الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
الكتابة: عقد يشتري به العبد نفسه من سيده، بمال مؤجل في ذمته، مباح معلوم، يصح فيه السلم منجمًا (1).
والأصل في الكتابة قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (2).
وأجمع الفقهاء على أن الرجل إذا كاتب عبده على ما يجوز، مما له عدد أو وزن أو كيل، على نجوم معروفة من شهور العرب، ويوصف ما يكاتب عليه كما يوصف في باب السلم أن ذلك جائز، واختلفوا في الكتابة على نجم واحد (3).
واتفقوا أنه إذا كاتب السيد عبده أو أمته كما ذكرنا، وأَدَّيا في نجومهما لا قبلها ولا بعدها ما كاتبهما إليه بنفسه، أو إلى وكيله في حياة السيد، على الصفة التي تعاقداها أنهما حران، كذا إذا أدى ذلك عنهما (4).
* * *
المسألة الأولى: حكم الكتابة على دم أو ميتة
.
اتفق العلماء على أن الكتابة بما لا يحل فاسدة، واختلفوا أيقع بها عتق أم لا؟ (5)
والكتابة التي لا تصح، تنقسم عند بعض الفقهاء إلى باطلة وفاسدة.
أما الباطلة: فهي التي اختل بعض أركانها، بأن كان السيد صبيًا، أو مجنونًا، أو مكرهًا على الكتابة، أو كان العبد كذلك، أو كاتب ولي الصبي والمجنون عبدهما، أو لم يجر ذكر عوض، أو ذكر ما لا يقصد، ولا مالية فيه، كالحشرات، أو اختلت الصيغة؛ بأن فقد الإيجاب أو القبول، أو لم يوافق أحدهما الآخر.
(1) أي مفرّق. انظر اللباب في علوم الكتاب (16/ 324)، كشاف القناع (4/ 539).
(2)
سورة النور: 33.
(3)
انظر: الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (7/ 12)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 128).
(4)
انظر: مراتب الإجماع (ص: 164)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 130).
(5)
انظر: مراتب الإجماع (ص: 165)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 132).
وأما الفاسدة، فهي التي اختلت صحتها لشرط فاسد في العوض، بأن ذكر خمرًا، أو خنزيرًا، أو مجهولًا، أو (لم يؤجله، أو لم ينجِّمه -عند بعضهم-)(1)، أو كاتب بعض العبد. وضبطها بعضهم فقال: إذا صدرت الكتابة إيجابًا وقبولًا ممن تصح عبارته، وظهر اشتمالها المالية، لكنها لم تجمع شرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة، فيفسد العوض ويحصل العتق بقيمته (2).
والمسألة المراد بحثها: حكم الكتابة على دم أو ميتة.
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: الكتابة باطلة إلا إن صرح بالتعليق عليها، كقوله:"إن أعطيتني دمًا أو ميتة فأنت حر"، وهو أهل للتعليق فأعطاه دمًا أو ميتة فلا تبطل، بل يثبت لها حكم التعليق، وهو قول الحنفية، والصحيح من مذهب الشافعية، وقولٌ عند الحنابلة (3).
القول الثاني: الكتابة فاسدة، وتم عتقه، وعلى العبد قيمة رقبته، وهو قول المالكية، وهو وجه عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة (4)، واختاره
(1) ذهب الحنفية والمالكية: إلى أن العوض في المكاتبة يجوز أن يكون حالًا أو مؤجلًا، وإن كان مؤجلًا فيجوز أن يكون على نجمٍ واحد.
وذهب الشافعية والحنابلة: اشتراط أن يكون العوض في الكتابة دينًا مؤجلًا ومنجمًا بنجمين معلومين فأكثر. انظر: النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 421)، بدائع الصنائع (4/ 140)، التاج والإكليل (8/ 481)، مواهب الجليل (6/ 345)، منهاج الطالبين (ص: 364)، أسنى المطالب (4/ 473)، المغني (10/ 371)، الإنصاف (7/ 450).
(2)
انظر: روضة الطالبين (12/ 231)، الإنصاف (7/ 487 - 488).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (4/ 137)، العناية (9/ 161)، روضة الطالبين (12/ 231)، أسنى المطالب (4/ 479)، المغني (10/ 462)، الإنصاف (7/ 487).
