الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: استفادة النهي عن فعل بوصف ظرف بنقيضه:
إذا ورد في الشرع بأن الزمان متصف بوصف يناقض فعلا ما؛ فهل يعتبر ذلك دليلا على أن هذا الفعل منهي عن إيقاعه في ذلك الزمان؛ لأن الزمان متصف بنقيض ذلك الفعل؟
ظاهر تصرف ابن ماجه أنه نهي عنه وذلك أنه قرر (النهي عن صيام أيام التشريق)(1)؛ استدلالا «بوصف النبي صلى الله عليه وسلم أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب (2)» .
ولم أجد لذلك شاهدا في السنن إلا هذا الموطن، إلا أن استفادة النهي من ذلك متقررة عند العلماء مما يجعل المرء يغلب موافقة ابن ماجه لهم في ذلك.
(1) سنن ابن ماجه ص 548 كتاب الصيام باب رقم 35.
(2)
ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 1719، وابن حبان 3601، وابن أبي شيبة 4/ 21، والطبري في تفسيره 3914، والطحاوي 2/ 244، والدارقطني 4/ 283، وأحمد 2/ 229، 7134، وأبو يعلى 6023. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد ورد هذا المعنى من طريق عشرين صحابيا، انظر في: المطالب العالية 6/ 181.
الخاتمة:
الحمد لله، وبعد: فمن خلال هذه الدراسة يظهر لنا عمق
الجوانب الأصولية لدى الإمام ابن ماجه رحمه الله، وقد اقتصرت هنا على تراجم الإمام ابن ماجه التي وجد الحكم فيها صريحا من غير نسبة لقائل، سواء كانت متعلقة بالقواعد الأصولية مباشرة أو فيها حكم فقهي مبني على دليل شرعي، فيتم إبراز القاعدة التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
هذه خلاصة البحث، أما عن نتائجه، فقد تم استعراضها في ذات البحث لكن من أهمها ما يأتي:
1 -
هذه الدراسة تبين لنا أنواع تراجم الإمام ابن ماجه بالنسبة لعلاقتها بالأحكام الشرعية والقواعد الأصولية.
2 -
أن القواعد الأصولية كانت محل عناية العلماء في أوائل مراحل التدوين، مما يدل على أنها كانت تحت أنظار العلماء السابقين للتدوين في زمن الصحابة والتابعين، بل هي موجودة في زمن التشريع؛ لأن كثيرا من القواعد مبنية على أدلة شرعية.
3 -
أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الكراهة) وأراد به التحريم حسب الاصطلاح الأصولي.
4 -
أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الرخصة) مريدا به استثناء بعض الصور من التحريم مع وجود علة التحريم فيها لدليل خاص كما هو منهج الأصوليين، وأطلق أيضا لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في المسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة، وأطلق أيضا لفظ (الرخصة) على الوضوء من سؤر
الهرة، فهذا يحتمل أنه يريد به نفس الإطلاق الأول؛ لمماثلة سؤرها لسؤر الكلب، ويحتمل أن يريد به إطلاق لفظ الرخصة على ما فيه توسعة، والأصوليون لا يطلقون على ذلك رخصة إلا من باب التجوز.
5 -
قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه عدم القول بحجية القياس، وبتمحيص النظر ظهر لي أنه يرى حجيته، والعبارات عنه في ذم القياس إنما هي في ذم المتكلف منه مما هو مقابل للنص.
6 -
ظاهر عبارة ابن ماجه تدل على أنه يرى جواز تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة وهو قول لبعض الأصوليين، لكن الباحث رجح خلاف هذا القول.
7 -
يرى ابن ماجه أن المندوب مأمور به حقيقة كما هو رأي الجمهور.
8 -
قد يفهم من كلام ابن ماجه أن النهي إنما يفيد الكراهة، لكن حقيقة مذهبه أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم بحسب الاصطلاح الأصولي.
