الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن م
ما ينبغي العناية به لمن أراد تلاوة القرآن وحفظه
أمور:
أولها: وجوب الإخلاص لله في العمل الذي يقدم عليه وألا يكون مراده به حظا من الدنيا قريب حقير فإن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1){أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2)، ويقول سبحانه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (3)، ويقول جل وعلا:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (4). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم
(1) سورة هود الآية 15
(2)
سورة هود الآية 16
(3)
سورة الشورى الآية 20
(4)
سورة الإسراء الآية 18
أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (1)». . . الحديث. عياذا بالله من حالة السوء.
ثانيا: ينبغي لمن أراد حفظ القرآن أن يكرره ويتعاهده حتى يتمكن من حفظه، والله تعالى إن علم من عبده الصدق يسر له طريق الحفظ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2).
ثالثا: من كان معه شيء من القرآن قد حفظه فليتعاهده بالتكرار والمراجعة حتى لا يضيع منه وليستعن على ذلك بالصلاة فإن من قام بحزبه من القرآن لم ينسه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت (3)» متفق عليه. وزاد مسلم في رواية: «وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه (4)» .
رابعا: مما يعين على حفظ القرآن مدارسته، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في كل سنة مرة، إلا عام قبض فقد عارضه القرآن مرتين، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في فضل مدارسة القرآن:«وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (5)» .
خامسا: ينبغي للمسلم ألا يغفل عن كتاب الله وليجعل له
(1) صحيح مسلم الإمارة (1905)، سنن الترمذي الزهد (2382)، سنن النسائي الجهاد (3137)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 322).
(2)
سورة القمر الآية 40
(3)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5031)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (789)، سنن النسائي الافتتاح (942)، سنن ابن ماجه الأدب (3783)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 36)، موطأ مالك النداء للصلاة (473).
(4)
صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (789).
(5)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، سنن الترمذي القراءات (2945)، سنن أبو داود الصلاة (1455)، سنن ابن ماجه المقدمة (225)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252)، سنن الدارمي المقدمة (344).
فيه ختمة، وقد كان السلف لهم عادات في ختم كتاب الله فمنهم من كان يختمه كل شهرين مرة، ومنهم من كان يختم كل شهر مرة، ومنهم من كان يختم كل عشر ليال، ومنهم من كان يختم في كل ثمان ليال، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، ومنهم من يختم في أقل من ذلك.
والأفضل أن يختم المسلم كل سبع؛ لفعل جمع من الصحابة حيث كانوا يحزبون القرآن إلى سبعة أحزاب، فعن أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده" رواه أبو داود. وحزب المفصل من سورة " ق " إلى آخر القرآن العظيم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اقرأ القرآن في شهر. قلت: إني أجد قوة (1)» . . . حتى قال: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك (2)» أخرجه البخاري.
وأما من قرأه في أقل من ذلك فالغالب أنه يهذه هذا ولا يفهم معاني ما يقرأ وهذا لا ينبغي من المسلم والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث (3)» أخرجه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح.
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5054)، صحيح مسلم الصيام (1159)، سنن الترمذي الصوم (770)، سنن النسائي الصيام (2393)، سنن أبو داود الصوم (2427)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1346)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 158)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3486).
(2)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5054)، صحيح مسلم الصيام (1159).
(3)
صحيح مسلم الصيام (1159)، سنن الترمذي القراءات (2946)، سنن أبو داود الصلاة (1394)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1347)، سنن الدارمي الصلاة (1493).
فالسنة ألا يختم في أقل من ثلاث.
والناس يختلفون في هذا فمنهم من هو كثير العلم دقيق الفهم سريع القراءة قليل الشغل فهذا يقرأ من القرآن أكثر ممن هو دونه في ذلك وهكذا قس.
وقد استحب جمع من السلف أن تكون الختمة إما أول الليل أو أول النهار؛ لأجل أن الملائكة تصلي على من ختم بالليل حتى يصبح ومن ختم بالنهار حتى يمسي روي ذلك موقوفا على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وحسنه الدارمي عنه.
