الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
53 - باب في صَوْمِ الدَّهْرِ تَطَوُّعًا
2425 -
حَدَّثَنا سُليْمانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ، قالا: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زيْدٍ، عَنْ غيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمّانيِّ، عَنْ أَبي قَتادَةَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ كيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ عُمَرُ قَالَ: رَضِينا باللهِ رَبّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّا، نَعُوذُ باللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَدِّدُها حَتَّى سَكَنَ غَضَبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ كيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: "لا صامَ وَلا أَفْطَرَ". قَالَ مُسَدَّدٌ: "لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ، أَوْ ما صامَ وَلا أَفْطَرَ". شَكَّ غيْلانُ.
قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، كيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْميْنِ ويُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ:"أَو يُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ ". قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، فَكيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ:"ذَلِكَ صَوْمُ داوُدَ". قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ فَكيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْميْنِ؟ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ".
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ فهذا صِيامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَصِيامُ عَرَفَةَ إِنّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ، وَصَوْمُ يَوْمِ عاشُوراءَ إِنّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ"(1).
2426 -
حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْماعِيلَ، حَدَّثَنا مَهْدي، حَدَّثَنا غيْلانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَعْبَدٍ الزِّمّانيِّ، عَنْ أَبي قَتادَةَ بهذا الحَدِيثِ، زادَ قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأيْتَ صَوْمَ يَوْمِ الاثْنيْنِ ويَوْمِ الخَمِيسِ؟ قَالَ:"فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَليَّ القُرْآنُ"(2).
2427 -
حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْريِّ،
(1) رواه مسلم (1162).
(2)
انظر السابق.
عَنِ ابن المُسيَّبِ وَأَبي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ قَالَ: لَقِيَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: "أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهارَ؟ ! ". قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ قَدْ قُلْتُ ذاكَ. قَالَ: "قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وَذاكَ مِثْلُ صِيامِ الدَّهْرِ". قَالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْميْنِ". قَالَ: فَقُلْتُ: إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيامِ، وَهُوَ صِيامُ داوُدَ". قُلْتُ: إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ"(1).
* * *
باب في صوم الدهر تطوعًا
[2425]
(حدثنا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: حدثنا حماد بن زيد) الأزدي أحد الأعلام، أخبر (عن غيلان) بالغين المعجمة، ثمَّ مثناة تحت (ابن جرير) بالجيم والراء المكررة الأزدي.
(عن عبد الله بن معبد) بسكون العين المهملة (الزماني) بكسر الزاي.
(عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي رضي الله عنه (أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف تصوم؟ ) بتاء الخطاب أوله (فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله) قال الخطابي: يشبه أن يكون غضب النبي صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه، ثمَّ يعجز عنه فعلًا أو يسأمه فيمله بقلبه فيكون صيامًا من غير نية
(1) رواه البخاري (1975، 1976)، ومسلم (1159). وانظر ما سلف برقم (1389).
وإخلاص، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل (1) وهو محرَّم على أمته، وقد كان رسول الله يترك بعض النوافل خوفًا أن تفرض على أمته إذا فعلوا اقتداء به، كما ترك القيام في رمضان بعد أن قام بهم ثلاثة أيام أو ليلتين ثمَّ لم يخرج إليهم وقال لهم:"إنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خفت أن يكتب عليكم فلا تقومون به"، أو كما قال، انتهى (2).
وليس غضبه صلى الله عليه وسلم لسؤاله عما (3) ينتفع به أو يعمل به، بل غضب عليه لأنه لم يفكر في أن مجيئه يحكم على الأمة الاقتداء به فيه والعمل به، والدين مبني على اليسر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4)، وكان ذلك مشهورًا عندهم كما في حديث أبي ثعلبة الخشني:"وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها". حديث حسن رواه الدارقطني وغيره (5).
