الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: من حلف لا يأكل اللحم، وأكل لحم الحيتان
.
لتحرير محلّ النزاع؛ أن من حلف ألا يأكل لحمًا وأكل سمكًا، وقد نوى شيئًا فله مانوى، فإذا نوى بحلفه سمكًا وغيرَه فأكل سمكًا طريًا أو مالحًا حنث، وإذا نوى باللحم لحم الأنعام دون السمك والحوت فله ما نوى.
والمسألة المراد بحثها فيما إذا لم ينوِ.
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: لم يحنث، وهو قول الحنفية، والشافعية (1)، واختيار الصيدلاني (2).
القول الثاني: يحنث، وهو قول المالكية والحنابلة (3).
أدلة القول الأول:
1.
قالوا: لأنه لا يسمى السمك والحوت عند الإطلاق لحمًا في العرف، ولهذا يصح أن ينفى عنه اسم اللحم، فيقول: ما أكلت اللحم، وإنما أكلت السمك (4).
2.
ولأن معنى اللحمية ناقصٌ في السمك؛ لأن اللحم ما يتولد من الدم وليس في
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 175 - 176)، بدائع الصنائع (3/ 38)، روضة الطالبين (11/ 39)، مغني المحتاج (6/ 204 - 205).
(2)
في نهاية المطلب (18/ 342): "قال المزني: "من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان، قال الصيدلاني:"إذا كثر الشيء وتقاعد الاسم عنه، تبين أنه غير معني بالاسم في الوضع، وبيان ذلك أن لحوم الحيتان كثيرة في بلاد العرب، وهم لا يعنونها إذا ذكروا اللحم، فكان خروجها عن مطلق اسم اللحم غيرَ محمول على عزّة الوجود، بل هو محمول على أن اسمَ اللحم لم يوضع لها".
(3)
انظر: التاج والإكليل (4/ 452)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (3/ 126)، مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح (2/ 197)، الإنصاف (11/ 91)، شرح منتهى الإرادات (3/ 460).
(4)
انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 176) فتح القدير (5/ 121 - 122)، بدائع الصنائع (3/ 38)، الحاوي الكبير (15/ 416)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (10/ 536)، مغني المحتاج (6/ 204 - 205).
السمك دم، ومطلق الاسم يتناول الكامل (1).
3.
إلا أن يكون نوى السمك، فحينئذ تعمل نيته؛ لأنه لحم من وجه. وهو نظير قوله: كل امرأة له طالق لا تدخل المختلعة فيه إلا بالنية، وكل مملوك لا يدخل فيه المكاتب (2).
دليل القول الثاني:
1.
قالوا: لأن السمك قد سماه الله تعالى لحمًا؛ كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (3)، أي: من البحر وهو السمك (4).
ونوقش:
1.
أن التسمية التي وقعت في القرآن مَجَازية لا حقيقية؛ لأن اللحم منشؤه من الدم ولا دم في السمك؛ لسكونه الماء، ولذا حلَّ بلا ذكاة (5).
وأجيب بأنّه:
ألو علل بالعرف لكفى، فإنَّ في كون التسمية مجازية نظرًا، ثم إن مستمسك أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله إنما هو بالعرف لا بما ذكرتموه (6).
ب ثم إنّ هذا يُنقض بالألية فإنها تنعقد من الدم، ولا يحنث بأكلها لمكان العرف وهو أنه لا يسمى لحمًا، ولا تذهب أوهام أهل العرف إليه عند إطلاق اسم اللحم (7).
ج- وأيضًا قولكم أن اسم اللحم باعتبار الانعقاد من الدم، فهذا غير مسلّم بل
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 176) فتح القدير (5/ 121 - 122).
(2)
انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 176).
(3)
سورة النحل: 14.
(4)
انظر: فتح القدير (5/ 121 - 122)، التاج والإكليل (4/ 452)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (3/ 126)، الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 200)، المغني لابن قدامة (9/ 608).
(5)
انظر: الهداية (2/ 325)، تبيين الحقائق (3/ 127)، البيان (10/ 536).