سادسها: يجب على المسلم أن يسعى في تعلم ما يقرأ حتى يكون على بينة وفهم لما يتلوه، فيحصل له التدبر والخشوع إذ ليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة، كلا، فإن من هذه حاله كان شبيها بحال أهل الكتاب الذين قال الله عنهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (1) يعني يقرءون الكتاب ولا يعلمون ما فيه.
وقد أمر الله بتدبر كتابه وفهمه في غير موضع من كتابه، يقول الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2)، ويقول سبحانه:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3). وقد أنكر الله على من لم يتدبر كتابه فقال
(1) سورة البقرة الآية 78
(2)
سورة يوسف الآية 2
(3)
سورة ص الآية 29
سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1)، وقال أيضا:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (2). والنبي صلى الله غليه وسلم قد بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، يقول الله عز وجل:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) وهكذا التابعون أخذوا عن الصحابة فهذا مجاهد رحمه الله يقول: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري رحمه الله: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. والمقصود أن معاني كلام الله موجودة معلومة، وكثير منها مدون متداول ولله الحمد، وأعظم ما فسر به القرآن هو أن يفسر بالقرآن، فإنه من المعلوم أن هذا القرآن مثاني ومتشابه، يقول الله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (4)، والمعنى أن بعضه يشبه بعضا ويفسر بعضه بعضا، وأن القصص تثنى فيه فيكون في هذا الموضع ما يفسر الموضع الآخر وهكذا. وهذا ولله الحمد واضح فإنه ما فسر كلام الله بأوضح وأدل على المراد من كلام الله؛ إذ هو سبحانه المتكلم به وهو الأعلم بمراده. وهذا النوع من التفسير اعتنى به السلف كثيرا وهناك أمثلة كثيرة لذلك يطول عدها.
ثم بعد كلام الله يأتي تفسير القرآن بالسنة؛ إذ لا أعلم بمراد
(1) سورة محمد الآية 24
(2)
سورة المؤمنون الآية 68
(3)
سورة النحل الآية 44
(4)
سورة الزمر الآية 23
الله بعد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن وأمر ببيانه للناس.
ثم يأتي أقوال الصحابة؛ إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أئمة التابعين.
ومن ثم يؤخذ من أقوال المفسرين أقربها إلى ما في الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة، فإن كان وإلا فأقربها إلى مقتضى اللغة العربية؛ إذ هي لغة القرآن.
ومن المفسرين من يسلك مسلك الاجتهاد والاستنباط فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر اجتهاده إذا كان عن علم.
وينبغي التنبيه هنا أن المسلم يحذر من أن يقول في كلام الله بغير علم، فلا يقل هذه، الآية تفسيرها كذا، وهو لا يعلم تفسيرها، فإن هذا إثم عظيم وقول على الله بلا علم، وقد حرمه الله في كتابه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1). ثم إن تعلم هذا القرآن وتعليمه فرض كفاية على الأمة؛ إبقاء لعلم الكتاب فيها، ومن انتصب لهذا الأمر فهو خير هذه الأمة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2)» أخرجه البخاري عن عثمان رضي الله عنه، وفي رواية «خيركم أو أفضلكم (3)» . . . الحديث.
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5027)، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907)، سنن أبو داود الصلاة (1452)، سنن ابن ماجه المقدمة (211)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 69)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338).
(3)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5027)، سنن الترمذي فضائل القرآن (2908)، سنن أبو داود الصلاة (1452)، سنن ابن ماجه المقدمة (211)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 69)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338).
سابعها: يجب على من علم القرآن أن يعمل به؛ إذ هذا هو ثمرة العلم وهو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل وإلا فعلم بلا عمل لا ينفع صاحبه بل يضره. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وقد قص الله علينا خبر الذي علم شيئا من آيات الله ولم يعمل بها، ومثل له بأقبح مثال وأشنعه؛ تنفيرا من فعله وبيانا لقبحه، يقول سبحانه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1){وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2). وقال سبحانه عن اليهود: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3). وأثنى على طائفة من أهل الكتاب؛ لأنها عملت بكتابها، يقول الله:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (4)، أي يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه كما قال ابن عباس رضي الله
(1) سورة الأعراف الآية 175
(2)
سورة الأعراف الآية 176
(3)
سورة الجمعة الآية 5
(4)
سورة البقرة الآية 121
عنهما: "ومن لم يعمل بالقرآن من هذه الأمة فإن القرآن قد يكون حجة عليه". وقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن عبادة أقوام وكثرة صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم ومع ذلك آلوا إلى أسوأ حال. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق (1)» أخرجه البخاري.