9 -
يرى ابن ماجه أن صيغة (لا تفعل) دالة على النهي إذا تجردت عن القرائن كما هو رأي الجمهور.
10 -
يرى ابن ماجه أن الفعل يعتبر محرما منهيا عنه إذا رتب الشارع العقوبة على فعله.
وهذه النتائج تظهر بعض منزلة الإمام ابن ماجه العلمية في
القواعد الأصولية. وهذا يدعوني إلى أن أوصي بالاهتمام بكتب الأحاديث النبوية وخصوصا الكتب المسندة التي اهتم أصحابها بكتابة عناوين لأبوابها؛ لأن ذلك يفيدنا في معرفة المراحل الأولى لتدوين القواعد الأصولية، ويفيدنا في تعرف التطور التاريخي لهذا العلم سواء في مصطلحاته أو في الآراء فيه، كما يفيدنا في إظهار أدلة أخرى للقواعد الأصولية لم يذكرها الأصوليون، ويفيدنا في تعرف بعض التطبيقات للقواعد الأصولية.
ولا يعني ذلك إغفال غيرها من الكتب كالشروح أو الكتب المؤلفة في ترتيب المدونات الحديثية، فإن لها مشاركة قوية في ذلك.
هذا وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية للرجوع إلى المصادر الأصلية في مسائلنا العلمية. وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
صفحة فارغة
حكم الجناية على الجنين (الإجهاض)
دراسة فقهية مقارنة
للدكتور عبد الله بن عبد العزيز العجلان
تقديم:
الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، سبحانه لم يترك أحدا من خلقه سدى، كيف وهو الذي لم يخلقهم عبثا، وأشهد أن لا إله إلا الله لا يظلم أحدا، وحرم الظلم أبدا، وكل نفس بما كسبت رهينة.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، أرسله الله عز وجل بالحق ودين الهدى ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فخلص البشرية من أرجاس الجاهلية، وأبطل البغي الذي أتى على الأخضر واليابس ولم ينج الصبيان والأطفال، فلم يشفع لهم ضعفهم لدى قلوب قست فصارت كالحجارة أو أشد قسوة {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1){بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2). .
صلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي الطاهر الزكي، وعلى آله وأصحابه ومتبعيه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
(1) سورة التكوير الآية 8
(2)
سورة التكوير الآية 9
فقد استعرت المناقشات، واحتدم الجدل في كثير من المجالس والمنتديات والمنازل وعيادات الأطباء حول حكم الإجهاض، ومدى أحقية المرأة أو الزوجين في الإقدام عليه، وذلك نتيجة لعوامل دخيلة على مجتمعنا المسلم ألحقت التغيير الواضح بكثير من عاداته وسلوكياته التي كان منشؤها ديننا الحنيف. فخروج النساء إلى مواقع العمل ومزاحمتهن للرجال في موارد الأرزاق لدرجة أن الكثير منهن زهدن في البنين والبنات، لما يستتبعه وجود الأولاد من لزوم المنازل وتعطل بعض الرواتب المالية، وربما فقدن الوظيفة التي اشرأبت إليها أعناقهن طويلا ولهثن وراءها كثيرا ولم ينلنها إلا بشق الأنفس.
وتحديد النسل ووأد الأجنة فلسفات اقتصادية جائرة، لكنها وجدت في زماننا من يتولى كبرها، ويبث شرها، ويملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا بآثارها الموهومة ونتائجها المزعومة. سوء الأخلاق وانعدام القيم والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء. كما أثمر كثيرا من البهتان الذي يفترى بين الأيدي والأرجل. وضعف الإيمان بقضية الرزق المقدور، وعطاء الخلاق العليم، وانعدام الثقة في قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1)، وعدم النظر في أن البارئ العظيم خلق لكل نسمة فما واحدا يأكل، لكنه حباها ساعدين اثنين يعملان وينتجان، فكان رزق المجتهد الموفق دائما فائضا عن حاجته
(1) سورة هود الآية 6
بفضل الله ورحمته. وكانت الطامة الكبرى عدم الاكتفاء بالعزل، رغم تعدد صوره وتيسير الحصول عليه لكل طالب، بل وفرضها على كثير من الراغبين عنها والزاهدين فيها، فامتدت اليد الآثمة لتبتر ثمرة إنسانية قبل نضجها، وتحرم البشرية من جناها المنتظر وفلذة كبدها التي لا غنى لها عنها.