(4)
انظر: المدونة (2/ 437)، التبصرة للخمي (8/ 3830)، الذخيرة للقرافي (11/ 257)، روضة الطالبين (12/ 231)، أسنى المطالب (4/ 479)، المغني لابن قدامة (10/ 462)، الإنصاف (7/ 487 - 488).
الصيدلاني (1).
وعند المالكية: هذا إذا وقعت الكتابة على محرم موصوف في الذمة، فإن وقعت على معين بطلت بالكلية ولا يرجع لكتابة المثل، ولا يتبع بقيمة ولا غيرها (2).
وعند الحنابلة: لا يلزم المكاتب قيمة نفسه إذا أدى ما كوتب عليه وعتق (3).
تعليل القول الأول:
1.
لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، لا في حق المسلم ولا في حق الذمي.
ألا ترى أن المشتري بهما لا يملك وإن قبض؟ ولا تنعقد عليهما المكاتبة حتى لا يعتق، وإن أدى (4).
2.
لأن التصرف الباطل لا حكم له، فكان ملحقًا بالعدم (5).
تعليل القول الثاني:
1.
لأن الكتابة جمعت معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة، بقيت الصفة، فعتق بها (6).
2.
وحجة الحنابلة بأنه: لا يلزم المكاتب قيمة نفسه إذا أدى ما كوتب عليه وعتق، ولم يرجع بما أداه:
أ- لأنه عقد كتابة حصل العتق فيه بالأداء فلم يجب فيه تراجع، كما لو كان صحيحًا.
ب- ولأن العبد عتق بالصفة فلم يجب عليه قيمة نفسه كالمعلق عتقه على صفة
(1) في العزيز شرح الوجيز (13/ 477)، وروضة الطالبين (12/ 231):"وجعل الصيدلاني الكتابة على دم أو ميتة كتابة فاسدة، كالكتابة على خمر".
(2)
انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل (8/ 219، 265)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير (4/ 390).
(3)
انظر: الإنصاف (7/ 488)، كشاف القناع (4/ 566).
(4)
انظر: بدائع الصنائع (4/ 137)، العناية (9/ 161)، مجمع الأنهر (2/ 408).
(5)
انظر: بدائع الصنائع (4/ 137)، العناية (9/ 161).
(6)
انظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (2/ 344).
وجدت. وما أخذه السيد فهو من كسب عبده الذي يملك كسبه فلم يجب رده (1).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- القول الثاني بصحة العقد مع فساد الشرط، فيعتق وعلى العبد قيمته؛ وذلك لتشوف الشرع إلى العتق، ولأنه يحصل به مراد الطرفين: العبد والسيد، وهي كتابة، فإن كان عوضها صحيحًا كانت الكتابة صحيحة، فوجب أن يكون العتق صحيحًا وإن كان عوضه فاسدًا (2).
وقياسًا على ما إذا سُمِّي في النكاح صداقًا محرمًا، كالصداق بالميتة أو الدم فمذهب عامة الفقهاء: صحة عقد النكاح مع وجوب مهر المثل (3).
* * *
(1) انظر: كشاف القناع (4/ 566)، شرح منتهى الإرادات (2/ 614).
(2)
انظر: المغني (7/ 223).
(3)
وقال المالكية: إن أصدقها ما لا يجوز ففيه روايتان:
إحداهما: أنه يفسخ قبل الدخول وبعده.
والثانية: - وهي المشهورة - أنه إذا عقد بذلك فسخ النكاح قبل الدخول؛ ويثبت بعده بصداق المثل.
وهل فسخه على الاستحباب أو الوجوب؟ قولان.
وقال ابن قدامة: "وما حكي عن مالك لا يصح؛ فإن ما كان فاسدًا قبل الدخول، فهو بعده فاسد، كنكاح ذوات المحارم" أهـ.
انظر: بدائع الصنائع (2/ 278)، الفتاوى الهندية (1/ 303)، البيان والتحصيل (4/ 315)، عقد الجواهر الثمينة (2/ 472)، روضة الطالبين (7/ 286)، مغني المحتاج (4/ 374)، المغني (7/ 223)، شرح منتهى الإرادات (3/ 11).