وكان دأب السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم الحرص على العمل بما علموا من القرآن أكثر من الحرص على حفظه بغير عمل به، يقول أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن- كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، يقول أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا، وجاء عند مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها.
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5058)، صحيح مسلم الزكاة (1064)، سنن النسائي الزكاة (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 60).
وهكذا فإنا نرى أولئك القوم الأفاضل همتهم منصرفة لتدبرمعاني الكتاب والعمل به دون مجرد حفظ ألفاظه.
ثامنها: أن يحذر المسلم من هجران القرآن، يقول الله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنواعا لهجر القرآن منها.
هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (2) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله (3).
(1) سورة الفرقان الآية 30
(2)
سورة الفرقان الآية 30
(3)
الفوائد ص82
هذا ويشرع لقارئ القرآن آداب وأمور يمتثلها وهي:
أولا: أن يكون حال قراءته كتاب الله على أكمل حال، متطهرا متنظفا احتراما لهذا الكتاب العزيز، والتطهر حال القراءة مستحب، ولا بأس بقراءة القرآن للمحدث؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قام مرة من نومه فغسل وجهه وتلا عشر آيات من آخر آل عمران ولم يتوضأ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في قوم وهم يقرءون القرآن فذهب لحاجته، ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا؟ أمسيلمة؟! أخرجه مالك في موطئه، قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا، وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم، وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح. اهـ (1).
وقد نقل الإجماع على جواز قراءة المحدث للقرآن النووي وابن تيمية رحمهما الله.
أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن حتى يغتسل؛ لحديث علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء إلا الجنابة (2)» . وأحاديث هذا الباب يشد بعضها بعضا، وبهذا قال أكثر الفقهاء حتى إن ابن عبد البر رحمه الله قال:" وقد شذ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب " اهـ.
أما الحائض فالصحيح أنه يجوز لها قراءة القرآن حال حيضها؛ لأنه لم يثبت في منعها من قراءته حال حيضها حديث،
(1) الاستذكار 8/ 14
(2)
سنن الترمذي الطهارة (146)، سنن النسائي الطهارة (265)، سنن أبو داود الطهارة (229)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 124).
وأما قياسها على الجنب فلا يصح؛ لأن حدث الحائض يطول في الغالب ويخشى من نسيانها القرآن، أما حدث الجنب فلا يطول ومتى شاء رفعه بالاغتسال.
أما مس المصحف فالصحيح أنه لا يمسه إلا طاهر من الحدثين الأكبر والأصغر؛ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1)، ولأن في كتاب عمرو بن حزم:"وأن لا يمس القرآن إلا طاهر" قال ابن عبد البر رحمه الله: "وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل" ثم قال: "وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر "(2) اهـ.
الثاني: إذا أراد الشروع في القراءة استحب له أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3)، وصفتها أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان بعض السلف يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وكلاهما صحيح.
الثالث: ينبغي للقارئ أن يبسمل في بداية كل سورة ما عدا براءة؛ لأن الصحيح أن البسملة آية من القرآن جيء بها
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2)
الاستذكار 8/ 10
(3)
سورة النحل الآية 98
للفصل بين السور، وقد أثبتها الصحابة رضي الله عنهم في المصاحف في أوائل السور ما عدا براءة.
الرابع: ينبغي لقارئ القرآن أن يترسل في قراءته ويرتلها ويتدبره وألا يهذها هذا، يقول الله سبحانه وتعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (1).
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (2)، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرق منه فأنزل الله، الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: (7)» ، قال: إن علينا أن نبينه بلسانك، قال: وكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
وفي البخاري أيضا «أن رجلا قال لابن مسعود: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذا كهذ الشعر، إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم (8)» . وجاء في بعض الروايات أن الرجل قرأ المفصل في ركعة. وفي رواية لأبي
(1) سورة الإسراء الآية 106
(2)
سورة القيامة الآية 16
(3)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4929)، صحيح مسلم الصلاة (448)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3329)، سنن النسائي الافتتاح (935)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 343).