معناه: إنما سكت عن ذكرها رحمة بعباده ورفقًا حيث يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها، بل جعلها عفوًا، فإن تركها فلا حرج عليهم في تركها، وقوله:"فلا تبحثوا عنها"، أي: ولا تسألوا عنها، ويحتمل اختصاص هذا النهي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ السؤال عنها قد يكون سببًا
(1) زيادة من (ل).
(2)
"معالم السنن" 2/ 129.
(3)
في (ر): ليس الدعاء.
(4)
الحج: 78.
(5)
"سنن الدارقطني" 4/ 183، والحاكم في "المستدرك" 4/ 115، والطبراني في "مسند الشاميين"(3492) من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به.
لنزول التشديد بإيجاب أو غيره، ويحتمل أن يكون النهي عامّا فإن السؤال عما لم يذكر في الواجبات قد يوجب اعتقاد إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات، فقبول العافية فيه وترك السؤال خير، وقد يدخل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون". قالها ثلاثًا. رواه أبو داود (1).
والمتنطع هو المتعمق (2) في السؤال عما لا يتعين عليه السؤال عنه.
قال الراغب: الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب:
ضرب يجب السؤال عنه، وهو ما كلف الإنسان به. وفيه أمر وإياه كالجريح الذي اغتسل فهلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"قتلتموه، هلا سألتم عنه، إنما شفاء العي السؤال"(3).
وضرب يكره أو يحظر السؤال عنه وإليه يوجه قوله صلى الله عليه وسلم: "اتركوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم"(4).
وضرب يجوز السكوت والسؤال عنه، وهو ما يستحب أن يحمد ولا يؤخذ به الإنسان إن سأل عنه (5).
(فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال: رضينا بالله) يشبه أن يكون التقدير: رضينا بأحكام الله وأقضيته (ربّا) أي: مالكًا يحكم ما يشاء (وبالإِسلام) أي: وبدين الإِسلام وما جاء به (دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا) ورسولًا مبلغًا عن الله تعالى أحكامه، وفي معناه ما رواه جماعة من السلف منهم
(1) كتاب السنة، باب: باب في لزوم السنة، ورواه مسلم في "صحيحه"(2670).
(2)
في (ر) التعمق، والمثبت من (ل).
(3)
رواه أحمد 1/ 330، وابن ماجه (572)، وأبو داود (336).
(4)
رواه مسلم (1337).
(5)
"تفسير الراغب" 5/ 464.
أسباط، عن السدي أنَّه قال في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1)، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقام خطيبًا فقال: "سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به". فقام إليه رجل يقال له: ابن حذافة. فقال: من أبي؟ فقال: "حذافة". فقام إليه عمر ابن الخطاب فقبل رجله، وقال: رضينا بالله ربّا، وبك نبيّا، وبالإِسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي (2). ولعل المراد بالرضا ترك المنازعة والسخط فيما أمرهم من ترك السؤال كما في قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) أي: حتى يرضوا بما قضيت عليهم ولا تضيق صدورهم بما قضيت به وأمرت.
(نعوذ بالله تعالى من غضب الله وغضب رسوله، فلم يزل عمر يرددها) أي: يردد هذِه المقالة (حتى سكن من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قيل: هو من باب القلب المستعمل أي: حتى سكن النبي صلى الله عليه وسلم من غضبه نحو: أدخلت فمي في الحجر تقديره: أدخلت الحجر في فمي، وقيل: لا ينبغي هذا؛ لأنه من القلب وهو لم يقع إلا في قليل من الكلام، وقرأ معاوية بن قرة:(ولما سكن عن موسى الغضب)(4)، وعلى القراءة المشهورة فسكوت الغضب كناية. شبه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته.
(1) المائدة: 101.
(2)
أخرجه الطبري في "تفسيره" 11/ 102، وابن أبي حاتم في "التفسير" 4/ 1219 بإسنادهما عن السدي، وأخرج نحوه البخاري (540)، ومسلم (2359).
(3)
النساء: 65.
(4)
انظر: "مختصر في شواذ القراءة" ص 51.
(فقال: ) الرجل (يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر).