(6)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية (4/ 111)، فتح القدير (5/ 122)، الأم للشافعي (7/ 83 - 84).
(7)
انظر: الهداية (2/ 325)، تبيين الحقائق (3/ 127)، البيان (10/ 536).
باعتبار الالتحام (1).
2.
وأيضًا نوقش قولهم: إن الله تعالى قد سمى الحوت لحمًا، فيحنث بأكله:
بأن الأيمان لا تبنى على الاستعمال القرآني، ولهذا يصح أن يقال: ما أكلت لحمًا بل سمكًا، ولو قال: اشتر لحمًا فاشترى سمكًا عُدَّ مخالفًا، وبائع السمك لا يسمى لحامًا، والعرف في اليمين معتبر، كما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف ألا يجلس على بساط، وإن سماها الله تعالى بساطًا؛ كما قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (2)، وكذا لو حلف لا يخرب بيتًا فخرَّب بيت العنكبوت لم يحنث، وإن سماه الله سبحانه وتعالى بيتًا في كتابه العزيز بقوله:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3)، ولو حلف ألا يركب دابة فركب كافرًا، أو لا يجلس على وتَدٍ فجلس على جبل، أو لا يجلس في سراج فجلس في الشمس، أو لا يقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء لا يحنث مع تسميتها في القرآن دابة وأوتادًا وسراجًا وسقفًا، كما قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (4)، وقال {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (5)، وقال:{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (6)، وقال:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} (7)، ونظائرها كثير (8).
وناقش الإمام ابن قدامة رحمه الله كون السماء سقفًا:
بأن الحالف ألا يقعد تحت سقف، لا يمكنه التحرز من القعود تحتها، فيعلم أنه لم يردها بيمينه، ولأن التسمية ثم مجاز، وها هنا هي حقيقة؛ لكونه من جسم حيوان يصلح
(1) انظر: فتح القدير (5/ 122).
(2)
سورة نوح: 19.
(3)
سورة العنكبوت: 41.
(4)
سورة الأنفال: 55.
(5)
سورة النبأ: 7.
(6)
سورة نوح: 16.
(7)
سورة الأنبياء: 32.
(8)
المبسوط للسرخسي (8/ 176)، بدائع الصنائع (3/ 58)، فتح القدير (5/ 121 - 122) الحاوي الكبير (15/ 416)، مغني المحتاج (6/ 204)، المغني لابن قدامة (9/ 608).
للأكل، فكان الاسم فيه حقيقة (1).
ويمكن أن يجاب عليه:
إذا سلمنا المناقشة في السقف، يبقى مناقشة بيت العنكبوت، وكون الجبل وتدًا، والشمس سراجًا، فكلها حقيقة، ثم إن اللفظ المطلق المشترك الخالي عن الإضافة إذا أضيف إلى معين يصير معناه مناسبًا لذلك المعين حقيقة لا مجازًا (2).
والقائلون بالحنث قالوا: ولأنه لحم حيوان فأشبه لحم الطير؛ حيث قال الله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (3).
ويمكن مناقشته:
بأن مسألتنا في اللحم المطلق عن التقييد، ولحم السمك والطير مقيد.
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- القول الأول بأنه لا يحنث لقوة أدلتهم وإمكان مناقشة أدلة القول الثاني (4).
(1) انظر: المغني لابن قدامة (9/ 608).
(2)
والخلاف في وقوع المجاز في اللغة مشهور.
(3)
سورة الواقعة: 21. انظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 200)، المغني لابن قدامة (9/ 608).
(4)
استفتى رجلٌ سفيان الثوري رحمه الله فيمن حلف لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا، فقال سفيان: يحنث لأن الله سمى السمك لحمًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]
فرجع الرجل إلى أبي حنيفة رحمه الله فأخبره، فقال أبو حنيفة: ارجع فاسأله فيمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض؟
فسأله، فقال: لا يحنث، فقال: أليس أنه قال تعالى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]؟ فقال له سفيان: كأنك السائل الذي سألتني أمس؟ فقال: نعم، فقال سفيان: لا يحنث في هذا ولا في الأول، فرجع عن ذلك القول. انظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (5/ 121).