(4)
سورة القيامة الآية 16 (3){لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(5)
سورة القيامة الآية 17 (4){إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
(6)
سورة القيامة الآية 18 (5){فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
(7)
سورة القيامة الآية 19 (6){ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(8)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5043).
داود سرد فيها السور النظائر فقال: «كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والذاريات والطور في ركعة، والواقعة ونون في ركعة، وسأل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة (1)» . والسنة في قراءة القرآن أن يمدها مدا، ففي الصحيح أن أنسا رضي الله عنه «سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مدا (2)». وفي لفظ ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم.
الخامس: يستحب لقارئ القرآن أن يحسن صوته بكتاب الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنى بالقرآن (3)» . أخرجه البخاري. وفي حديث أبي هريرة في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن (4)» . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «"يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (5)» وذلك لما سمع حسن صوته بالقراءة.
السادس: يستحب البكاء عند قراءة القرآن، يقول الله مثنيا على من هذه صفته:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (6)،
(1) سنن أبو داود الصلاة (1396).
(2)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5045)، سنن النسائي الافتتاح (1014)، سنن أبو داود الصلاة (1465)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1353)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 119).
(3)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5024)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (792)، سنن النسائي الافتتاح (1017)، سنن أبو داود الصلاة (1473)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 285)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3497).
(4)
صحيح البخاري التوحيد (7527).
(5)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5048)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (793)، سنن الترمذي المناقب (3855).
(6)
سورة الإسراء الآية 109
وقال في صفة أنبيائه عليهم السلام: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1).
وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود رضي الله عنه: «اقرأ علي. قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت النساء حتى بلغت. . قال لي. كف، أو أمسك. فرأيت عينيه تذرفان (3)» وأخرج الإمام أحمد وغيره عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (4)» .
وفي البخاري أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان في مرضه وأمر أن يخلفه أبو بكر في الصلاة بالناس: «إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس (5)» وفي لفظ: «لم يسمع الناس من البكاء (6)» . وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف. وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.
ولهذا قال النووي رحمه الله في البكاء حال القراءة: " وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين" اهـ.
(1) سورة مريم الآية 58
(2)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5055)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3024)، سنن أبو داود العلم (3668)، سنن ابن ماجه الزهد (4194)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 380).
(3)
سورة النساء الآية 41 (2){فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(4)
سنن النسائي السهو (1214)، سنن أبو داود الصلاة (904)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 25).
(5)
صحيح البخاري الأذان (678)، صحيح مسلم الصلاة (420)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 413).
(6)
صحيح البخاري الأذان (679)، سنن الترمذي المناقب (3672)، موطأ مالك النداء للصلاة (414).
وينبغي أن يعلم أن البكاء والتباكي المحمود ما كان ناشئا عن تدبر لكتاب الله أورث في القلب الخشية والحزن وهذا يدل على كمال في إيمان العبد، يقول الله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1).
وليحذر المسلم أن يتصنع البكاء رياء وسمعة أو لحاجة في نفسه فإن هذا من أعظم الخطر ومداخل الشيطان على العبد. السابع. يستحب لقارئ القرآن في غير الفريضة إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله وإن مر بآية عذاب استعاذ بالله من عذابه، فعن حذيفة رضي الله عنه قال:«صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، ثم افتتح النساء فقرأها، فقلت: يركع بهما، ثم افتتح آل عمران فقرأ، يقرأ مترسلا؛ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ (2)» أخرجه مسلم.
الثامن: ينبغي للمسلم أن يتعاهد حفظه، فإن نسي شيئا منه فلا يقل. إني نسيت، ولكن ليقل. إني أنسيت أو نسيت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل نسي (3)» أخرجه البخاري.
وإنما نهي عن قوله: "نسيت" لأنه مشعر بالتساهل
(1) سورة الزمر الآية 23
(2)
صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (772)، سنن النسائي التطبيق (1133)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 398).
(3)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5032)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (790)، سنن الترمذي القراءات (2942)، سنن النسائي الافتتاح (943)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 417)، سنن الدارمي الرقاق (2745).
والتهاون في أمر القرآن، والأصل أن المسلم حريص كل الحرص على كتاب ربه.