قال المنذري: يحتمل أن يكون ذلك على وجه الدعاء عليه كراهة لصنيعه وزجرًا عن ذلك. قيل (لا) فيهما بمعنى ما، كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (1)، فعلى هذا فيه دليل على أن "لا" تدخل على الماضي كقول الراجز:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا
وأي عبد لك لا ألما (2)
وقيل: معناه: لم يصم ولم يفطر كما. (قال) أي: (مسدد: ) في روايته (لم يصم ولم يفطر، أو: ما صام ولا أفطر) وعلى هذا هو خبر معناه: أنَّه (3) لم يأت بشيء؛ لأنَّ من سرد الصوم صار عادة ولم يجد له مشقة فيعود النهار في حقه كالليل في حق غيره، فكأنه ما صام إذ لم يجد ما يجده الصائم، ولا أفطر لوجود صورة الصوم، وقيل: ليس هو خبرًا (4) عنه، بل دعاء عليه وعلى من صام الأبد، [ويا ويح](5) من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم (شك غيلان) الراوي.
وإلى كراهة صوم الدهر مطلقًا ذهب إسحاق وأهل الظاهر، وهي رواية عن أحمد، وشذ ابن حزم فحرمه (6) وروى ابن أبي شيبة بإسناد
(1) القيامة: 31.
(2)
هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذي (3284)، وقال: حسن صحيح غريب.
(3)
زيادة من (ل).
(4)
في الأصلين: خبر. والجادة ما أثبتناه.
(5)
في (ر): وما ربح.
(6)
انظر: "المحلى" 4/ 431.
صحيح عن أبي عمرو الشيباني قال: بلغ عمر أن رجلًا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري (1).
ومن طريق ابن (2) إسحاق: أن عبد الرحمن بن أبي نُعْم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون: لو رأى هذا أصحاب محمَّد لرجموه (3).
واحتجوا أيضًا بحديث أبي موسى رفعه: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم". وعقد بيده تسعين. أخرجه أحمد (4)، والنسائيُّ (5)، وابن خزيمة (6)، وابن حبَّان (7)، وحمله ابن خزيمة معنى ضيقت عليه أي: عنه فلم يدخلها (8).
وفي الطبراني عن أبي الوليد ما يومئ إلى ذلك (9).
ومن قاله بظاهره قال: يضيق عليه حصرًا له فيها لتشديده على نفسه ورغبته عن السنة واعتقاده أن غير السنة أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حرامًا، وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر، وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة فإنَّه يدخل فيه ما حرم صيامه كالعيدين،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(9649).
(2)
زيادة من (ل).
(3)
"تهذيب الآثار" للطبري (497).
(4)
"مسند أحمد" 4/ 414.
(5)
ذكره المزي في "تحفة الأشراف"(9011) للنسائي من رواية أبي الحسن بن حيويه.
(6)
"صحيح ابن خزيمة"(2154).
(7)
"صحيح ابن حبَّان"(3584).
(8)
"صحيح ابن خزيمة" 3/ 313.
(9)
"الأوسط" من حديث أبي موسى وشيخه فيه أبو مسلم الكشي.
وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، وروي عن عائشة.
وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت به حقّا، وإلى ذلك ذهب الجمهور.
وللجمع بين الأحاديث وزوال التعارض، قال السبكي: أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقّا ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب؟
ويتجه أن يقال: إن علم أنَّه يفوت حقّا واجبًا حرم، وإن علم أنَّه يفوت حقّا مندوبًا أولى من الصيام كره وإن كان يقوم مقامه فلا، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة (1).
(قال: يا رسول الله، كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا؟ ) في جميع الدهر (قال: أَو يُطيقُ ذلك أحد؟ ) الهمزة أصلها الاستفهام، وهي هنا للتوبيخ، وأما الواو التي بعدها، فقال الأخفش: هي زائدة (2). والصحيح أنها واو العطف مفتوحة على أصلها، والأصل تقديم هذِه الواو على همزة الاستفهام، والتقدير: وأيطيق ذلك أحد؟ وإنما قدمت الهمزة على الواو لأنَّ لها صدر الكلام، والزمخشري يذهب إلى أن ثَمَّ محذوفًا معطوفًا عليه مقدرًا بين الهمزة وحرف العطف (3).
