، ثم إن زعموا عجزهم وفاقتهم يبحث في أمرهم ويدقّق في حالهم. فالاستفهام قبل الإنكار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ ! » (1).
وكما قيل: إذا عُرف السبب بطل أو زال العجب.
* * *
(1) رواه البخاري في صحيحه، باب ما جاء في المتأولين، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، رقم (3983).