الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد حدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هي في الطريق فزعت، فضربها الطلق فدخلت دارا، فألقت ولدها، فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم عليه أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل عليه عمر رضي الله عنه فقال: ما تقول يا أبا الحسن، فقال. إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى إن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها بسببك. قال: فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش (1).
وقد يقع الفعل المكون للجناية من الأم أو الأب أو من أجنبي، وأيا كان الجاني فهو مسئول عن جنايته.
(1) المصنف لعبد الرزاق 9/ 458، طبعة المجلس العلمي سنة 1390 هـ
المبحث الثاني: حكم إجهاض الحمل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجهاض حمل النكاح
(أي الشرعي):
وقبل أن أتحدث عن حكم إجهاض الحمل أبين معنى الإجهاض، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الإجهاض في اللغة: هو إلقاء الولد قبل تمام مدته، يقال: أجهضت الناقة إجهاضا فهي مجهض، أي ألقت ولدها لغير تمام، وأجهضت الناقة والمرأة ولدها أسقطته ناقص الخلقة. وقيل
الجهيض: هو السقط الذي تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش. وقد يكون أجهض بمعنى أعجل، يقال: أجهضه عن الأمر إذا أعجله عنه، وأجهضت الناقة أسقطت، وجاء في المعجم الوسيط: إن الإجهاض هو إسقاط المرأة جنينها بفعل منها عن طريق دواء أو غيره أو بفعل من غيرها (1).
والإجهاض عند الفقهاء يطلق على الإسقاط والإلقاء والطرح والإنزال، وإنما يغلب في عبارتهم إيراد لفظ إسقاط بدل إجهاض، غير أن الشافعية يطلقون لفظ إجهاض.
وللحمل في هذا المقام طوران:
الطور الأول: ويبدأ منذ اختلاط النطفة بماء المرأة واستقرارها في الرحم حتى يتم لها أربعة أشهر.
الطور الثاني: بعد تمام أربعة أشهر، فإن الروح تنفخ فيه بعد مائة وعشرين يوما كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة التي سبق بعضها وسنورد بعضها الآخر إن شاء الله فيما يأتي.
وقد اتفق العلماء على تحريم الإجهاض على هذا الطور، وذلك لأن الحياة دائرة مع وجود الروح والبدن، فمتى قامت الروح بالبدن سمي حيا، ومتى فارقته صار ميتا، ولذا قيل إن الجنين له حياة من وجه دون وجه (2).
(1) لسان العرب مادة جهض، المعجم الوسيط 149، طبعة مكتبة الصحوة.
(2)
حاشية ابن عابدين 2/ 411، مطالب أولي النهى 1/ 269، طبعة المكتبة السلفية
وأما الطور الأول: وهو ما قبل نفخ الروح، أي قبل تمام أربعة أشهر. فقد اختلف الفقهاء في حكم إسقاط الجنين في هذا الوقت على مذهبين:
1 -
فذهب المالكية. وبعض الحنابلة وبعض الحنفية والشافعية في المذهب وابن تيمية والظاهرية إلى
أن إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه حرام لا يجوز.
2 -
وذهب الحنابلة وجمهور الحنفية والشافعية في مقابل
المذهب إلى أنه يباح الإسقاط بعد الحمل ما لم يتخلق من الولد شيء، أي: في مرحلته الأولى، وهي تشمل النطفة والعلقة والمضغة.
الأدلة:
استدل القائلون بحرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه بما يأتي:
1 -
ما رواه البخاري ومسلم بسنديهما إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح. فوالله إن أحدكم - أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (1)» .
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/ 477، صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 190.
2 -
«عن مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم (2)». ".
وجه الدلالة في هذين الحديثين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر عن النطفة في الحديث الأول بقوله: " أحدكم " بل إن الضمير في قوله: " فينفخ فيه الروح " عائد إلى الآدمي قبل نفخ الروح، فهذا شاهد لما قال به الأطباء في العصر الحديث من: أن الحمل تسري فيه الحياة من أول يوم، وفي الحديث الثاني بين أن النطفة تتكون من أول
(1) فتح الباري، 11/ 480، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/ 57، دار الريان للتراث. والآية من سورة الانفطار، الآية 8
(2)
سورة الانفطار الآية 8 (1){فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}
لحظة وتنمو فلا يجوز التعرض لها وإسقاطها.