(قال: يا رسول الله، فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: ذلك صوم داود عليه السلام)، وسيأتي عليه الكلام في الباب بعده. (قال: يا رسول الله
(1)(2152)، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر 4/ 222.
(2)
"معاني القرآن" 1/ 333، وفيه أنها للعطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
(3)
"الكشاف" 2/ 679.
فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: وددت) بكسر الدال الأولى (أني طُوِّقت) بضم الطاء وكسر الواو المشددة (ذلك) قال القاضي عياض: قيل: معناه: وددت أن أمتي تطوقه. أي: تقدر على الدوام عليه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيق ذلك وأكثر منه، وكان يواصل ويقول:"إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"، ويدل عليه ما جاء في رواية "ليت أن الله قوانا لذلك"(1)، أو يقال: إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين به والقاصدين إليه (2).
(ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث) مرفوع على الابتداء، وجاء الابتداء بالنكرة؛ لأنه وصف (3) بقوله (من كل شهر) خبره قوله فهذا صيام الدهر، والمراد بالثلاث أيام البيض كما سيأتي في بابه (ورمضان) بالرفع (إلى رمضان) يجوز تنوينه؛ لأنه في معنى النكرة، أي: صيام كل رمضان إلى رمضان كصيام الدهر، أي: صيام شهر رمضان يكفر ما بعده من (4) الشهور إلى رمضان الثاني.
(فهذا صِيامُ الدَّهْرِ) أي: كصيام الدهر (كله) لأنَّ ثلاثة من الشهر كصوم شهر ورمضان بغير تضعيف بشهر فيكمل صيام الدهر (وصيامُ عَرَفَةَ إِنّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ) أي: التكفير ليس على القطع، بل هو على الرجاء، والأمر فيه مرجوع إلى الله إن شاء كفَّر وإن شاء لم يكفِّر،
(1)"صحيح مسلم"(1162/ 197).
(2)
انظر: "شرح النووي على مسلم" 8/ 50.
(3)
في (ر): وقع.
(4)
في (ر): إلى.
لكن الصيام علامات على ظن التكفير. (أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ) صريح في تعيين السنتين الماضية والمستقبلة، وفي رواية مسلم:"يُكفر السنة الماضية والسنة الباقية"(1) وفي لفظ آخر: "السنة الماضية والتي تليها"(2).
وحمله بعضهم على سنتين ماضيتين، والأول أصح ويُكفر السنة بعده قيل: إذا ارتكب فيها معصية يكفرها الصوم السابق كما يكفر ما قبله، وقيل: بالعصمة عن ارتكاب ما يحتاج إلى كفارة، ثمَّ التكفير إنما يكون في الصغائر فإذا ارتكب كبيرة، ويستثنى من صيام عرفة الحاضر بعرفة كما سيأتي. (وَصَوْمُ يَوْمِ عاشُوراءَ) بالمد كتاسوعاء، وحكي عن أبي (3) عمرو الشيباني قصرهما.
قال ابن دريد: هما اسمان إسلاميان لا يعرفان في الجاهلية وليس من لغة العرب فاعولاء (4).
وحكى ابن الأعرابي أنَّه سمع خابوراء (5)، وعاشور لغة بوزن هارون.
(إِنّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ) ورواية ابن ماجه: "صيام عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده"(6).
(1)"صحيح مسلم"(1162).
(2)
"مسند أحمد" 5/ 296.
(3)
في (ر): ابن.
(4)
"الجمهرة" 2/ 727.
(5)
انظر: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض 2/ 102.
(6)
"سنن ابن ماجه"(1738).