وابن الإسلام يدرك كيف وجه دينه الحنيف عنايته التامة إلى الأجنة في الأرحام بل في الأصلاب والترائب. فقد أمر الإسلام أتباعه بالسمو بعلاقاتهم الزوجية عن البهيمية والحيوانية، فأوجب حافظ الفروج وإحصانها فلا تتاح ولا تباح ولا تستباح إلا بحقها وحلها، وحرم تعدي الحدود في هذا المضمار ولو لم يترتب عليه أثر ولا ضرر قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1){إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2){فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3). .
فالزنا واللواط والاستمناء- أي العادة السرية- والمساحقة كل تلك من الجنايات، ولو صين الماء المهدر فيها ودفق في الأرحام الطاهرة لكانت منه الأجنة الطيبة والسلالات الزكية المخلصة. والأرحام هي التربة الصالحة لهذا الحرث، فأوجب الله على الناس العفاف الذي يضمن صيانتها بل وجعل لها حرما تبعد - مع مراعاة حدوده - التدنس بالفاحشة أو الوقوع في الرذيلة، وذلك بحفظ الأبصار والأسماع والألسنة والأعراض والخلوة، مع قطع
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2)
سورة المؤمنون الآية 6
(3)
سورة المؤمنون الآية 7
سبيل الشيطان في التنكر تحت ستار القرابة، أو الترفع من الشبهة «فالحمو الموت (1)» . والرجل مسئول عن حسن اختياره أما لولده ومعدنا لغرسه فإن العرق دساس.
وإذا طلب الزواج فمن أجل العفاف والذرية الصالحة التي تباهي بها الأمم، وإذا أفضى إلى امرأته سأل الله حفظ النطفة من أن يمسها الشيطان، فإن صارت النطفة علقة لها من المسؤوليات ما يكفل لها حقوقها، فالجنين وشيجة بين الأم والأب، يتراحمان من أجله وتذوب المشكلات وتذلل العقبات ويجعل للأسرة كيانا يحرص عليه ورونقا تقر له عين المحب.
وإذا تفاقمت المشكلات وتراكمت المعضلات وحل بالأسرة الدمار ضمن للجنين حقه بل اكتسب الوالدان من أجله حقوقا يفقدانها بدونه فهل تستوي الحامل وغير الحامل؟
والذي راعني أن حق الجنين في الحياة مسلمة بدهية تضافرت عليه الأدلة الشرعية والفطرة الإنسانية، ومع ذلك لم يسلم من تطاول ذوي الألسنة الحداد، والقلوب القاسية الشداد. فقمت أجمع في هذه العجالة حكم الجناية على الجنين، والآثار المترتبة على ذلك العمل المشين. ورتبته على تقديم، وتمهيد، ومقصدين، وخاتمة. ولا أدعي أنني أتيت بما لما تأت به الأوائل، بل غاية المسعى أنني كشفت اللثام عن أقوال الفقهاء في كل مسألة، وسقت حججهم وأدلتهم، مع بيان وجه الدلالة فيها على المدعي، ثم المناقشة والترجيح حسب القواعد والضوابط المعمول بها عند أرباب الشأن في هذا المضمار.
(1) صحيح البخاري النكاح (5232)، صحيح مسلم السلام (2172)، سنن الترمذي الرضاع (1171)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 149)، سنن الدارمي الاستئذان (2642).