3 -
أن المضغة والعلقة أصل الجنين، فلا يجوز الاعتداء عليها كما لا يجوز للمحرم كسر بيض الصيد في الحرم، فإن فعل ذلك ضمنه، لأنه أصل الصيد، وإيجاب الجزاء أو الضمان يستلزم الإثم وما فيه إثم لا يجوز إسقاطه (1).
4 -
أن امتزاج ماء المرأة بماء الرجل بمثابة الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، والرجوع عن هذا العقد يعد فسخا وقطعا ورفعا، وإلغاء العقود بدون اتفاق الأطراف المعنية به لا يجوز، والسقط أحد هذه الأطراف مما يتعذر أخذ رأيه في ذلك فيكون حكم الإسقاط محرما (2).
5 -
إن الإسقاط يشبه الوأد لاشتراكهما في القتل، إذ الإسقاط فيه قتل نبت تهيأ ليكون إنسانا، والوأد محرم، فيكون الإسقاط محرما (3).
واستدل القائلون بعدم حرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه بما يأتي:
1 -
أن الحمل قبل نفخ الروح فيه لا يكون إلا مضغة أو علقة،
(1) تكملة فتح القدير 10/ 300.
(2)
إحياء علوم الدين 2/ 51.
(3)
مواهب الجليل للحطاب 3/ 477.
فهو في كل ذلك بعض أمه ولم يستقل بحياة، فليس إجهاضه قتلا لنفس فلا يأثم بإسقاطه (1).
2 -
أن كل ما لم تحله الروح لا يبعث يوم القيامة، ومن ثم لا اعتبار لوجوده، ومن هو كذلك فلا حرمة في إسقاطه (2).
3 -
أن الجنين في هذه الحالة لم يتخلق، وما لم يتخلق فليس بآدمي، وإذا لم يكن آدميا فلا حرمة له، وعليه يجوز إسقاطه (3).
ويناقش هذا:
بأن الاعتداء على الجنين في هذه الحالة هو إيقاف له عن نموه بغير حق، والاعتداء بغير حق محرم فيأثم فاعله، فلو تركت العلقة والمضغة لصارت آدميا، وبالتالي ينفخ فيه الروح ويتحقق له البعث يوم القيامة. فجميع أطوار الجنين فيها حياة محترمة، كما أن هذا الفعل هو تغيير لخلق الله ومعارضة لمشيئته سبحانه وتعالى وهو من عمل الشيطان الذي قال:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (4). .
الرأي المختار:
وبعد: فإن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من حرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه هو المختار، ومن باب أولى
(1) تكملة المحلى لأبي رافع بن حزم 11/ 31.
(2)
الفروع لابن مفلح 1/ 281.
(3)
حاشية ابن عابدين 1/ 302.
(4)
سورة النساء الآية 119
بعد نفخ الروح فيه لما ذكروه من أدلة. وعليه فلا يجوز الاعتداء على الحمل لأي سبب من الأسباب التي يراها بعض أهل الأهواء في عصرنا مبيحة للإجهاض، وهي في الواقع أوهى من بيوت العنكبوت. فليس كثرة الأولاد أو قلة الدخل أو توقع الأمراض أو توقع تشوه المولود وما إلى ذلك مبيحا لإسقاط الحمل مع أن كل معضلة مالية أو اجتماعية أو طبيعية لا يعجز الله عز وجل عن كشفها وإزالتها كي تطمئن القلوب والنفوس.
فبين سبحانه وتعالى أن لكل نفس رزقها المستقل، فقال عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1). .
ويتكفل برزق كل حي، فقال عز وجل:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2)، حتى عديمة الحيلة وفاقدة القدرة على التصرف لم يكلها بارئها إلى عجزها فقال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3). .
كما أنه لا دافع للعلل ولا رافع للبلاء إلا خالق الأحياء ومقدر الأقوات وهو الرحمن الرحيم {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4). .
(1) سورة الإسراء الآية 31
(2)
سورة هود الآية 6
(3)
سورة العنكبوت الآية 60
(4)
سورة الأنعام الآية 17