التاسع: لا بأس بقراءة القرآن في أحوال الإنسان ماشيا أو راكبا أو مضطجعا، فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع (1)» أخرجه البخاري.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن (2)» .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها تقرأ حزبها وهي مضطجعة على السرير.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إني أقرأ القرآن في صلاتي وأقرأ على فراشي".
العاشر: الواجب على المسلمين الائتلاف على القرآن حال قراءته والحذر من المنازعة والافتراق، ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه (3)» وهذا لئلا يقع النزاع والخلاف ومن ثم الافتراق.
الحادي عشر: مما يتأكد العناية به سجود التلاوة، والجمهور على استحبابه؛ لورود الأمر به، وقالوا: مستحب؛
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5047)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (794)، سنن أبو داود الصلاة (1467).
(2)
صحيح البخاري الحيض (297)، صحيح مسلم الحيض (301)، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (381)، سنن أبو داود الطهارة (260)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (634)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 204).
(3)
صحيح البخاري فضائل القرآن (5060)، صحيح مسلم العلم (2667)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 313)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3361).
لأن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر. أخرجه البخاري. ويشرع هذا السجود للقارئ والمستمع.
ثم إن المشروع أن يكون حامل القرآن على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه؛ إجلالا لكتاب الله، وأن يكون مصونا عن دنيء المكاسب مترفعا عن سفاسف الأمور، متواضعا لعباد الله، وبالجملة يكون خلقه القرآن كما كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها.
ومن الكلام الجامع الذي ينبغي أن يمتثله حامل كتاب الله ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
ينبغي لحامل القرآن أن يتعاهد قلبه ولسانه وجوارحه؛ فلا يعتقد إلا الحق بدليله ولا ينطق إلا بصدق وخير ولا يعمل إلا خيرا، وليحرص كل الحرص على دفع الباطل عن نفسه من اعتقاد أو قول أو عمل، وأن يكف شره وأذاه عن الناس.
ثم ليعلم كل مسلم أن قراءة القرآن تارة تكون واجبة، كالقراءة في الصلاة فإنها واجبة بالإجماع، وإنما اختلف العلماء في هل الواجب الفاتحة بعينها أو يكفي غيرها من القرآن ويجزئ؟ والصحيح الأول. وتارة تكون مستحبة وهي ما زاد على القدر الواجب في الصلاة، وكذلك تلاوة القرآن في سائر الأوقات. وتارة تكون مكروهة كإذا كانت جهرية تشوش على التالين أو المصلين أو تزعج النائمين.
وتارة تكون محرمة كمن يقصد بها الرياء والسمعة، أو يفعلها في مواطن البدع؛ لأن في ذلك إعانة على الباطل، ومن العلماء من حرم تمطيط القراءة بحيث يخل باللفظ، وكذلك الألحان المطربة كألحان الغناء؛ صيانة لكتاب الله وتنزيها له.
هذا وإن من البدع ما يحصل في المآتم التي يقرأ فيها القرآن عند العزاء واجتماع الناس، وكذلك الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائه للأموات ونحو ذلك مما فشى في الناس؛ لقلة العلم وغلبة الجهل، وقلة من ينكر ويبين للناس دينهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يجب التنبيه عليه أن يعلم جميع المسلمين أفرادا وحكاما أن كتاب الله إنما أنزل ليعمل به ويحكم ويتحاكم إليه، فهو مصدرنا في التشريع وإليه مرجعنا في الحكم والعمل.
هذا ما يسر الله رقمه في هذه المقدمة، وما هذه إلا كلمات يسيرة، وإلا فحق كتاب الله أعظم، وقدره أجل من أن تحيط به
الكلمات، أو تؤدي حقه العبارات، وإنما هي تنبيهات أردت بها النفع لي ولإخواني المسلمين، وأسأل الله العلي القدير بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا التأويل، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اجعلنا ممن عمل بمحكمه وآمن بمتشابهه، اللهم اجعله حجة لنا لا علينا واجعله شاهدا لنا ودليلنا وسائقنا إلى جناتك جنات النعيم، اللهم ارفع لنا به الدرجات وحط عنا به الخطايا والسيئات وشفعه فينا يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.