[2426]
(حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مهدي، حدثنا غيلان، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة بهذا الحديث) و (زاد: قال: يا رسول الله، أرأيت صوم الاثنين والخميس؟ ) رواية مسلم: سئل عن صوم يوم الاثنين (1). (قال: ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزل عليَّ القرآن) زاد مسلم: "ويوم بعثت".
قال العلماء: اجتمع فيه سبعة أشياء: فيه ولد، وفيه بعث، وفيه نزل الوحي، وفيه توفاه الله، وفيه ليلة أسري به في قول بعض العلماء، وفيه دخل المدينة، وفيه أن الأعمال تعرض كما سيأتي، وهذا يدل على فضل هذا اليوم.
[2427]
(حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن) سعيد (ابن المسيّب وأبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (عن عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله عنهما (قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهارَ؟ ) زاد البخاري: "ما عشت"(2). وفي الصحيح: "ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي"(3).
قال القرطبي: إنما فعله بعد قوله: "لأقومن الليل ولأصومن النهار". فحكى بعض الرواة قوله وحكى بعضهم فعله (4).
(1)"صحيح مسلم"(1162).
(2)
"صحيح البخاري"(1976).
(3)
" صحيح البخاري"(1977)، "صحيح مسلم"(1159).
(4)
"المفهم" 3/ 224.
(قال: أَحْسِبُهُ قال: نعم يا رسول الله، قد قلتُ ذاك) وفي رواية لمسلم: فقلت: بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير (قال: قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ) رواية مسلم:"لا تفعلن"(1). فنهى عن استمرار الصيام والقيام الذي كان التزمه لأجل ما تؤدي إليه المفسدة التي نبه عليها بقوله: "فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك .. " الحديث (2).
(وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيّامٍ) زاد البخاري وغيره: "فإن الحسنة بعشر أمثالها"(3)(وَذاكَ مِثْلُ صِيامِ الدَّهْرِ) كله، لا تستلزم المثلية التساوي من كل وجه؛ لأنَّ المراد بها هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل بالفعل، لكن يصدق على فاعل ذلك أنَّه صام الدهر مجازًا (قال: قلت: يا رسول الله إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) في رواية مسلم: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله (4). (قال: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْميْنِ) أي: ليتقوى بفطر اليومين على صيام اليوم الثالث.
(قال: قلت: إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) أي: إني أقدر على صيام أكثر من ذلك (قال: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيامِ) أي: من جهة حفظ القوة ووجدان مشقة العبادة وإذا كان أعدل في نفسه فهو عند الله أفضل وأحب (وَهُوَ صِيامُ داوُدَ) عليه السلام إنما أحاله على صوم أخيه داود؛ لأنه كان أعبد الناس كما في رواية مسلم، قال الله
(1)"صحيح مسلم"(1159/ 186).
(2)
"صحيح مسلم"(1159/ 188)، "المفهم" للقرطبي 3/ 224.
(3)
"صحيح البخاري"(1976).
(4)
"صحيح مسلم"(1159/ 186).
تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (1) قال ابن عباس والمفسرون: يريد ذا القوة في العبادة وفي طاعة الله تعالى (2).
قال ابن (3) إسحاق: كانت قوة داود على العبادة أتم قوة، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وذلك من أشد الصوم، وكان يصلي نصف الليل (قلتُ: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) أي: في حقك، فيدخل فيه من هو في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقّا، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، فلو كان السرد ممتنعًا لبينه، وسيأتي أصرح من ذلك في باب صوم يوم وإفطار يوم:"أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود"(4). وفي رواية للترمذي: "أفضل الصيام صيام داود"(5).
(1) ص: 41.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 41، والبخاري معلقا بعد حديث (4807).
(3)
هكذا بالأصل، ولعله أبو إسحاق الزجاج؛ حيث نقل هذا الأثر عنه. انظر:"التفسير الوسيط" للواحدي 3/ 543، و"فتح القدير" للشوكاني 4/ 603.
(4)
سيأتي برقم (2448).
(5)
"سنن الترمذي"(770).